في صَلاحِيةِ العَملِ بقاعدةِ:«تَحصيلُ المقصودِ بالإخلالِ بأدبٍ أَوْلى مِنَ العكسِ» | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الخميس 9 شوال 1445 هـ الموافق لـ 18 أبريل 2024 م

الفتوى رقم: ١٢٨٥

الصنف: فتاوى القواعد الفقهية

في صَلاحِيةِ العَملِ بقاعدةِ:
«تَحصيلُ المقصودِ بالإخلالِ بأدبٍ أَوْلى مِنَ العكسِ»

السؤال:

ما مدى صحَّةِ القولِ بأنَّ «تحصيلَ المقصودِ بالإخلالِ بأدبٍ أَوْلى مِنَ العكسِ» في خصوصِ مسألةٍ ذكَرَها ابنُ قُدامةَ ـ رحمه الله ـ في «المغني» لمَّا أَوردَ قولَ الحنابلةِ في مسألةِ «حكمِ استدارةِ المؤذِّنِ ببدنهِ أثناءَ الأذانِ»، فقالوا: الإخلالُ بأدبٍ ـ وهو استدبارُ الكعبةِ ـ أثناءَ الأذانِ تحصيلًا للمقصودِ ـ وهو إسماعُ النَّاسِ ـ أَوْلى مِنَ العكسِ، وبارك الله فيكم.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فإذا اعتُبِرَ المِثالُ التَّطبيقيُّ وهو: استدارةُ المُؤذِّنِ عند الدُّعاءِ إلى الصَّلاةِ عن يَمينهِ وشِمالِهِ وقتَ التَّلفُّظِ بالحَيعلتينِ فإنَّ التَّقعيدَ المذكورَ وهو: «تحصيلُ المَقصودِ بالإخلالِ بأدبٍ أَوْلى مِنَ العكسِ» لا يَنضبطُ إلَّا عند مَنْ يجيزُ هذه الاستدارةَ وهو مذهبُ الجمهورِ(١)، وهو الصَّحيحُ؛ لثُبوتِها مِنْ فعلِ مؤذِّنِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بحضرتِهِ وإقرارِهِ، كما ثَبَت ذلك في حديثِ أبي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه أنَّه رأى بلالًا رضي الله عنه يؤذِّن قال: «فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَهُنَا وَهَهُنَا بِالأَذَانِ»(٢)، وهذا خلافًا لابنِ سيرينَ الَّذي كَرَّهها ومالكٍ الَّذي أَنكَرها، ورُوِي عنه جوازُه إذا أراد الإسماعَ(٣)، هذا مِنْ جهةٍ؛ كما أنَّ هذا التَّقعيدَ ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ لا يَنضبِطُ إلَّا عندَ مَنْ يرى أنَّ المُؤذِّنَ في استدارتِه يَلتفِتُ برأسِه وبدنِه، أي: يستديرُ كُلُّه عنِ القِبلةِ أثناءَ التَّلفُّظِ بالحَيعلَتينِ ويَستَدبِرُها، وهذا قولٌ مرجوحٌ، وإنَّما الصَّحيحُ في ذلك هو قولُ مَنْ يرى أنَّه يلتفتُ برأسِه وتكونُ قَدَماهُ قارَّتينِ مُستقبِلتَيِ القِبلةِ، فيَستديرُ برأسِه ويَلوي عُنُقَه مع جهةِ القِبلةِ يمينًا وشمالًا مِنْ غيرِ أَنْ يَنصرِفَ عنها، وهو معنَى قولِه: «فَخَرَجَ بِلَالٌ فَأَذَّنَ، فَكُنْتُ أَتَتَبَّعُ فَمَهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا»، ويُؤَيِّد ذلك ما ثَبَت عند أبي داودَ: «فَلَمَّا بَلَغَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ على الفلاحِ لَوَى عُنُقَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا وَلَمْ يَسْتَدِرْ»(٤)، وفي روايةٍ: «يَنْحَرِفُ يَمِينًا وَشِمَالًا»(٥)؛ ولا تَعارُضَ بين هذه الأحاديثِ المُثبِتةِ للاستدارةِ والأحاديثِ النَّافيةِ لها، لعدمِ صحَّةِ قولِه فيها عند أبي داودَ: «وَلَمْ يَسْتَدِرْ»، وعلى فرضِ صِحَّتِها فلا يتعذَّرُ الجمعُ والتَّوفيقُ بينها وبين المُثبِتة؛ قالَ ابنُ حَجَرٍ ـ رحمه الله ـ: «ويُمكِنُ الجَمعُ بأنَّ مَنْ أَثبتَ الاستدارةَ عَنَى استدارةَ الرَّأسِ، ومَنْ نَفَاها عَنَى استدارةَ الجَسدِ كُلِّه»(٦).

وبناءً على ما تَرجَّح، فلا يكون المُؤذِّنُ ـ عند الدُّعاءِ إلى الصَّلاةِ بالْتِفاتِه عن يمينِه وشِمالِه ـ مُستدبِرَ الكعبةِ، بل الْتِفاتُه لا يخرجُ عن جهةِ القِبلةِ ولا يَنصرفُ عنها، فلا إخلالَ ـ حينَئذٍ ـ بأدبِ استقبالِ الكعبةِ، حيثُ إنَّه لَم يَستدبِرْها؛ ولم يَستدِرْ عنها.

وإذا تَقرَّر ذلك، لم يَعُدِ المِثالُ التَّطبيقيُّ ـ على الرَّاجح ـ صالحًا للتَّقعيدِ المَذكورِ، ولا يَستقيمُ في صِحَّتِه إلَّا على القولِ بالاستدارةِ الكُلِّيَّةِ.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١٢ رجب ١٤٤٣ﻫ
المـوافـق ﻟ: ١٣ فبراير ٢٠٢٢م



(١) انظر: «المغني» لابن قدامة (١/ ٤٢٦)، «الاختيار» لابن مودود (١/ ٤٣)، «مغني المحتاج» للشربيني (١/ ١٣٦).

(٢) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الأذان» (٦٣٤) باب: هل يتتبَّعُ المؤذِّنُ فاه هاهنا وهاهنا؟ وهل يلتفت في الأذان؟ ومسلمٌ في «الصلاة» (٥٠٣) بابُ سُترةِ المصلِّي.

(٣) انظر: «المدوَّنة» (١/ ٦١)، «التفريع» لابن الجلَّاب (١/ ٢٢٢).

(٤) أخرجه أبو داود في «الصلاة» (٥٢٠) بابٌ في المؤذِّن يستدير في أذانه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح أبي داود» (٣/ ٩)، وقال: «قوله فيها: «ولم يستدر» شاذٌّ بل مُنكَرٌ». وانظر: «تمام المِنَّة» (١٥١).

(٥) أخرجه النسائيُّ في «الأذان» (٦٤٣) باب: كيف يصنع المؤذِّن في أذانه، مِنْ حديثِ أبي جُحَيْفة رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح النسائي» (٦٤٣).

(٦) «فتح الباري» لابن حجر (٢/ ١١٥).