Skip to Content
الجمعة 19 رمضان 1445 هـ الموافق لـ 29 مارس 2024 م

القول المصون
في انتفاع المرتهن بالمرهون

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

أوَّلًا: نصُّ الحديث:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: «الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ»، رواهُ البخاريُّ(١).

ثانيًا: ترجمة راوي الحديث:

هو الصحابيُّ الجليل الحافظ المُكْثِرُ أبو هريرة رضي الله عنه، المعروفُ بكنيته، اخْتُلِفَ في اسْمِه على نحوِ ثلاثين قولًا، وأَشْهَرُها: عبد الرحمن بنُ صخرٍ الدَّوْسيُّ، مِن دَوْسِ بنِ عدنانَ بنِ عبد الله بنِ زهران، مِن اليمن، أَسْلَمَ عامَ خَيْبَرَ سنةَ سبعٍ مِن الهجرة، وقَدِمَ المدينةَ مُهاجِرًا وسَكَنَ الصُّفَّة، وكان قد شَهِدَ خَيْبَرَ مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ثمَّ لَزِمَه ووَاظَبَ عليه رغبةً في العلم، ويقول أبو هريرة رضي الله عنه مُحدِّثًا عن نَفْسِه: «لقد رأيتُني أُصْرَعُ بين منبرِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وحُجْرةِ عائشة، فيقال: مجنونٌ، وما بي جُنونٌ، وما بي إلَّا الجوعُ».

وقد كان رضي الله عنه أَكْثَرَ الصحابةِ روايةً وأوَّلَهم على الإطلاق، وله في كُتُبِ الحديث أربعةٌ وسبعون وثلاثُمائةٍ وخمسةُ آلافِ حديثٍ (٥٣٧٤)(٢)، وله فضائلُ ومَناقِبُ.

وقد استعمله عُمَرُ بنُ الخطَّاب رضي الله عنه على البحرين ثمَّ عَزَلَه، ثمَّ أرادَهُ على العمل فامتنع، وسَكَنَ المدينةَ ووَلِيَ إمرتَها ونابَ عن مروان في إمرتها، وبها كانَتْ وفاتُه سنةَ سبعٍ وخمسين مِن الهجرة (٥٧ﻫ)، وقيل: مات بالعقيق وحُمِلَ إلى المدينة، وصلَّى عليه الوليدُ بنُ عتبة بنِ أبي سفيان، وكان أميرًا على المدينة لعمِّه مُعاوية بنِ أبي سفيان رضي الله عنهما(٣).

ثالثًا: غريب الحديث:

ـ «الظَّهْر»: يعني: الدابَّةَ التي يُحْمَل عليها وتُرْكَب(٤)، وهو مِن إطلاقِ الجزءِ وإرادةِ الكُلِّ، مِن قبيلِ المَجازِ المُرْسَل.

ـ «لَبَن الدَّرِّ»: مصدرٌ بمعنى اسْمِ الفاعل، أي: لَبَنُ الشاةِ الدَّارَّة، أي: ذاتِ الضرع، ويحتمل أَنْ يكون بمعنَى اسْمِ المفعول، ويكون المعنى: اللبنَ المَدْرورَ، وهو مِن إضافةِ الشيء إلى نَفْسِه كقوله تعالى: ﴿وَحَبَّ ٱلۡحَصِيدِ ٩[ق](٥).

ـ جملةُ: «الظَّهْرُ يُرْكَبُ، .. وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ ..»: جملةٌ خبريةٌ في معنى الإنشاء، مثل قوله تعالى: ﴿وَٱلۡوَٰلِدَٰتُ يُرۡضِعۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ حَوۡلَيۡنِ كَامِلَيۡنِ[البقرة: ٢٣٣](٦).

رابعًا: المعنى الإجمالي للحديث:

أجازَ الشارعُ الحكيمُ الرَّهْنَ للاستيثاق وضمانِ الدَّيْنِ، لكونه مِن الوثائق التي يحصل بها الاستيفاءُ ويُؤْمَن به غَدْرُ المَدِين، ويحصل به الاطمئنانُ للدائن مِن مَدِينِه، ولا يتمُّ التوثُّقُ على الوجهِ الصحيح والأكملِ إلَّا بعد حِيازةِ الرهن لدى المُرْتَهِنِ وقَبْضِه إيَّاه.

وقد يكون نوعُ الرهنِ الذي تمَّ قبضُه دابَّةً أو بهيمةً مثل: الإبل والخيل والبقر والغنم؛ فتحتاجُ إلى عَلَفٍ وصيانةٍ وإنفاقٍ؛ فيتولَّى المُرْتَهِنُ أَمْرَها بسَدِّ هذه الحاجة.

ولمَّا كان الشارعُ يسعى لتحقيقِ مصلحة المُرْتَهِنِ والراهن، ومُراعاةً للعدل بين الطرفين؛ جَعَلَ الشارعُ للمُرْتَهِنِ حقَّ الانتفاعِ بالرهن نظيرَ النفقةِ المقدَّمة، فبمِقْدارِها ينتفع: فيركبُ ما كان مُعَدًّا للركوب والحملِ ونحوِ ذلك، ويشرب بقَدْرِ النفقةِ ما كان مُعَدًّا لذلك مِن ألبانِ البهائم؛ ففي ذلك جمعٌ بين مصلحتين وتوفيرُ حقَّين.

فإذا حَلَّ الدَّينُ ووَفَّى الراهنُ دَيْنَه استردَّ رَهْنَه، فإِنْ لم يُوَفِّ عند حلولِ الدَّيْن: فإِنْ كان الراهنُ أَذِنَ للمُرْتَهِنِ في بَيْعِه أو وكَّلَ غيرَه بذلك باعَهُ وأخَذَ المُرْتَهِنُ دَيْنَه مِن قيمته، فإِنْ لم يأذن له ولا وكَّلَ غيرَه وامتنع مِن بيعِه رفَعَ المُرْتَهِنُ الأمرَ إلى القاضي ليبيعَه ويُوفِّيَه الدَّيْنَ مِن قيمته؛ إحقاقًا للحقِّ ورفعًا للظلم.

خامسًا: الفوائد والأحكام المستنبطة من الحديث:

تظهر فوائدُ هذا الحديثِ وأحكامُه فيما يلي:

١ ـ فيه دليلٌ على جوازِ الرهن مع ثبوته في القرآن الكريم.

٢ ـ فيه دليلٌ على مشروعيةِ الرهنِ في الحَضَرِ وهو قولُ الجمهور، وأمَّا السفرُ فهو ثابتٌ بقوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمۡ عَلَىٰ سَفَرٖ وَلَمۡ تَجِدُواْ كَاتِبٗا فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞ[البقرة: ٢٨٣]، خلافًا لِمَا نُقِل عن مُجاهِدٍ والضحَّاكِ مِن أنَّ الرَّهْن خاصٌّ بالسفر دون الحَضَرِ، وعليه مذهبُ الظاهرية(٧).

والصحيح مذهبُ الجمهور؛ لأنَّ الكلام ـ وإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الشرط ـ فالمرادُ به: غالبُ الأحوال، ولا مفهومَ للتقييد بالسفر في الآيةِ لدلالةِ الأحاديث على مشروعيةِ الرهن في الحَضَر، منها: حديثُ عائشة رضي الله عنها: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ»(٨)، وعلى تقديرِ حجِّيَّةِ مفهومِ الشرط فمنطوقُ حديثِ البابِ يُعارِضُه، وهو مُقدَّمٌ على دليل خطابِ الآية، ولأنَّ السفرَ مَظِنَّةُ فَقْدِ الكاتب والشاهد؛ فيُحتاجُ إلى الرهنِ في ذلك الوقتِ غالبًا، ولأنها وثيقةٌ تجوز في السفر فجازَتْ في الحَضَرِ كالضمان(٩).

٣ ـ فيه دليلٌ على أنَّ مَنافِعَ الرَّهْنِ لا تُعطَّل؛ لأنَّ تعطيلها تضييعٌ للمال وإهدارٌ له، وقد نَهَى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن إضاعة المال(١٠).

٤ ـ الحديث بظاهِرِه يحتمل أَنْ يكون الفاعلُ في قوله: «يُرْكَبُ» و«يُشْرَبُ» هو الراهنَ مالِكَ الدابَّةِ المرهونة، ويحتمل ـ أيضًا ـ أَنْ يكون هو المُرْتَهِنَ الذي حُبِسَ الرهنُ عنده استيفاءً منه أو مِن ثَمَنِه إذا تَعَذَّرَ الاستيفاءُ مِن ذمَّةِ الراهن، ومِن هنا قال بعضُ العلماءِ بورودِ الإجمال لهذا الاحتمال.

والراجحُ في مذهب العلماء أنه لا إجمالَ في الحديث؛ لأنَّ المراد بالفاعل هو المُرْتَهِنُ بقرينةِ العِوَض: «النفقة»، بمعنى: أنَّ الانتفاعَ كان في مُقابِلِ النفقةِ وفائدتُه تأسيسيةٌ، أمَّا انتفاعُ الراهنِ فبحكمِ مِلْكيَّتِه وفائدتُه تأكيديةٌ، و«التَّأْسِيسُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّأْكِيدِ»، ولأنه وَرَدَ التصريحُ بذلك في روايةِ أحمد بقوله: «إِذَا كَانَتِ الدَّابَّةُ مَرْهُونَةً فَعَلَى المُرْتَهِنِ عَلَفُهَا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ، وَعَلَى الَّذِي يَشْرَبُهُ نَفَقَتُهُ وَيَرْكَبُ»(١١)، كما يُعضِّدُ هذا القولَ ما وَقَعَ عند حمَّادِ بنِ سَلَمَة في «جامِعِه» بلفظِ: «إِذَا ارْتَهَنَ شَاةً شَرِبَ المُرْتَهِنُ مِنْ لَبَنِهَا بَقَدْرِ عَلَفِهَا؛ فَإِنِ اسْتَفْضَلَ مِنَ اللَّبَنِ بَعْدَ ثَمَنِ العَلَفِ فَهُوَ رِبًا»(١٢).

٥ ـ اسْتُفِيدَ مِن الحديثِ جوازُ الرهنِ وغيرِه مِن مُخْتَلَفِ أنواعِ العقود والمُعامَلات مع غيرِ المسلمين؛ لكونِ حديثِ الباب وَرَدَ مطلقًا عن التقييد بالإسلام وهو مَحَلُّ إجماعٍ، ويؤيِّده حديثُ عائشة رضي الله عنها: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ»(١٣)، وهذا ما لم تكن المُعامَلةُ محرَّمةً أو يَكُنِ الكافرُ حربيًّا يُخشى مِن نوعِ المُعامَلةِ معه التقوِّي بها، قال الفاكهانيُّ ـ رحمه الله ـ: «أَجْمَعَ المسلمون على مُعامَلةِ أهلِ الذِّمَّة وغيرِهم مِن الكُفَّار إذا لم يُتَحَقَّقْ تحريمُ ما معهم، إلَّا ما اسْتُثْنِيَ مِن بيعِ المسلمِ منهم السلاحَ والمصحفَ والعبدَ المسلمَ ونحوَ ذلك»، ثمَّ قال: «ورَهَنَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الدِّرْعَ عند اليهوديِّ لأنه لم يكن مِن أهل الحرب، وإلَّا فرَهْنُها ممَّن يُخشى منه التقوِّي بها كبَيْعِها»(١٤).

٦ ـ فيه دليلٌ على وجوب النفقة على الحيوان، وأنَّ المُرْتَهِنَ يَضْمَنُ الإتلافَ إِنْ كان مِن تفريطه؛ لأنَّ يدَه يدُ أمانةٍ.

٧ ـ يدلُّ الحديثُ على أنَّ للمُرْتَهِنِ حقًّا في النيابة عن المالك مِن غيرِ إذنِه في استيفاءِ مَنافِعِ المرهون والانتفاعِ بها في مُقابِلِ نفقته، وهي مسألةٌ اجتهاديةٌ سنتعرَّض لها في مَواقِفِ العلماء مِن الحديث.

٨ ـ فيه إشارةٌ إلى أنَّ المُرْتَهِنَ إذا حَلَبَ جازَ له ذلك، وهي الحكمةُ الكامنةُ في العدول عن اللبنِ إلى الدَّرِّ؛ لأنَّ الدَّرَّ ينتج مِن العين، بخلافِ ما إذا كان اللبنُ في إناءٍ مثلًا ورَهَنَهُ؛ فإنه لا يجوز للمُرْتَهِنِ أَنْ يأخذ منه شيئًا(١٥).

٩ ـ في الحديثِ دليلٌ ـ أيضًا ـ على اشتراطِ القبض في الرهن، وهو مَحَلُّ اتِّفاقٍ بين العلماء(١٦)؛ لأنَّ النفقة والانتفاع لا يَتِمَّانِ إلَّا بالحيازةِ على المرهون لقوله تعالى: ﴿فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞ[البقرة: ٢٨٣].

١٠ ـ في الحديثِ تأكيدٌ على قاعدةِ: «الغُرْمُ بِالغُنْمِ» وما يدخل تحت معناها كقاعدةِ: «النِّعْمَةُ بِقَدْرِ النِّقْمَةِ، وَالنِّقْمَةُ بِقَدْرِ النِّعْمَةِ».

سادسًا: مواقف العلماء من الحديث:

اتَّفَقَ العلماءُ على أنَّ مِن شَرْطِ الرهنِ وحَقِّ المُرْتَهِنِ: حَبْسَ الرهن توثقةً بدَيْنِه، واختلفوا في انتفاعِ المُرْتَهِنِ بالرهن الذي يحتاج إلى مؤنةٍ مِن غيرِ إذنِ الراهن: هل هو مِن حقِّه؟ وسنتعرَّض لهذا الخلافِ فيما يلي:

أ ـ مذاهب العلماء في هذه المسألة:

يمكن حَصْرُ اختلافِ العلماء في هذه المسألةِ في القولين التاليَيْن(١٧):

١ ـ القول الأوَّل:

ذَهَبَ الحنابلةُ إلى القول بأنَّ المُرْتَهِنَ لا ينتفع مِن الرهن إلَّا بما كان مركوبًا أو محلوبًا، فيَرْكَبُ ويَحْلُبُ بقَدْرِ النفقة(١٨).

٢ ـ القول الثاني:

ذَهَبَ جمهورُ العلماءِ إلى القول بأنه ليس مِن حقِّ المُرْتَهِنِ أَنْ ينتفع بشيءٍ مِن الرهن إلَّا بإذنِ الراهن له(١٩).

ب ـ أدلَّة المذاهب السابقة:

نتناوَلُ أدلَّةَ الفريقين، ثمَّ نتعرَّضُ لاعتذارِ الجمهور عن الأخذِ بحديث الباب، ونعقِّب ذلك بمُناقَشةٍ عامَّةٍ وإبرازِ الراجح مِن الأقوال فيما يلي:

أوَّلًا: أدلَّة الحنابلة:

استدلَّ هؤلاءِ بالسنَّة والمعقول.

ـ أمَّا بالسنَّة: فبحديث الباب.

ـ وبما وَقَعَ عند حمَّادِ بنِ سَلَمةَ في «جامِعِه» بلفظِ: «إِذَا ارْتَهَنَ شَاةً شَرِبَ المُرْتَهِنُ مِنْ لَبَنِهَا بَقَدْرِ عَلَفِهَا؛ فَإِنِ اسْتَفْضَلَ مِنَ اللَّبَنِ بَعْدَ ثَمَنِ العَلَفِ فَهُوَ رِبًا»(٢٠).

ـ وبما أخرجه الدارقطنيُّ وغيرُه مِن حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «إِذَا كَانَتِ الدَّابَّةُ مَرْهُونَةً فَعَلَى المُرْتَهِنِ عَلَفُهَا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ، وَعَلَى الَّذِي يَشْرَبُهُ نَفَقَتُهُ وَيَرْكَبُ»(٢١).

ـ وبحديثِ أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ»(٢٢).

ـ ومِن المعقول: استدلُّوا بأنَّ تصرُّفَ المُرْتَهِنِ وانتفاعَه عن طريقِ المُعاوَضة، والمُعاوضةُ تقتضي المساواةَ بين البدلين.

ومِن جهةٍ أخرى فإنَّ للمُرْتَهِنِ حقًّا قد أَمْكَنَهُ استيفاؤُه مِن نماءِ الرهنِ والنيابةُ عن المالكِ فيما وَجَبَ عليه، واستيفاءُ ذلك مِن مَنافِعِه جائزٌ كجوازِ أَخْذِ المرأةِ مُؤْنتَها مِن مالِ زوجها ونيابتِها عنه في الإنفاقِ عليها عند امتناعه بغيرِ إذنِه(٢٣).

ثانيًا: أدلَّة الجمهور:

استدلَّ الجمهورُ فيما ذهبوا إليه بالسنَّة والإجماع:

ـ أمَّا مِن السنَّة: فقَدِ استدلُّوا بما رواهُ الشافعيُّ والدارقطنيُّ والحاكمُ والبيهقيُّ مِن حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ(٢٤) مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ»(٢٥).

وجهُ دلالته: أنَّ الحديث أفادَ بأنَّ مَنافِعَ الرهنِ لمالِكِه وهو الراهنُ في قوله: «لَهُ غُنْمُهُ»، كما دلَّ على أنَّ عليه تَحَمُّلَ نفقةِ رَهْنِه بقوله: «وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ»، وما دامَ الشارعُ جَعَلَ الغُنْمَ والغُرْمَ للراهنِ فلا يجوز للمُرْتَهِنِ أَنْ ينتفع مِن الرهنِ بشيءٍ إلَّا بإذنِ مالِكِه.

ـ أمَّا استدلالهم بالإجماع فيظهر في وقوعِ اتِّفاقِ العلماءِ على أنَّ تَصرُّفَ الإنسانِ في مِلْكِ غيرِه ممنوعٌ إلَّا بإِذْنِ مالِكِ العَيْنِ. ومُسْتَنَدُ الإجماعِ: الأحاديثُ العديدةُ التي تُفيدُ هذا المعنى، منها: قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»(٢٦)، ومنها: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»(٢٧). وما دامَتِ العينُ المرهونةُ باقيةً في مِلْكِ الراهنِ فيتساوى المُرْتَهِنُ مع الأجنبيِّ، وعليه يُمْنَعُ المُرْتَهِنُ مِن الانتفاع بها إلَّا إذا أَذِنَ الراهنُ.

هذا، وقد اعتذر الجمهورُ عن الأخذ بحديث الباب بالأعذار التالية:

١ ـ أنَّ حديث البابِ مُعارَضٌ بحديثِ أبي هريرة رضي الله عنه المتقدِّم: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ»(٢٨)، ولا شكَّ أنَّ الغُنْمَ يَشْمَلُ سائِرَ وجوهِ الانتفاع، فلا يملك المُرْتَهِنُ شيئًا منه إلَّا بإذنه.

وحديثُ أبي هريرة رضي الله عنه صحَّح الحاكمُ إسنادَه(٢٩) ووَصَلَه الدارقطنيُّ وحسَّن إسنادَه(٣٠)، ويرى هؤلاء أنَّ الطُّرُقَ الموصولة والمُرْسَلَةَ يَشُدُّ بعضُها بعضًا؛ فيصلح جميعُها للاحتجاج.

وعلى فرضِ التسليم بأنَّ الحديث مُرْسَلٌ فإنَّ المشهور مِن مذهب أبي حنيفة ومالكٍ وأحمد الاحتجاجُ بالحديث المُرْسَل(٣١).

٢ ـ الحديث يُعارِضه ـ أيضًا ـ ما ثَبَتَ في البخاريِّ وغيرِه مِن روايةِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مرفوعًا بلفظِ: «لَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ»(٣٢)، ومِن أجلِ هذا التعارضِ ذَهَبَ بعضُ العلماء إلى القول بأنَّ حديثَ البابِ منسوخٌ به، ووجهُه: أنه محمولٌ على ما كان قبل تحريم الرِّبَا، فلمَّا حُرِّمَ الرِّبَا حُرِّم أشكالُه مِن بيعِ اللبن في الضرعِ وكُلِّ قرضٍ جرَّ منفعةً، وأنه ارتفع بالتحريمِ ما أُبِيحَ في هذا الحديثِ للمُرْتَهِنِ(٣٣).

٣ ـ يتمثَّل الاعتذارُ الثالث في جواب الشافعيِّ عن حديث الباب بأنَّ فاعِلَ الركوبِ والشربِ إنما هو الراهن، ويكون المرادُ مِن الحديث: أنَّ المُرْتَهِنَ لا يمنع الرَّاهِنَ مِن ظَهْرِها ودَرِّها لأنَّ له رقَبَتَها، وهي محلوبةٌ ومركوبةٌ كما كانَتْ قبل الرهن(٣٤)، ولو حُمِلَ الفاعلُ على المُرْتَهِنِ لَكان حديثُ البابِ مُجْمَلًا لم يتبيَّن فيه الذي يركب ويشرب، و«لَا يَجُوزُ العَمَلُ بِالمُجْمَلِ إِلَّا بَعْدَ البَيَانِ».

٤ ـ أنَّ الحديث وَرَدَ على خلافِ القياس والأصولِ المُجْمَعِ عليها مِن وجهين وهُما:

ـ الأوَّل: تجويز الركوب والحلب لغيرِ المالك بدونِ إذنِ المالك.

ـ الثاني: تضمينُه قيمةَ الركوبِ واللبنِ بالنفقة لا بالقيمة، مع أنَّ القياس يقتضي أَنْ يكون الضمانُ بالقيمة(٣٥).

ج ـ مناقشة الأدلَّة السابقة:

على ضوءِ ما تَقَدَّمَ يمكن مُناقَشةُ الأدلَّةِ السابقةِ والاعتذاراتِ المتقدِّمة على ما يأتي:

ـ أمَّا حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي استدلَّ به الجمهورُ واعتذروا به عن عدَمِ العمل بحديثِ الباب، فإنه لا يقوى على المُعارَضةِ مِن جهةِ السند ـ أوَّلًا ـ ثمَّ مِن جهةِ المتن ـ ثانيًا ـ:

ـ الجهة الأولى: أنه حديثٌ مُرْسَلٌ، قال الحافظُ في «التلخيص»: «وله طُرُقٌ في الدارقطنيِّ والبيهقيِّ كُلُّها ضعيفةٌ»(٣٦)، وقال الحافظُ ـ أيضًا ـ: «ورجالُه ثِقاتٌ إلَّا أنَّ المحفوظ عند أبي داود وغيرِه إرسالُه»(٣٧).

وعقَّب البيهقيُّ على الدارقطنيِّ بقوله: «قد رواهُ غيرُه عن سفيان عن زيادٍ مُرْسَلًا، وهو المحفوظ»(٣٨).

وأقوى الأقوالِ في الحديث المُرْسَلِ أنه ضعيفٌ مردودٌ عند جمهورِ المحدِّثين والأصوليِّين والفقهاء(٣٩).

وعلى فرضِ التسليم بصحَّةِ الاحتجاج بالحديث المُرْسَل فإنه يُعارِضُه الحديثُ المُسْنَد المتقدِّم. ولا يخفى أنَّ الحديث المُسْنَد يُرجَّح على المُرْسَلِ عند التعارض؛ لتَحَقُّقِ المعرفة برُواةِ الأوَّلِ وجهالةِ بعضِ رُواةِ الثاني، وعلى فرضِ أنه مُتَّصِلٌ فإنَّ «الأَقْوَى سَنَدًا مُقَدَّمٌ عَلَى مَا دُونَهُ فِي القُوَّةِ»، والمحفوظُ هنا أقوى، و«العَمَلُ بِالأَقْوَى وَاجِبٌ» على ما تَقرَّرَ في عِلْمِ أصول الفقه.

فضلًا عن أنَّ حديث البابِ أفادَ فائدةً تأسيسيةً وهي: تجويزُ الركوب والحلبِ لغيرِ المالك بدونِ إذنِه في مُقابِلِ تضمينِه قيمةَ الركوبِ واللبنِ بالنفقة، بينما الحديثُ الآخَرُ أفادَ فائدةً تأكيديةً وهي: أنَّ الركوب واللبن للراهن، والمقرَّرُ ـ تقعيدًا ـ أنَّ «التَّأْسِيسَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّأْكِيدِ».

ـ الجهة الثانية: أنَّ قوله في الحديث: «لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ»(٤٠) يحتمل الرفعَ أو الوقف، وقد بيَّن ابنُ وهبٍ ـ رحمه الله ـ أنَّ هذه اللفظةَ مِن قول سعيد بنِ المسيِّب، وقد ذَكَرَهُ أبو داود في «المراسيل» وقال: «هذا هو الصحيح»، أي: أنه مِن كلام سعيد بنِ المسيِّب ـ رحمه الله ـ، نَقَله عنه الزُّهْرِيُّ(٤١).

قال الزيلعيُّ ـ رحمه الله ـ: «ويؤيِّده ما رواهُ عبدُ الرزَّاقِ في «مصنَّفه»: أخبرنا مَعْمَرٌ عن الزُّهريِّ عن ابنِ المسيِّب أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِمَّنْ رَهَنَهُ»، قلت للزُّهْرِيِّ: «أَرَأَيْتَ قولَ الرجل: «لا يَغْلَقُ الرهنُ» أهو الرجلُ يقول: «إِنْ لم آتِك بمالِكَ فالرهنُ لك»؟» قال: «نعم»، قال مَعْمَرٌ: ثمَّ بَلَغَني عنه أنه قال: «إِنْ هَلَكَ لم يذهب حقُّ هذا، إنما هَلَكَ مِن ربِّ الرهن؛ له غُنْمُه وعليه غُرْمُه»»(٤٢).

وممَّا تَقَدَّمَ يتبيَّن أنَّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه في غُنْمِ الراهن وغُرْمِه الذي استدلَّ به الجمهورُ لا يقوى على مُعارَضةِ حديث الباب.

ـ ولا تَعارُضَ بين حديث الباب وحديثِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ لأنَّ حديث ابنِ عُمَرَ عامٌّ والآخَرَ خاصٌّ؛ ﻓ: «يَنْبَنِي العَامُّ عَلَى الخَاصِّ وَيَتَقَيَّدُ بِهِ» ـ على ما تَقرَّرَ في علم الأصول ـ و«لَا يُصَارُ إِلَى النَّسْخِ إِلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الجَمْعِ بَيْنَ الحَدِيثَيْنِ مِنْ جِهَةٍ، وَمَعْرِفَةِ التَّارِيخِ لِيُعْلَمَ النَّاسِخُ وَالمَنْسُوخُ مِنْ جِهَةٍ ثَانِيَةٍ»؛ وعلى هذا الأساسِ فإنَّ دعوى النسخِ لا تَثْبُتُ إلَّا بدليلٍ يقضي بتأخُّرِ الناسخ على وجهٍ يَتعذَّرُ معه الجمعُ لا بمجرَّدِ الاحتمال مع الإمكان، ولا تَعذُّرَ في هذه الحالة؛ لإمكانِ تخصيص النهي بالمرهونة.

ـ والقول بأنَّ المراد بفاعلِ الركوب والشربِ هو الراهنُ بحكمِ مِلْكيَّتِه للرقبة قولٌ مرجوحٌ؛ بدليلِ قرينةِ: «العِوَض» التي تُبيِّنُ المرادَ بالفاعل وهو المُرْتَهِنُ. ولا يصحُّ القولُ بالإجمال لورودِ التصريح بفاعلِ الركوب والشرب كما تَقَدَّمَ في الرواياتِ السابقةِ والتي تُفيدُ التأسيسَ، وهي أقوى ـ في الرتبة ـ مِن المُفيدةِ للتأكيد.

ـ وأمَّا مُخالَفةُ الحديثِ للقياس والأصولِ المُتَّفَقِ عليها فجوابُه: أنَّ «الحَدِيثَ أَصْلٌ لَا تَرُدُّهُ الأُصُولُ»، و«الأُصُولُ لَا يُضْرَبُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ»، بل الواجبُ اتِّباعُها كُلِّها، ويُقَرُّ كُلٌّ منها على أصلِه وموضعِه؛ فهي كُلُّها مِن عندِ الله الذي أَحْكَم شَرْعَه وأَحْسَنَ خَلْقَه، ثمَّ إنَّ الأحكام الشرعية ليسَتْ على نَسَقٍ واحدٍ اطِّرادًا، وإنما الأدلَّةُ تُفرِّقُ بينها في الحكم؛ لهذا نجد أنَّ الشارعَ جَعَلَ تضمينَ المُرْتَهِنِ قيمةَ الركوبِ والشربِ بالنفقة، وجَعَلَ صاعَ تمرٍ عِوَضًا عن اللبنِ في بيع المُصرَّاة، وحَكَمَ ببيعِ الحاكم عن المتمرِّد بغيرِ إذنه، وغيرها مِن الأحكام المُسْتقاةِ مِن السنَّةِ المطهَّرةِ، التي تُعْتَبر أصولًا واردةً على وَفْقِ القياس(٤٣).

ثمَّ إنَّ الحديث لم يَشْتَرِطْ إِذْنَ الراهن، ونفقةُ الحيوانِ واجبةٌ على مالِكِه، والمُرْتَهِنُ يَسْتَحِقُّ المُطالَبةَ بها لحِفْظِ المرهون، ولا يمكن المالكَ الركوبُ والحلبُ لخروجِ الرهن عن يده وتوثيقِه، ولا يَسَعُ المالكَ المجيءُ كُلَّ وقتٍ لأَخْذِ اللبنِ لِمَا فيه مِن مَشَقَّةٍ ولا سيَّما مع بُعْدِ المسافة، كما لا يَسَعُ المُرْتَهِنَ ـ أيضًا ـ بيعُ اللبنِ وحِفْظُ الثمنِ للراهن لوجودِ كُلْفةٍ ومَشَقَّةٍ.

وتأسيسًا على ذلك فإنَّ المُرْتَهِنَ إذا أَنْفَقَ على العينِ المرهونةِ يكون قد أدَّى عن الراهنِ واجبًا وله فيها حقٌّ، وله أَنْ يرجع ببدله، وما دامَتْ منفعةُ الركوبِ والحلبِ صالحةً لِأَنْ تكون بدلًا؛ فكان ـ حينئذٍ ـ مِن مقتضى العدلِ والقياسِ ومصلحةِ الطرفين والحيوانِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ المُرْتَهِنُ حقَّه مِن منفعة الركوب والحلبِ ويعوِّضَ عنهما بالنفقة، ولو لم يَرِدْ نصٌّ بهذا لَكانَ القياسُ يَقْتَضيهِ(٤٤).

د ـ سبب اختلاف العلماء:

والذي يظهر أنَّ سبب اختلافِ العلماء في هذه المسألةِ يرجع إلى المسائل الأصولية التالية:

ـ في تَعارُضِ الأدلَّة.

ـ في العمل بالحديث المُرْسَل.

ـ في العمل بخبر الواحد إذا خالَفَ القياس.

ـ فمَن رأى أنَّ حديث الباب مُعارَضٌ بحديثِ أبي هريرة رضي الله عنه الذي استدلَّ به الجمهورُ، ورأى أنَّ الحديث ـ وإِنْ وَقَعَ التسليمُ بإرساله ـ فإنَّ المُرْسَل صالحٌ للاحتجاج والعمل، فضلًا عن تعضيده بالقياس والأصولِ المُجْمَع عليها؛ قال: ليس للمُرْتَهِنِ أَنْ ينتفع بشيءٍ مِن الرهن إلَّا بإِذْنِ الراهن، وهو مذهبُ الجمهور.

ـ ومَن رأى أنَّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي استدلَّ به الجمهورُ لا يقوى على مُعارَضةِ حديث الباب لكونه أقوى سندًا، ويرى أنَّ الحديث المُرْسَلَ لا يصحُّ الاحتجاجُ به للجهل بحالِ الراوي المحذوف، وعلى فَرْضِ التسليم بصلاحِيَتِه للاحتجاج فهو مُعارَضٌ بالمُسْنَدِ وهو مُرجَّحٌ عليه، فضلًا عن أنَّ مَحَلَّ الاحتجاجِ به مُدْرَجٌ مِن كلامِ سعيد بنِ المسيِّب ـ نَقَله عنه الزهريُّ ـ، كما رأى أنَّ خبر الواحد يُقَدَّمُ على القياسِ والأصولِ المُجْمَعِ عليها لأنَّ الحديث أصلٌ قائمٌ بذاته؛ قال: ينتفع المُرْتَهِنُ فيما وَرَدَ به النصُّ الثابت: فيركب ويحلب بقَدْرِ النفقة، وهو مذهبُ الحنابلة.

هـ ـ الترجيح:

والحديث حجَّةٌ ناهضةٌ تشهد لمذهب الحنابلة لقوَّته وضَعْفِ أدلَّةِ المُخالِفين لكونها مُخالِفةً للظاهر، ولأنَّ خبر الشارعِ الثابتَ مُقدَّمٌ على قياس الأصول؛ لأنه أصلٌ قائمٌ بذاته واجبُ الاعتبار؛ إِذْ «لَا تَأْصِيلَ لِلْأُصُولِ إِلَّا مِنْ نُصُوصِ الشَّارِعِ»، واللهُ أَعْلَمُ.



(١) أخرجه البخاريُّ في «الرهن» (٥/ ١٤٣) باب: الرهنُ مركوبٌ ومحلوبٌ، مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(٢) وسببُ ذلك لزومُه ومُواظَبتُه مجالسَ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، ودعاؤه له، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: «وَاللهِ المُوعِدِ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا، أَصْحَبُ رَسُولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، وَكَانَ المُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وَكَانَتِ الأَنْصَارُ يَشْغَلُهُمُ القِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، فَحَضَرْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مَجْلِسًا فَقَالَ: «مَنْ يَبْسُطْ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي ثُمَّ يَقْبِضْهُ إِلَيْهِ فَلَنْ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي»، فَبَسَطْتُ بُرْدَةً عَلَيَّ حَتَّى قَضَى حَدِيثَه ثُمَّ قَبَضْتُهَا إِلَيَّ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ» [أخرجه أحمد ـ طبعة الرسالة ـ (١٢/ ٢١٩)].

أمَّا عن كُنيتِه رضي الله عنه فقَدْ أخرج الترمذيُّ (٥/ ٦٨٦) عن عبد الله بنِ رافعٍ قال: قُلْتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: «لِمَ كُنِّيتَ أَبَا هُرَيْرَةَ؟» قَالَ: «أَمَا تَفْرَقُ مِنِّي؟» قُلْتُ: «بَلَى ـ وَاللهِ ـ إِنِّي لَأَهَابُكَ»، قَالَ: «كُنْتُ أَرْعَى غَنَمَ أَهْلِي، فَكَانَتْ لِي هُرَيْرَةٌ صَغِيرَةٌ فَكُنْتُ أَضَعُهَا بِاللَّيْلِ فِي شَجَرَةٍ، فَإِذَا كَانَ النَّهَارُ ذَهَبْتُ بِهَا مَعِي فَلَعِبْتُ بِهَا؛ فَكَنَّوْنِي: أَبَا هُرَيْرَةَ».

(٣) انظر ترجمته وأحاديثه في: «مسند أحمد» (٢/ ٢٢٨، ٥/ ١١٤)، «الطبقات الكبرى» لابن سعد (٢/ ٣٦٢، ٤/ ٣٢٥)، «المَعارِف» لابن قتيبة (٢٧٧)، «الاستيعاب» لابن عبد البرِّ (٤/ ١٧٦٨)، «مستدرك الحاكم» (٣/ ٥٠٦)، «جامع الأصول» لأبي السعادات بن الأثير (٩/ ٩٥)، «الكامل» (٣/ ٥٢٦) و«أُسْد الغابة» (٥/ ٣١٥) كلاهما لأبي الحسن بن الأثير، «سِيَر أعلام النُّبلاء» (٢/ ٥٧٨) و«طبقات القُرَّاء» (١/ ٤٣) و«الكاشف» (٣/ ٣٨٥) و«دُوَل الإسلام» (١/ ٤٢) كُلُّها للذهبي، «البداية والنهاية» لابن كثير (٨/ ١٠٣)، «مَجْمَع الزوائد» للهيثمي (٩/ ٣٦١)، «وفيات ابنِ قنفذ» (٢١)، «الإصابة» (٤/ ٢٠٢) و«تهذيب التهذيب» (٢/ ٢٦٢) كلاهما لابن حجر، «طبقات الحُفَّاظ» للسيوطي (١٧)، «شذرات الذهب» لابن العماد (١/ ٦٣)، «الفكر السامي» للحجوي (١/ ٢/ ٢٤٧ومؤلَّفنا: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» (١٩٨).

(٤) انظر: «النهاية» لابن الأثير (٣/ ١٦٦)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٤٠٠).

(٥) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٥/ ١٤٤)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٤٠١).

(٦) انظر: المصدرين السابقين.

(٧) والظاهرية ـ وإِنْ قيَّدوا خصوصيةَ الرهنِ بالسفر ـ فليس مِن بابِ الأخذِ بمفهوم الشرط؛ لأنهم يُنْكِرون جميعَ المفاهيم، [انظر: «الإحكام» لابن حزم (٧/ ٢)]. وإنما الأصلُ ـ عندهم ـ في العقودِ المنعُ إلَّا ما أجازَهُ الدليلُ، وقد وَرَدَ الدليلُ خاصًّا بالسفر، ويبقى غيرُه على المنع.

(٨) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «البيوع» (٤/ ٣٠٢) بابُ شراءِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالنسيئة، وفي «الرهن» (٥/ ١٤٢) بابُ مَن رَهَنَ دِرْعَه، ومسلمٌ في «المساقاة» (١١/ ٣٩ ـ ٤٠) بابُ الرهنِ وجوازِه في الحَضَر كالسفر، مِن حديث عائشة رضي الله عنها.

(٩) انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (٢/ ٢٧٥)، «المغني» لابن قدامة (٤/ ٣٦٢)، «الجامع» للقرطبي (٣/ ٤٠٧)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٤٠٠).

(١٠) جَعَلَ الشافعية كُلَّ الانتفاع بالرهن للراهن، بشرطِ أَنْ لا يترتَّب عليه نقصُ المرهون، وحملوا الفاعلَ في الحديث على الراهن خلافًا للجمهور، [انظر: «المهذَّب» للشيرازي (١/ ٣١٨)، «شرح السنَّة» للبغوي (٨/ ١٨٣)، «البدائع» للكاساني (٦/ ١٤٦)، «المغني» لابن قدامة (٤٢٧)].

(١١) أخرجه أحمد في «مسنده» بترتيب «الفتح الربَّاني» (٥/ ٩٩)، والدارقطنيُّ (٣/ ٤٤١)، والطحاويُّ في «شرح معاني الآثار» (٤/ ٩٩)، مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(١٢) انظر: «سُبُل السلام» للصنعاني (٢/ ٥١)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٤٠١).

(١٣) تقدَّم تخريجه، انظر: الرابط.

(١٤) «رياض الأفهام» للفاكهاني (٤/ ٤١٢)، وانظر: «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٤٠٠).

(١٥) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٥/ ١٤٤).

(١٦) انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٢٧٠).

(١٧) فيه قولٌ ثالثٌ ذَهَبَ إليه الأوزاعيُّ والليثُ وأبو ثورٍ، يتمثَّل في أنه يُباحُ للمُرْتَهِنِ الانتفاعُ بالرهن إذا امتنع الراهنُ مِن الإنفاق على المرهون، فلِلْحفاظِ على حياة الحيوان يكون انتفاعُه مُقابِلَ النفقةِ، بشرطِ ألَّا يزيد قَدْرُ ذلك أو قيمتُه على قَدْرِ عَلَفِه، وقوَّى هذا الرأيَ ابنُ حجرٍ في «الفتح» (٤/ ١٤٤). ولا يخفى أنَّ في إنفاقِ الراهنِ مِن المَشَقَّةِ عليه بمكانٍ، وبخاصَّةٍ إذا كانَتِ المسافةُ بعيدةً مِن جهةٍ، وما يُسبِّبه للمُرْتَهِنِ مِن إحراجٍ مِن جهةٍ ثانيةٍ، ثمَّ إنه ـ مِن جهةٍ ثالثةٍ ـ تقييدٌ للحديث بما لم يُقيِّدْه به الشارع، [انظر: «سُبُل السلام» للصنعاني (٢/ ٥٢)].

(١٨) انظر: «المغني» (٤/ ٤٢٨) و«الكافي» (٢/ ١٤٨) كلاهما لابن قدامة، «العدَّة» للبهاء المقدسي (٢٤٧)، «المحرَّر» لأبي البركات (٣٣٧).

(١٩) انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (٢/ ٢٧٦)، «القوانين الفقهية» لابن جُزَيٍّ (٣١١)، «تبيين الحقائق» للزيلعي (٦/ ٦٧).

(٢٠) تقدَّم تخريجه، انظر: الرابط.

(٢١) تقدَّم تخريجه، انظر: الرابط.

(٢٢) أخرجه الدارقطنيُّ (٣/ ٤٤١)، والبيهقيُّ في «السنن الكبرى» (٦/ ٣٨)، مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وانظر: «صحيح الجامع الصغير» للألباني (٣٥٦١).

(٢٣) انظر: «المغني» لابن قدامة (٤/ ٤٢٨).

(٢٤) «غَلِقَ الرهنُ» ـ مِن بابِ: طَرِبَ وفَرِحَ ـ: استحقَّه المُرْتَهِنُ، وذلك إذا لم يَفِ الراهنُ به في الوقت المشروط، وكان هذا مِن فعلِ الجاهلية، أنَّ الراهن إذا لم يُؤدِّ ما عليه في وقتٍ معيَّنٍ مَلَك المُرْتَهِنُ الرَّهْنَ، [انظر: «الصحاح» للجوهري (٤/ ١٥٣٤)، «لسان العرب» لابن منظور (٢/ ١٠٠٧)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٤٠٢)].

(٢٥) أخرجه الشافعيُّ في «مسنده» (١٤٨)، والدارقطنيُّ (٣/ ٤٣٧ ـ ٤٣٩)، والحاكم في «المستدرك» (٢/ ٥١)، والبيهقيُّ (٦/ ٣٩ ـ ٤٠). والحديث صحَّحه ابنُ حبَّان (١٣/ ٢٥٨)، والحاكمُ وابنُ عبد البرِّ وعبدُ الحقِّ، وحسَّنه الدارقطنيُّ، [انظر: «نصب الراية» للزيلعي (٤/ ٣٢٠)]، ويرجِّح الألبانيُّ إرسالَه في «الإرواء» (٥/ ٢٣٩ ـ ٢٤٣) بقوله: «وجملةُ القول أنه ليس في هذه الطُّرُق ما يَسْلَمُ مِن عِلَّةٍ، وخيرُها الطريقُ الثالث، وعِلَّتُها الشذوذ: إِنْ لم يكن مِن العابديِّ فمِن ابنِ عُيَيْنة؛ ولذلك فالنفسُ تطمئنُّ لروايةِ الجماعة الذين أرسلوه أَكْثَرَ، لا سيَّما وهُمْ ثِقاتٌ أثباتٌ، وهو الذي جَزَمَ به البيهقيُّ».

(٢٦) أخرجه أحمد (٥/ ٧٢، ٤٢٥)، والبيهقي (٦/ ١٠٠)، مِن حديث حَنِيفةَ الرَّقَاشيِّ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٧٦٦٢).

(٢٧) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الأضاحي» (١٠/ ٧ ـ ٨) بابُ مَن قال: الأضحى يومُ النحر، ومسلمٌ في «القسامة» (١١/ ١٧٠) بابُ تغليظِ تحريم الدماء والأعراض والأموال، مِن حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

(٢٨) سبق تخريجه، انظر: الرابط.

(٢٩) انظر: «المستدرك» للحاكم (٢/ ٥١).

(٣٠) انظر: «سنن الدارقطني» (٣/ ٤٣٧).

(٣١) انظر: «المعتمد» لأبي الحسين (٢/ ٦٢٨)، «أصول السرخسي» (١/ ٣٦٠)، «المستصفى» للغزَّالي (٢/ ١٦٩)، «الإحكام» للآمدي (١/ ٢٩٩)، «مختصر المنتهى» لابن الحاجب (٢/ ٧٤)، «شرح مسلم» للنووي (١/ ١٣٢)، «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (٣٧٩)، «اختصار علوم الحديث» لابن كثير (٤٨)، «تدريب الراوي» للسيوطي (١/ ١٦٢)، «توضيح الأفكار» للصنعاني (٤/ ٢٨٧)، «فواتح الرحموت» للأنصاري (١/ ١٧٤)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (٦٤).

(٣٢) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «اللُّقَطة» (٥/ ٨٨) باب: لا تُحْتَلَبُ ماشيةُ أحَدٍ بغير إذنه، ومسلمٌ في «اللُّقَطة» (١٢/ ٢٨) بابُ تحريمِ حَلْبِ الماشية بدونِ إذنِ صاحِبِها، مِن حديث ابنِ عمر رضي الله عنهما.

(٣٣) انظر: «شرح معاني الآثار» للطحاوي (٤/ ٩٩).

(٣٤) انظر: «الأمَّ» للشافعي (٣/ ١٦٤).

(٣٥) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٥/ ١٤٤)، «سُبُل السلام» للصنعاني (٢/ ٥١)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٤٠٠).

(٣٦) «التلخيص الحبير» لابن حجر (٣/ ٣٦ ـ ٤٠).

(٣٧) «بلوغ المرام» لابن حجر (٢/ ٥١).

(٣٨) «سنن البيهقي» (٦/ ٣٩ ـ ٤٠).

(٣٩) انظر: «مقدِّمة ابنِ الصلاح» (٢٦)، مقدِّمة النووي في «شرح مسلم» (١/ ١٣٢)، «اختصار علوم الحديث» لابن كثير (٤٨)، «شرح نخبة الفكر» لابن حجر (٧٤)، والمراجع الأصولية السابقة.

(٤١) انظر: «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٤٠٠).

(٤٢) «نصب الراية» للزيلعي (٤/ ٣٢٠). والحديث أخرجه عبد الرزَّاق في «مصنَّفه» (٨/ ٢٣٧)، وأبو داود في «مَراسيله» (٢٥١).

(٤٣) انظر: «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (٢/ ٣٣٠).

(٤٤) انظر: المصدر السابق (٤/ ٤٢).