في أحكامٍ تخصُّ زوجةَ المفقود | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الثلاثاء 7 شوال 1445 هـ الموافق لـ 16 أبريل 2024 م



الفتوى رقم: ٢٠٠

الصنف: فتاوى الأسرة ـ عقد الزواج ـ إنشاء عقد الزواج

في أحكامٍ تخصُّ زوجةَ المفقود

السؤال:

امرأةٌ زوجُها مفقودٌ وذلك منذ خمسِ سَنَواتٍ، والزوجةُ ـ الآنَ ـ عند والِدِها الذي يتكفَّلُ بها منذ أربعِ سنواتٍ، نرجو منكم توضيحَ ما يلي:

١ ـ هل يجب على الزوجة عِدَّةٌ؟

٢ ـ هل الأفضل لها أَنْ تنتظره مع عدمِ وجودِ ما يُرجِّحُ حياتَه؟

٣ ـ هل تَرِثُه إِنْ تزوَّجَتْ غيرَه؟

٤ ـ إِنْ تزوَّجَتْ غيرَه ثمَّ ظَهَرَ أنه حيٌّ، كيف الحكمُ في ذلك؟

بارك الله لكم ـ شيخَنا ـ في أوقاتكم وأعمالِكم وسدَّد خُطاكم.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فاعْلَمْ أنَّ لزوجةِ المفقود أَنْ تصبر وتنتظر ولا تطلبَ التفريقَ حتَّى يتبيَّن حالُ زوجها مِنْ حيث حياتُه أو موتُه؛ ولها الحقُّ في الأخذ بمبدإ التفريق ـ إِنْ رَغِبَتْ فيه ـ لِفَواتِ الإمساك بمعروفٍ بسببِ غَيْبة الزوج وفقدانِه؛ فتَعيَّنَ التسريحُ بإحسانٍ إِنْ طلَبَتْه الزوجةُ لأنه حقُّها؛ لقوله تعالى: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖ[البقرة: ٢٢٩]، وللقاضي الحكمُ على الغائب عند اقتضاء المصلحة الشرعيَّة، وقد قضى عمر بنُ الخطَّاب رضي الله عنه بالتفريق بين المرأة وزوجها المفقود، وبه قال جماعةٌ مِنَ الصحابة كعليٍّ وابنِ عبَّاسٍ وابنِ عمر رضي الله عنهم وغيرِهم، وبه قضى ابنُ الزبير، ولم يُنْقَلْ خلافٌ في ذلك.

أمَّا الأحاديث الواردةُ في أنها «امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا البَيَانُ»(١) فروايةٌ ضعيفةٌ لا تصلح للاحتجاج؛ أمَّا ما نُقِلَ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه أنه قال: «هِيَ امْرَأَةٌ ابْتُلِيَتْ؛ فَلْتَصْبِرْ حَتَّى يَأْتِيَهَا مَوْتٌ أَوْ طَلَاقٌ»(٢) فمُرْسَلٌ، وقد جاء مِنَ المُسْنَدِ ما يُعارِضُه، وهو الموافقُ لقول عمر بنِ الخطَّاب رضي الله عنه في القول بالتفريق لفقدان الزوج؛ ولا يخفى أنَّ مِنْ قواعدِ الترجيح مِنْ جهةِ السند تقديمَ الخبر المُسْنَد على المُرْسَل.

ومِنْ جهةٍ أخرى فإنَّ غَيْبة المفقود تُسبِّبُ لزوجته ضررًا مُؤكَّدًا؛ لكونِ فقدانه يُفوِّتُ على الزوجة أغراضَ الزواج؛ و«الضَّرَرُ يُزَالُ»؛ عملًا بقوله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»(٣)؛ فيُدْفَعُ قبل الوقوع ويُرْفَعُ بعده؛ وإذا كان تشريعُ الإيلاء والتفريقِ بسببِ عدمِ الإنفاق على الزوجة أو لِعُنَّةِ(٤) الزوج لِدَفْعِ الضرر عنها؛ فالتفريقُ لفَقْدِ الزوج أَحَقُّ وأَوْلى بالأخذ؛ ولها الخيارُ بين الحقَّين السابقين، والأَفْضلُ أَنْ تُرجِّحَ ما يدفع عنها الضررَ ويُحقِّقُ لها مصلحتَها.

وأمَّا إِنِ انتظرَتْ بيانَ حالِ زوجها، وعدَلَتْ عن المُطالَبةِ بالتفريق فإنها تتربَّصُ مدَّةَ أربع سنواتٍ مع اختلافٍ في ابتدائها: فقِيلَ: إنَّها تبدأ مِنْ حينِ انقطاعِ خبر الزوج المفقود؛ لأنَّ الانقطاع ظاهرٌ في موته؛ فكان ابتداءُ المدَّة منه، ولا يفتقر الأمرُ إلى الحاكم؛ فلو مضَتِ المدَّةُ والعِدَّةُ تزوَّجَتْ بلا حاكمٍ، وهي الروايةُ الثانية للحنابلة، وبها قال ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ كما في «الاختيارات»(٥).

والصحيح ـ عندي ـ أنَّ بداية التربُّص مِنْ حينِ قرار الحاكم؛ لضَبْطِ القضايا والأحكام، ولكون تاريخِ مُراجَعةِ الزوجة للقاضي ثابتًا ومحدَّدًا ولا مجالَ فيه للاجتهاد والاختلاف؛ مع العلم أنَّ للقاضي تحديدَ بدء المدَّة مِنْ أيَّام أعمال التحرِّي والتفتيش عن المفقود، ولأنَّ الثابت عن عمر رضي الله عنه أنه أَمَرَ مَنْ فُقِدَ زوجُها أَنْ تتربَّص أربعَ سنواتٍ مِنْ حينِ رَفْعِ أمرِها إلى الحاكم(٦).

هذا، وبعد مُضِيِّ المدَّةِ المذكورة فإنَّ الزوجة تَعْتَدُّ عِدَّةَ الوفاة ولو لم تُتَيقَّنْ وفاتُه؛ لأنَّ المفقود بعد مُضِيِّ المدَّة في حكم الميِّت، وقد يتقرَّرُ هذا الحكمُ قضائيًّا؛ وفي مدَّة التربُّص تكون نَفَقتُها مِنْ مالِ زوجها؛ لأنها لا تَزالُ زوجتَه المحبوسة مِنْ أَجْله، وأموالُه تابعةٌ للحكم بموته، وتُقْسَمُ بين الورثة وهي منهم؛ فإِنْ ظَهَرَ حيًّا أَخَذَ ما بَقِيَ مِنْ أمواله بأيدي الوَرَثة.

وإِنْ كانَتْ عودتُه قبل مُضِيِّ تربُّصِ الزوجة أو قبل عِدَّتها فإنها زوجتُه لأنَّ التفريقَ لم يَقَعْ؛ فإِنِ انتهى أَجَلُها وعِدَّتُها ولم تتزوَّج مِنْ آخَرَ فتبقى امرأتَه؛ لأنه إذا أُبيحَ لها الزواجُ فذلك محمولٌ على الحكم بموته؛ فإذا ظَهَرَ حيًّا بَطَلَ ذلك الظاهرُ وانخرم وكان النكاحُ بحاله.

أمَّا إذا كانَتْ عودةُ الزوجِ المفقودِ بعد أَنْ تزوَّجَتْ: فإمَّا أَنْ يكون قد دَخَلَ بها الزوجُ الثاني أو لا: فإِنْ كان قبل الدخول فتُرَدُّ إلى زوجها الأوَّل بنكاحها الأوَّل كما لو لم تتزوَّج؛ لأنَّ النكاح إنما صحَّ في الظاهر دون الباطن؛ فلمَّا ظَهَرَ المفقودُ فإنَّ النكاح صادَفَ امرأةً ذاتَ زوجٍ فكان باطلًا.

وإِنْ كانَتْ عودتُه بعد الدخول بها فله التخييرُ بين أَخْذِها ـ فتكونُ زوجتَه بالعقد الأوَّل لأنَّ نكاحَ الثاني كان باطلًا في الباطن، ويجب على زوجها الأوَّلِ اعتزالُهَا حتَّى تنقضيَ عِدَّتُها مِنَ الثاني ـ وبين أَخْذِ صَداقِها فتكونُ زوجةَ الثاني ويرجعُ بالصَّداق الذي أَصْدَقها هو، فإِنْ لم يدفع إليها صَداقًا فلا يرجع بشيءٍ؛ وهذا الحكمُ مذهبُ عمر وعثمان رضي الله عنهما، وقضى به ابنُ الزبير رضي الله عنهما، ولم يُعْرَفْ لهم مُخالِفٌ في عصرِهم فكان إجماعًا؛ على أنَّ الزوجة إِنْ عادَتْ إلى الأوَّل فلا يرجع الثاني على الزوجة بما أُخِذَ منه، وهو أَظْهَرُ القولين.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

 



(١) أخرجه الدارقطنيُّ في «سننه» (٣٨٤٩)، والبيهقيُّ في «سننه الكبرى» (١٥٥٦٥)، مِنْ حديثِ المغيرة بنِ شعبة رضي الله عنه. قال الألبانيُّ في «السلسلة الضعيفة» (٢٩٣١): «ضعيفٌ جدًّا».

(٢) أخرجه عبد الرزَّاق في «مصنَّفه» (١٢٣٣٠).

(٣) أخرجه ابنُ ماجه في «الأحكام» بابُ مَنْ بنى في حقِّه ما يضرُّ بجاره (٢٣٤٠) مِنْ حديثِ عُبادة بنِ الصامت رضي الله عنه؛ و(٢٣٤١) مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «الإرواء» (٣/ ٤٠٨) رقم: (٨٩٦) وفي «السلسلة الصحيحة» (٢٥٠).

(٤) العُنَّة: عجزٌ يُصِيبُ الرَّجلَ فَلَا يقدر على الجِمَاع، [انظر: «المعجم الوسيط» (٢/ ٦٣٣)].

(٥) انظر: «اختيارات ابنِ تيمية» للبعلي (٢٣٥)، «الفتاوى الكبرى» لابن تيمية (٤/ ٥٨٧).

(٦) انظر الأثرَ الذي أخرجه مالكٌ في «الموطَّإِ» ـ تحقيق الأعظمي ـ (٢١٣٤)، وابنُ أبي شيبة في «المصنَّف» (١٦٧٢٠)، وعبد الرزَّاق في «المصنَّف» (١٢٣٢٠). وصحَّحه ابنُ الملقِّن في «البدر المنير» (٨/ ٢٢٨)، وانظر طُرُقَه في: «نصب الراية» للزيلعي (٣/ ٤٧١)، و«التلخيص الحبير» لابن حجر (٣/ ٢٣٥).