«التصفيف الحادي والعشرون: عقيدة الإثبات والتَّنزِيه (٣)» | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الخميس 9 شوال 1445 هـ الموافق لـ 18 أبريل 2024 م

العقائد الإسلامية
مِنَ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية

للشيخ عبد الحميد بنِ باديس (ت: ١٣٥٩ﻫ)

بتحقيق وتعليق د: أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ

«التصفيف الحادي والعشرون: عقيدة الإثبات والتَّنـزِيه (٣)»

 الأَرْبَعُونَ: فَمِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى: الْحَيَاةُ(١)، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾(٢)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴾(٣)، ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ﴾(٤).



(١) الحياة صفة ذاتية لله عز وجل ثابتة بالآيات القرآنية التي استدل بها المصنف – رحمه الله – وبالسنة الصحيحة كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: «اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ، أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي، أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ» [أخرجه البخاري في «التوحيد» (١٣/ ٣٦٨)، باب قول الله تعالى: ﴿وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾، ومسلم في «الذكر والدعاء والتوبة» (١٧/ ٣٨)، باب الأدعية]، وحديث أسماء بن يزيد رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ وَفَاتِحَةِ آلِ عِمْرَانَ: ﴿ألم، اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ الْقَيُّومُ﴾» [أخرجه أبو داود في «الصلاة» (٢/ ١٦٨)، باب الدعاء، والترمذي في «الدعوات» (٥/ ٥١٧)، باب (٦٥)، وابن ماجه في «الدعاء» (٢/ ١٢٦٧)، باب اسم الله الأعظم، والحديث حسن بشواهده، انظر: «صحيح أبي داود» للألباني (١/ ٤١٠)]، وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كربه أمر قال: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ» [أخرجه الترمذي في «الدعوات» (٥/ ٥٣٩)، باب (٩٢)، والحديث حسّنه الألباني في «صحيح الترمذي» (٣/ ٤٤٧)]».

والحي الباقي الذي لا سبيل للفناء عليه، وهو اسم من أسماء الله الحسنى، ويتضمن هذا الاسم جميع معاني كمال الحياة من السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة والإرادة وغيرها من الصفات الذاتية، ويستلزم إثبات كمال الحياة إثبات كل كمال يضادُّ نفي كمال الحياة كالمرض والموت والفناء، قال الهراس – رحمه الله – في شرحه ﻟ «النونية» (٢/ ١٠٣): «ومعنى الحي: الموصوف بالحياة الكاملة الأبدية التي لا يلحقها موت ولا فناء، لأنها ذاتية له سبحانه، وكما أن قيوميته مستلزمة لسائر صفات الكمال الفعلية فكذلك حياته مستلزمة لسائر صفات الكمال الذاتية من العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والعزة والكبرياء والعظمة ونحوها».

قال ابن أبي العز في «شرح العقيدة الطحاوية» (١٢٤ -١٢٥): «فالحي بحياة باقية لا يشبه الحي بحياة فانية ... فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة، فإذا كانت حياته أكمل حياة وأتمها استلزم إثباتُها إثباتَ كل كمال يضادُّ نفيُه كمالَ الحياة» [بتصرف].

وفي هذا المقام يجدر التنبيه إلى أمرين متعلقين بهذا الموضوع:

-        الأول: منع التعبير عن حياة الله بأنها روح الله كما تعتقده النصارى ومن تبعهم في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ [النساء: ١٧١]، فإنه لا يُعْرَفُ مثل هذا التعبير عن الأنبياء والمرسلين، قال ابن تيمية – رحمه الله – في «الجواب الصحيح» (٤/ ٥٠): «لم يعبِّر أحد من الأنبياء عن حياة الله بأنها روح الله، فمن حمل كلام أحد من الأنبياء بلفظ الروح أنه يراد به حياة الله فقد كذب».

-        الثاني: جواز استعمال لفظ «العَمْر» على بقاء الله وحياته، ويدل على جواز استعماله ما ثبت في حديث الإفك أن سعد بن معاذ رضي الله عنه قال: «يَا رَسُولَ اللهِ! أَنَا أعذرُك مِنْهُ، إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرَكَ»، فقال سعد بن عبادة رضي الله عنه: «كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللهِ لاَ تَقْتُلُهُ»، فقام أُسَيدُ بنُ حُضَير رضي الله عنه فقال: «كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللهِ لَنَقْتُلَنَّهُ...» [بتصرف]، [أخرجه البخاري في «التفسير» (٨/ ٤٥٢)، باب ﴿وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ﴾ من حديث عائشة رضي الله عنها]، قال البيهقي في «الاعتقاد» (٣٧) في الحديث السابق: «فحلف كل واحد منهما بحياة الله وبقائه، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع»، علمًا أنَّ لفظة «العَمْر» وإن دلَّت على الحياة والبقاء فاستعمالها مفتوحة إنما يكون في القسم خاصَّة، قال ابن حجر –رحمه الله – في «فتح الباري» (٨/ ٤٧٢): «العَمر بفتح العين المهملة هو البقاء، وهو العُمر بضمها، لكن لا يستعمل في القسم إلا بالفتح».

(٢) جزء آية ٥٥ من سورة البقرة وجزء آية ٢ من سورة آل عمران.

(٣) جزء آية ١١١ من سورة طه.

وفي آية الكرسي وفاتحة آل عمران وآية طه اقتران اسم «الحي» باسم «القيوم» لكونهما متضمنين لصفات الكمال أعظم تضمن، فالصفات الذاتية تعود إلى اسمه «الحي»، والصفات الفعلية ترجع إلى اسمه «القيوم»، لذلك ذهب بعض أهل العلم إلى أن اسم الله الأعظم هو «الحي القيوم» ومنهم الإمام ابن القيم – رحمه الله – حيث أفصح عنه في «القصيدة النونية» (٣٣) بقوله:

اِسْمُ الإِلَهِ الأَعْظَمُ اشْتَمَلاَ عَلَى اسْـ*****ـمِ «الْحَيِّ» وَ«الْقَيُّومِ» مُقْتَرِنَانِ

وقال –رحمه الله– في «الصواعق المرسلة» (٣/ ٩١١): «وكان اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: آية الكرسي، وفاتحة آل عمران، لاشتمالهما على صفة الحياة المصحِّحة لجميع الصفات، وصفة القيومية المتضمنة لجميع الأفعال، ولهذا كانت سيدة آي القرآن وأفضلها، ولهذا كانت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن لأنها أخلصت الأخبار عن الرب تعالى وصفاته دون خلقه وأحكامه وثوابه وعقابه ...».

وقال ابن أبي العز الحنفي – رحمه الله – في «شرح العقيدة الطحاوية» (١٢٤): «واعلم أن هذين الاسمين -
أعني «الحي القيوم» - مذكوران في القرآن معا في ثلاث سور، وهما من أعظم أسماء الله الحسنى، حتى قيل: «إنهما الاسم الأعظم»، فإنهما يتضمنان إثباتَ صفاتِ الكمال أكملَ تضمُّنٍ وأصدقَه، ويدل القيوم على معنى الأزلية والأبدية ما لا يدل عليه لفظ القديم، ويدل أيضا على كونه موجودا بنفسه وهو معنى كونه واجبَ الوجودِ، والقيوم أبلغ من القيَّام، لأن الواو أقوى من الألف، ويفيد قيامه بنفسه باتفاق المفسرين وأهل اللغة ... واقترانه بالحي يستلزم سائر صفات الكمال، ويدل على بقائها ودوامها وانتفاء النقص والعدم عنها أزلاً وأبدًا».

(٤) جزء من آية ٥٨ من سورة الفرقان.

وقد أثبت الله تعالى في هذه الآية أصل جميع الصفات وهو صفة الحياة، ولذلك يرى ابن تيمية – رحمه الله – أن الاسم الأعظم يتجلَّى في اسمِ «الحي» فقال -رحمه الله- في «مجموع الفتاوى» (١٨/ ٣١١): «فالحي نفسه مستلزم لجميع الصفات، وهو أصلها، ولهذا كان أعظم آية في القرآن: ﴿اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، وهو الاسم الأعظم، لأنه ما من حي إلا وهو شاعر مريد، فاستلزم جميعَ الصفات، فلو اكْتَفَى في الصفات بالتلازم لاكْتَفَى بالحي، وهذا ينفع في الدلالة والوجود».

وفي الآية نفسها نفى الله عز وجل عن نفسه الموت، وهو صفة نقص كالنوم والسِّنَة والنسيان والعجز والتعب والفناء والظلم وغيرها من الصفات السلبية التي تأتي غالبا في الكتاب والسنة مسبوقة بأداة نفي مثل: «ليس» و«ما» و«لم» و«لا»، وما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من الصفات فالواجب إثبات ضدها من الكمال.