التصفيف الرابع والخمسون: [الباب الثاني عشر] عقائد الإيمان باليومِ الآخِر ـ ٢ ـ | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م

العقائد الإسلامية
مِنَ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية

للشيخ عبد الحميد بنِ باديس (ت: ١٣٥٩ﻫ)

بتحقيق وتعليق د: أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ

التصفيف الرابع والخمسون:
[الباب الثاني عشر]
عقائد الإيمان باليومِ الآخِر
ـ ٢ ـ

[الفصل ٧٤: المَعَادُ(١) والبعث](٢)

نُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحْيِينَا بَعْدَ المَوْتِ، وَيُعِيدُنَا بِأَرْوَاحِنَا وَأَجْسَادِنَا: فَيَبْعَثُنَا(٣) ـ مِنْ قُبُورِنَا وَمِنْ حَيْثُ كُنَّا ـ إِلَى المَوْقِفِ الأَعْظَمِ لِلْمُحَاسَبَةِ عَلَى الأَعْمَالِ وَالجَزَاءِ عَلَيْهَا(٤)؛ إِذْ ذَلِكَ(٥) جَائِزٌ فِي قُدْرَتِهِ، وَوَاجِبٌ فِي عَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ(٦)؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلِ ٱللَّهُ يُحۡيِيكُمۡ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يَجۡمَعُكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ[الجاثية: ٢٦]، وَلِقَوْلِهِ(٧): ﴿كَمَا بَدَأۡنَآ أَوَّلَ خَلۡقٖ نُّعِيدُهُۥ[الأنبياء: ١٠٤]، وَلِقَوْلِهِ(٧): ﴿إِنَّ ٱلَّذِي فَرَضَ عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٖ[القَصص: ٨٥]، وَلِقَوْلِهِ(٧): ﴿ثُمَّ إِنَّكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ تُبۡعَثُونَ ١٦[المؤمنون]، وَلِقَوْلِهِ(٧): ﴿مِنۡهَا خَلَقۡنَٰكُمۡ وَفِيهَا نُعِيدُكُمۡ وَمِنۡهَا نُخۡرِجُكُمۡ تَارَةً أُخۡرَىٰ ٥٥[طه]، وَلِقَوْلِهِ(٧): ﴿خُشَّعًا أَبۡصَٰرُهُمۡ يَخۡرُجُونَ مِنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ[القمر: ٧]، وَلِقَوْلِهِ(٧): ﴿يَوۡمَ يَجۡمَعُكُمۡ لِيَوۡمِ ٱلۡجَمۡعِۖ [ذَٰلِكَ يَوۡمُ ٱلتَّغَابُنِ](٨)[التغابن: ٩]، وَلِقَوْلِهِ(٩): ﴿يَوۡمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٦[المطفِّفين]، وَلِقَوْلِهِ(٩): ﴿وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٖ جَاثِيَةٗۚ كُلُّ أُمَّةٖ تُدۡعَىٰٓ إِلَىٰ كِتَٰبِهَا ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٢٨ هَٰذَا كِتَٰبُنَا يَنطِقُ عَلَيۡكُم بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّا كُنَّا نَسۡتَنسِخُ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٢٩[الجاثية]، وَلِقَوْلِهِ(٩): ﴿يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡ‍ٔٗاۚ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۢ بَهِيجٖ ٥ ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّهُۥ يُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَأَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٦ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٞ لَّا رَيۡبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبۡعَثُ مَن فِي ٱلۡقُبُورِ ٧[الحج]، وَلِقَوْلِهِ(٩): ﴿أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ(١٠) عَبَثٗا وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ ١١٥ فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡحَقُّۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡكَرِيمِ ١١٦﴾ [المؤمنون].

ـ يُتبَع ـ



(١) «م.ر.أ»: «الميعاد».

(٢) «م.ر»: بزيادةِ عنوانٍ فرعيٍّ: «البعثُ».

(٣) ساقطةٌ مِنْ «م.ر.ش».

(٤) بعد أَنْ بيَّن المصنِّف ـ رحمه الله ـ وجوبَ الإيمانِ بانتهاء الوجود الدنيويِّ عند انتهاءِ أجَلِ وجوده في علمِ الله وانقضاءِ الخليقة، تَناوَل ـ في هذا الفصل ـ حدوثَ الوجود الأخرويِّ الذي يبدأ بالبعث والمَعاد الجسمانيِّ، وهو: إعادةُ العبدِ روحًا وجسدًا كما كان في الحياة الدنيا، ويكون إحياءُ الأبدان بعد موتها بجمع أجزائها بعد التفرقة كما سيأتي؛ فيجب الإيمانُ بأنَّ الله يبعث ـ مِنْ جديدٍ ـ جميعَ العباد ـ مقدَّمِهم ومؤخَّرِهم ـ في نشأةٍ أخرى، يُعيدُهم بعد إيجادهم بجميع أجزائهم الأصليَّة، ويجمعهم لميقاتِ يومٍ معلومٍ قدَّره اللهُ لعباده؛ فيسوقهم إلى مَحْشَرِهم لفصلِ القضاء، فيُجازيهم على أعمالهم التي عملوها في دار التكليف؛ قال تعالى: ﴿قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَوَّلِينَ وَٱلۡأٓخِرِينَ ٤٩ لَمَجۡمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَٰتِ يَوۡمٖ مَّعۡلُومٖ ٥٠[الواقعة].

هذا، والأدلَّةُ مِنَ القرآن الكريم كثيرةٌ في إثبات البعث والردِّ على المُنْكِرين له بمخاطبةِ عقولهم، ونكتفي بالاستدلال عليه مِنْ هذه الوجوه:

¨  إمَّا بالاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، وبالقدرة الكافية التي بها خَلَق آدَمَ مِنْ ترابٍ وذُرِّيَّتَه مِنْ نطفةٍ على إمكان المَعاد والبعث، أي: إذا كان اللهُ تعالى قادرًا على ابتداءِ خَلْقِ العباد بعد أَنْ لم يكونوا شيئًا مذكورًا فهو قادرٌ ـ بالأحرويَّة ـ على إعادتهم وتبديلِ خَلْقِهم ـ يومَ القيامة ـ وأَنْ يُنْشِئهم في صفاتٍ وأحوالٍ هو ـ سبحانه ـ أعلمُ بها؛ قال تعالى: ﴿قَدَّرۡنَا بَيۡنَكُمُ ٱلۡمَوۡتَ وَمَا نَحۡنُ بِمَسۡبُوقِينَ ٦٠ عَلَىٰٓ أَن نُّبَدِّلَ أَمۡثَٰلَكُمۡ وَنُنشِئَكُمۡ فِي مَا لَا تَعۡلَمُونَ ٦١ وَلَقَدۡ عَلِمۡتُمُ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأُولَىٰ فَلَوۡلَا تَذَكَّرُونَ ٦٢[الواقعة]؛ قال ابنُ كثيرٍ ـ رحمه الله ـ في [«تفسيره» (٤/ ٢٩٥)]: «أي: قد علمتم أنَّ الله أنشأكم بعد أَنْ لم تكونوا شيئًا مذكورًا، فخَلَقكم وجَعَل لكم السمعَ والأبصارَ والأفئدة؛ فهلَّا تتذكَّرون وتعرفون أنَّ الذي قَدَر على هذه النشأةِ ـ وهي البداءةُ ـ قادرٌ على النشأة الأخرى ـ وهي الإعادة ـ بطريقِ الأَوْلى والأحرى، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَهُوَ أَهۡوَنُ عَلَيۡهِ[الروم: ٢٧]، وقال: ﴿أَوَلَا يَذۡكُرُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَٰهُ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ يَكُ شَيۡ‍ٔٗا ٦٧﴾ [مريم]، وقال تعالى: ﴿أَوَلَمۡ يَرَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَٰهُ مِن نُّطۡفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِينٞ ٧٧ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلٗا وَنَسِيَ خَلۡقَهُۥۖ قَالَ مَن يُحۡيِ ٱلۡعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٞ ٧٨ قُلۡ يُحۡيِيهَا ٱلَّذِيٓ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلۡقٍ عَلِيمٌ ٧٩﴾ [يس]، وقال تعالى: ﴿أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى ٣٦ أَلَمۡ يَكُ نُطۡفَةٗ مِّن مَّنِيّٖ يُمۡنَىٰ ٣٧ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةٗ فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ ٣٨ فَجَعَلَ مِنۡهُ ٱلزَّوۡجَيۡنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰٓ ٣٩ أَلَيۡسَ ذَٰلِكَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يُحۡـِۧيَ ٱلۡمَوۡتَىٰ ٤٠﴾ [القيامة]».

قلت: ومِنْ ذلك قولُه تعالى: ﴿كَمَا بَدَأۡنَآ أَوَّلَ خَلۡقٖ نُّعِيدُهُۥۚ وَعۡدًا عَلَيۡنَآۚ إِنَّا كُنَّا فَٰعِلِينَ ١٠٤[الأنبياء]، وقولُه تعالى: ﴿فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَاۖ قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ﴾ [الإسراء: ٥١]، وقولُه تعالى: ﴿أَفَعَيِينَا بِٱلۡخَلۡقِ ٱلۡأَوَّلِۚ بَلۡ هُمۡ فِي لَبۡسٖ مِّنۡ خَلۡقٖ جَدِيدٖ ١٥﴾ [ق]، والآياتُ بمثلِ هذا كثيرةٌ جدًّا، وقد ذَكَر جزءًا منها المصنِّفُ ـ رحمه الله ـ.

¨  وإمَّا بالاستدلال بتحويل الإنسان مِنْ حالٍ إلى حالٍ وتطوُّرِه في الخَلْق، وما تُخْرِجُه الأرضُ مِنَ الزرع والنبات؛ قال تعالى: ﴿يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡ‍ٔٗاۚ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۢ بَهِيجٖ ٥ ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّهُۥ يُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَأَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٦ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٞ لَّا رَيۡبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبۡعَثُ مَن فِي ٱلۡقُبُورِ ٧[الحج]؛ وهذه الآيات تتضمَّنُ دليلَيْن عقليَّيْن يُقْطَعُ بهما التكذيبُ بوقوع البعث والشكُّ فيه:

الدليل الأوَّل: أنَّ الله خَلَق الإنسانَ مِنْ طَوْرٍ إلى طورٍ، خَلْقًا بعد خلقٍ؛ ليبيِّنَ ـ بهذا النقل ـ كمالَ قدرتِه على بعثِ الناس بعد الموت، وأنه على كُلِّ شيءٍ قديرٌ؛ «لأنَّ مَنْ قَدَرَ على خَلْقِ البشر مِنْ ترابٍ أوَّلًا، ثمَّ مِنْ نطفةٍ ثانيًا، مع ما بين النطفة والتراب مِنَ المنافاة والمغايرة، وقَدَر على أَنْ يجعل النطفةَ عَلَقةً مع ما بينهما مِنَ التباين والتغاير، وقَدَر على أَنْ يجعل العَلَقةَ مُضْغةً، والمُضْغةَ عظامًا؛ فهو قادرٌ ـ بلا شكٍّ ـ على إعادةِ ما بَدَأه مِنَ الخَلْق» [«أضواء البيان» للشنقيطي (٥/ ٢٥)]؛ وفي الصحيحين مِنْ حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ، قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ» الحديث [مُتَّفَقٌ عليه: رواهُ البخاريُّ «بدء الخَلْق» (٦/ ٣٠٣) بابُ ذِكْرِ الملائكة، وفي «التوحيد» (١٣/ ٤٤٠) بابُ قوله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ سَبَقَتۡ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٧١﴾ [الصافَّات]، ومسلمٌ في «القَدَر» (١٦/ ١٩٠) بابُ كيفيَّةِ خَلْقِ الآدميِّ في بطنِ أمِّه]؛ قال ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ في [«فتح الباري» (١١/ ٤٨٨)] في شرحه للحديث ما نصُّه: «وفيه التنبيهُ على صدقِ البعث بعد الموت؛ لأنَّ مَنْ قَدَر على خَلْقِ الشخص مِنْ ماءٍ مَهينٍ ثمَّ نقلِه إلى العَلَقة ثمَّ إلى المُضْغة ثمَّ ينفخ الروحَ فيه؛ قادرٌ على نفخِ الروح بعد أَنْ يصير ترابًا ويجمعَ أجزاءَه بعد أَنْ يفرِّقها، ولقد كان قادرًا على أَنْ يخلقه دفعةً واحدةً، ولكِنِ اقتضَتِ الحكمةُ بنقله في الأطوار رفقًا بالأمِّ؛ لأنها لم تكن معتادةً فكانَتِ المَشَقَّةُ تَعْظُمُ عليها؛ فهيَّأه في بطنها بالتدريج إلى أَنْ تَكامَل؛ ومَنْ تَأمَّلَ أصلَ خَلْقِه مِنْ نطفةٍ وتنقُّله في تلك الأطوار إلى أَنْ صار إنسانًا جميلَ الصورةِ مفضَّلًا بالعقل والفهم والنطق؛ كان حقًّا عليه أَنْ يشكر مَنْ أنشأه وهيَّأه، ويعبدَه حقَّ عبادتِه، ويطيعَه ولا يَعصِيَه».

الدليل الثاني: قدرتُه تعالى على إحياء الموتى كما يحيي الأرضَ الميِّتةَ الخاشعةَ التي لا نباتَ فيها؛ فإنه إذا أَنْزَل اللهُ عليها المطرَ تحرَّكَتْ بالنبات وحَيِيَتْ بعد موتها وارتفعَتْ ثمَّ أنبتَتْ ما فيها مِنَ الزروع والثمار والنباتات على اختلافِ أشكالها وأنواعِها وألوانِها وطعومِها وروائحِها ومنافعِها؛ فإنَّ الذي أحياها لَمُحيي الموتى؛ فكما أنه هو الذي أوجدهم بعد العدم فكذلك يُعيدهم بعد أَنْ صاروا في قبورهم رُفاتًا ورِمَمًا، فيبعثُهم مِنْ جديدٍ.

وفي تقريرِ ذلك كثيرٌ مِنَ الآيات في القرآن الكريم دالَّةٌ على البعث مثل: قولِه تعالى: ﴿وَيُحۡيِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ وَكَذَٰلِكَ تُخۡرَجُونَ ١٩[الروم] أي: مِنْ قبوركم أحياءً بعد الموت، وقولِه تعالى: ﴿وَأَحۡيَيۡنَا بِهِۦ بَلۡدَةٗ مَّيۡتٗاۚ كَذَٰلِكَ ٱلۡخُرُوجُ ١١[ق] أي: خروجُكم مِنَ القبور أحياءً بعد الموت، وقولِه تعالى: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَآ أَقَلَّتۡ سَحَابٗا ثِقَالٗا سُقۡنَٰهُ لِبَلَدٖ مَّيِّتٖ فَأَنزَلۡنَا بِهِ ٱلۡمَآءَ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِۚ كَذَٰلِكَ نُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ ٥٧[الأعراف]، وقولِه تعالى: ﴿فَٱنظُرۡ إِلَىٰٓ ءَاثَٰرِ رَحۡمَتِ ٱللَّهِ كَيۡفَ يُحۡيِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَآۚ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٥٠[الروم]، وغيرِها مِنَ الآيات.

¨  وإمَّا بالاستدلال بالاستيقاظ بعد الوفاة الصغرى ـ وهي نومُ الإنسان، ثمَّ إرسال اللهِ روحَه إلى بدنه ـ على إمكان المَعاد والبعث بعد الوفاة الكبرى، حيث يُمْسِكُ اللهُ رُوحَه عنده إلى أَنْ يبعثها مِنْ جديدٍ؛ ولهذا جاء الاستدلالُ به في قوله تعالى: ﴿ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِي لَمۡ تَمُتۡ فِي مَنَامِهَاۖ فَيُمۡسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيۡهَا ٱلۡمَوۡتَ وَيُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّىۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ ٤٢﴾ [الزُّمَر]؛ فاللهُ ـ وحده ـ المتفرِّدُ بتدبير عباده في يقظتهم ومَنامِهم إلى أجَلٍ مسمًّى، وهو أجَلُ الحياة، وأجَلٌ آخَرُ بعد الوفاة الكبرى، وهو البعثُ والمَعاد؛ ولهذا قال تعالى: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّيۡلِ وَيَعۡلَمُ مَا جَرَحۡتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبۡعَثُكُمۡ فِيهِ لِيُقۡضَىٰٓ أَجَلٞ مُّسَمّٗىۖ ثُمَّ إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٦٠﴾ [الأنعام].

¨  وإمَّا بالاستدلال بكمال عِلْمِه وقدرته على خَلْقِ العوالم على أنه لا يُعْجِزُه إعادةُ الأجسام لنفوذِ قدرته، ولا يضيع منها شيءٌ لكمالِ عِلْمه، وأنَّ الإعادة أهونُ عليه مِنَ الابتداء وأسهلُ، وإذا كان اللهُ لم يَعْيَ بخَلْقِ السماوات والأرض ـ وهُما أعظمُ مِنْ خَلْق الناس ـ كان أحرى بقدرته أَنْ يُعيدَ الخَلْقَ مرَّةً أخرى؛ قال تعالى: ﴿أَفَعَيِينَا بِٱلۡخَلۡقِ ٱلۡأَوَّلِۚ بَلۡ هُمۡ فِي لَبۡسٖ مِّنۡ خَلۡقٖ جَدِيدٖ ١٥[ق]، وقال تعالى: ﴿لَخَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَكۡبَرُ مِنۡ خَلۡقِ ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٥٧﴾ [غافر]؛ قال السعديُّ ـ رحمه الله ـ في [«تفسيره» (٨٧١)] ما نصُّه: «يخبر تعالى بما تَقرَّر في العقول: أنَّ خَلْقَ السماواتِ والأرض ـ على عِظَمِهما وسَعَتِهما ـ أعظمُ وأكبرُ مِنْ خَلْقِ الناس؛ فإنَّ الناس بالنسبة إلى خَلْقِ السماوات والأرض مِنْ أصغرِ ما يكون؛ فالذي خَلَق الأجرامَ العظيمةَ وأَتْقَنَها قادرٌ على إعادة الناس بعد موتهم مِنْ بابٍ أَوْلى وأحرى؛ وهذا أحَدُ الأدلَّةِ العقليَّة الدالَّةِ على البعث دلالةً قاطعةً، بمُجرَّدِ نظرِ العاقل إليها يَستدِلُّ بها استدلالًا لا يقبل الشكَّ والشبهةَ بوقوعِ ما أخبرَتْ به الرُّسُلُ مِنَ البعث.

وليس كُلُّ أحَدٍ يجعل فِكْرَهُ لذلك ويُقْبِلُ بتدبُّرِه؛ ولهذا قال: ﴿وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٥٧﴾؛ ولذلك لا يَعتبِرُون بذلك، ولا يجعلونه منهم على بالٍ».

وشبهةُ مُنْكِري البعثِ قديمةٌ وعقولُهُم لا تكاد تصدِّقُ إعادةَ الحياةِ إلى الأجسام بعد تفرُّقها وتَداخُلِ بعضها في بعضٍ: وذلك بتحلُّلها إلى ترابٍ، ثمَّ يتحوَّل الترابُ إلى نباتٍ، ولا يَلْبَث مَنْ يتغذَّى على النبات أَنْ يموت، وهكذا يَستمِرُّ هذا التداخلُ؛ لذلك زعموا أنَّ أَمْرَ البعثِ مُخالِفٌ لِمَا عَهِدوه مِنَ السُّنَن المألوفةِ في الحياة؛ فاستعظموا أَمْرَه واستبعدوه وأنكروا وقوعَه.

والقرآنُ نصَّ على هذه الشبهة وعالَجَها بالأدلَّةِ العقليَّة السالفةِ البيان في قوله: ﴿وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا وَمَا يُهۡلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا يَظُنُّونَ ٢٤ وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٖ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ ٱئۡتُواْ بِ‍َٔابَآئِنَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٢٥ قُلِ ٱللَّهُ يُحۡيِيكُمۡ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يَجۡمَعُكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٢٦﴾ [الجاثية].

ومُنْكِرو البعثِ مِنْ كُفَّارِ الدهريَّة ومُشْرِكي العرب المُنْكِرين للمَعاد، وكذا الفلاسفة الدهريون والطبائعيون والإلهيون منهم الذين يُنْكِرون البداءةَ والرجعةَ يعتمدون ـ في إنكارهم ـ على ظنونٍ وتوهُّماتٍ لا سَنَدَ لها؛ بل يذهب الفلاسفةُ الدهريَّة الدوريَّةُ المُنْكِرون للصانع إلى أنَّ في كُلِّ سِتَّةٍ وثلاثين ألفَ سَنَةٍ يعود كُلُّ شيءٍ إلى ما كان عليه، وزعموا أنَّ هذا قد تَكرَّرَ مرَّاتٍ لا تتناهى؛ وبهذه الخيالاتِ والاستبعادات الخاليةِ عن الحقيقة كابَرُوا المعقولَ، وردُّوا المنقولَ، وخالفوا الفطرةَ السليمة، وكذَّبوا الرُّسُلَ الصادقين، مِنْ غيرِ دليلٍ دلَّهُم على ذلك ولا برهانٍ، [انظر: «تفسير ابن كثير» (٤/ ١٥٠)، «معارج القَبول» للحكمي (٢/ ٧٧٦)].

والمصنِّفُ ـ رحمه الله ـ اقتصر على ذِكْرِ الآيات القرآنيَّة للاستدلال على البعث والمَعاد؛ ويمكن ـ في هذا المَقام ـ إضافةُ أدلَّةٍ أخرى مِنَ السُّنَّة النبويَّة ـ وهي كثيرةٌ ـ تؤكِّدُ هذا الأصلَ الإيمانيَّ؛ وقد تَقدَّم حديثُ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه في مراحلِ تطوُّرِ الجنين، وثَبَت في الصحيحين مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قال: «كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ قَالَ لِبَنِيهِ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ اطْحَنُونِي، ثُمَّ ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ، فَوَاللهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا، فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ، فَأَمَرَ اللهُ الأَرْضَ فَقَالَ: اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ، فَفَعَلَتْ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ، فَغَفَرَ لَهُ» [مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «أحاديث الأنبياء» (٦/ ٥١٤) باب، ومسلمٌ في «التوبة» (١٧/ ٧١) بابُ سَعَةِ رحمةِ الله تعالى وأنها تغلب غَضَبَه]، ففي الحديثِ عِظَمُ قدرةِ الله تعالى أَنْ جَمَعَ جَسَدَ المذكورِ بعد أَنْ تَفرَّقَ ذلك التفرُّقَ الشديد، كما ثَبَتَ عن مُعاذ بنِ جبلٍ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يُوقِنُ بِثَلَاثٍ: أَنَّ اللهَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ قَائِمَةٌ، وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ..»، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: «فَأَنَا نَسِيتُ: إِمَّا قَالَ: «دَخَلَ الجَنَّةَ»، وَإِمَّا قَالَ: «نَجَا مِنَ النَّارِ»» [أخرجه الطبرانيُّ في «المُعْجَمِ الكبير» (٢٠/ ١٦٩)، وابنُ خزيمة في «التوحيد» (٢/ ٨٢٤)، وابنُ أبي عاصمٍ في «السُّنَّة» (٢/ ٤٣١). وصحَّحه الألبانيُّ في «ظلال الجنَّة» برقم: (٨٨٨)].

فالحاصل: أنَّ الإيمان بالبعث والمَعاد ليس واجبًا فحَسْبُ، بل هو أحَدُ أصولِ الإيمانِ وأركانِه الأساسيَّةِ التي تنبني عليها عقيدةُ المؤمن؛ فلا تصحُّ عقيدتُه ولا تتمُّ إلَّا بالإيمان به.

وأنَّ المَعاد الجسمانيَّ حقٌّ واقعٌ بعد الموت، والنشورُ مِنَ القبور والحشرُ ـ لا ريبَ فيهما ـ لأجل الجزاء وفصلِ القضاء، وذلك كُلُّه بعد نفخةِ البعث في الصُّور نفخةً واحدةً؛ فتخرج الأرواحُ فتدخُلُ كُلُّ روحٍ في جسدها، فإذا الناسُ قيامٌ لله ربِّ العالَمِين؛ قال ابنُ تيميَّة ـ رحمه الله ـ في [«مجموع الفتاوى» (٤/ ٢٨٤)] ما نصُّه: «فلْيُعْلَمْ أنَّ مذهب سلفِ الأمَّة وأئمَّتِها: أنَّ الميِّتَ إذا مات يكون في نعيمٍ أو عذابٍ، وأنَّ ذلك يحصل لرُوحِه ولبدنه، وأنَّ الروح تبقى بعد مفارَقةِ البدن منعَّمةً أو معذَّبةً، وأنها تتَّصِل بالبدن ـ أحيانًا ـ فيحصل له معها النعيمُ والعذابُ، ثمَّ إذا كان يومُ القيامةِ الكبرى أُعيدَتِ الأرواحُ إلى أجسادها وقاموا مِنْ قبورهم لربِّ العالَمِين؛ ومَعادُ الأبدانِ متَّفَقٌ عليه عند المسلمين واليهود والنصارى؛ وهذا كُلُّه متَّفَقٌ عليه عند عُلَماءِ الحديث والسُّنَّة»، ونَقَل الإجماعَ غيرُ واحدٍ مِنَ العلماء عن أهل السُّنَّة أنَّ الأجساد الدنيويَّة تُعادُ بأعيانها وأعراضها، أي: بأشخاصها التي كانَتْ قائمةً بالجسم حالَ الحياة، [انظر: «لوامع الأنوار» للسفَّاريني (٢/ ١٦١)].

هذا، و«الإيمان بالمَعاد ممَّا دلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّة، والعقلُ والفطرةُ السليمة، فأخبر اللهُ ـ سبحانه ـ عنه في كتابه العزيز، وأقام الدليلَ عليه، وردَّ على مُنْكِرِيه في غالبِ سُوَرِ القرآن؛ وذلك أنَّ الأنبياء عليهم السلام كُلَّهم متَّفِقون على الإيمان بالله؛ فإنَّ الإقرار بالربِّ عامٌّ في بني آدَمَ وهو فطريٌّ، كُلُّهم يُقِرُّ بالربِّ إلَّا مَنْ عانَدَ كفرعون، بخلاف الإيمان باليوم الآخِر فإنَّ مُنْكِريهِ كثيرون؛ ومحمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم لمَّا كان خاتم الأنبياء، وكان قد بُعِث هو والساعةَ كهاتين، وكان هو الحاشرَ المقفِّيَ؛ بيَّن تفصيلَ الآخرةِ بيانًا لا يُوجَدُ في شيءٍ مِنْ كُتُبِ الأنبياء» [«شرح العقيدة الطحاويَّة» لابن أبي العزِّ (٤٥٦)].

والله تعالى يُعيدُ الخَلْقَ بعدما استحالَتْ أجسامُهم إلى غيرها، فيُعيدُها مِنْ تلك الأجزاءِ التي انقلبَتْ واستحالَتْ إليها خِلْقةً كاملةً ونشأةً أخرى مخلوقةً للبقاء، بينما النشأةُ الأولى فهي خِلْقةُ فسادٍ وفَناءٍ، وهو المشهورُ عند أهل السُّنَّة؛ قال ابنُ أبي العزِّ في [«شرح العقيدة الطحاويَّة» (٤٦٣)]: «والقول الذي عليه السلفُ وجمهورُ العقلاء: أنَّ الأجسام تنقلب مِنْ حالٍ إلى حالٍ، فتَستحيلُ ترابًا، ثمَّ يُنْشِئُها اللهُ نشأةً أخرى كما استحال في النشأةِ الأولى: فإنه كان نُطفةً، ثمَّ صار عَلَقةً، ثمَّ صار مُضْغةً، ثمَّ صار عظامًا ولحمًا، ثمَّ أنشأه خَلْقًا سويًّا؛ كذلك الإعادةُ: يُعيدُه اللهُ بعد أَنْ يبلى كُلُّه إلَّا عَجْبَ الذَّنَب، كما ثَبَتَ في الصحيح عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم أنه قال: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَبْلَى إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ، مِنْهُ خُلِقَ ابْنُ آدَمَ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ» [مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «التفسير» (٨/ ٥٥١) باب: ﴿وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾ [الزُّمَر: ٦٨] الآية، (٨/ ٦٨٩) باب: ﴿يَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَتَأۡتُونَ أَفۡوَاجٗا ١٨﴾ [النبأ]: زُمَرًا، ومسلمٌ في «الفِتَن» (١٨/ ٩١، ٩٢) بابُ ما بين النفختين، وأخرجه ـ أيضًا ـ أبو داود في «السُّنَّة» (٥/ ١٠٨) بابٌ في ذِكْرِ البعث والصُّور، والنسائيُّ في «الجنائز» (٤/ ١١١) باب أرواح المؤمنين، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه]».

وعَجْبُ الذَّنَب: عظمٌ لطيفٌ في أصل الصلب وأسفلِه، أي: رأس العُصْعُص، وهو أوَّلُ ما يُخْلَقُ مِنَ الآدميِّ، وهو الذي لا يأكله الترابُ بل يبقى؛ أمَّا سائرُ بدنِه وجسمِه فإنه يستحيلُ فتزولُ صورتُه المعهودة، فيصير على صِفَةِ جسم التراب، ثمَّ يُعادُ تركيبُ الخَلْق عليه مِنَ المادَّةِ التي استحال إليها؛ والحديثُ السابقُ عامٌّ لكُلِّ آدميٍّ يأكله الترابُ؛ ويُخَصُّ منه ما نصَّ عليه الدليلُ كأجساد الأنبياء عليهم السلام، وألحق ابنُ عبد البرِّ ـ رحمه الله ـ الشُّهَداءَ، والقرطبيُّ ـ رحمه الله ـ المؤذِّنَ المُحْتَسِبَ، [انظر: «شرح النووي على مسلم» (١٨/ ٩٢)، «شرح العقيدة الطحاويَّة» لابن أبي العزِّ (٤٦٤)، «فتح الباري» لابن حجر (٨/ ٥٥٣)]، ونَقَل أحمد بنُ إبراهيم النجديُّ ـ رحمه الله ـ في [«توضيح المقاصد» (٢/ ١٦٤)] أنه قد يَقَعُ ذلك لبعضِ أتباع الرسول، أي: أنَّ الأرض لا تأكل لحمَه، وذلك بدليلِ رأي العين والمشاهدة.

هذا، والمصنِّف ـ رحمه الله ـ تَناوَل بالذِّكر الموقفَ الأعظم للمحاسَبةِ على الأعمال والجزاءِ عليها، وبيانُ ذلك: أنَّ الله تعالى بعد أَنْ يردَّ الحياةَ إلى الناس ويُعيدَهم مِنْ جديدٍ فإنه ـ سبحانه ـ يحشرهم إليه ويجمعهم لديه في الموقف الأعظم في ساحةٍ واحدةٍ تُدْعى عَرَصاتِ القيامة، وذلك لفصلِ القضاء، فيُحاسِبُ كُلَّ فردٍ منهم على ما عَمِل مِنْ خيرٍ أو شرٍّ.

¨  ولعَرَصاتِ القيامةِ أحداثٌ وأهوالٌ أذكر بعضَها ـ باختصارٍ ـ في النقاط التالية:

·  أنَّ الله يجمعهم لديه ـ يومَ القيامة ـ في المَحْشَرِ على أرضٍ بيضاءَ عَفْراءَ مائلةٍ إلى الحمرة قليلًا، كقُرْصةِ النقيِّ أَشْبَهَ بالخبز الأبيض السالم مِنَ الغشِّ والنقيِّ مِنَ النُّخالة، ليس فيها عَلَمٌ لأحَدٍ ـ على ما تقدَّم به الحديثُ في قوله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ»، قَالَ سَهْلٌ أَوْ غَيْرُهُ: «لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ» [مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الرِّقاق» (١١/ ٣٧٢) باب: يقبض اللهُ الأرضَ يومَ القيامة، ومسلمٌ في «صفة القيامة والجنَّة والنار» (١٧/ ١٣٤) بابٌ في البعث والنشور وصِفةِ الأرضِ يومَ القيامة، مِنْ حديثِ سهل بنِ سعدٍ الساعديِّ رضي الله عنهما] ـ كما يُحْشَرون في الموقف الصعبِ أحياءً حُفاةً عُراةً وغُرْلًا ـ أي: مَنْ لم يختتن ـ؛ قال تعالى: ﴿كَمَا بَدَأۡنَآ أَوَّلَ خَلۡقٖ نُّعِيدُهُۥۚ وَعۡدًا عَلَيۡنَآۚ إِنَّا كُنَّا فَٰعِلِينَ ١٠٤[الأنبياء]، وقال صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم فيما روَتْه أمُّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها: «يُحْشَرُ النَّاسُ ـ يَوْمَ القِيَامَةِ ـ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا»، قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ، النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟» قَالَ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «يَا عَائِشَةُ، الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ» [مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الرِّقاق» (١١/ ٣٧٧ ـ ٣٧٨) باب الحشر، ومسلمٌ في «الجنَّة وصِفَةِ نعيمها» (١٧/ ١٩٣) بابُ فَناءِ الدنيا وبيانِ الحشر يومَ القيامة].

·  وأنَّ الكُفَّار يحشرهم اللهُ تعالى على وجوهم كما أخبر به تعالى في قوله: ﴿وَنَحۡشُرُهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمۡ عُمۡيٗا وَبُكۡمٗا وَصُمّٗاۖ مَّأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ كُلَّمَا خَبَتۡ زِدۡنَٰهُمۡ سَعِيرٗا ٩٧ ذَٰلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا وَقَالُوٓاْ أَءِذَا كُنَّا عِظَٰمٗا وَرُفَٰتًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ خَلۡقٗا جَدِيدًا ٩٨[الإسراء]، وفي حديثِ أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه أنَّ رجلًا قال: «يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ يُحْشَرُ الكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟!» قَالَ: «أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ فِي الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟» [مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الرِّقاق» (١١/ ٣٧٧) باب الحشر، ومسلمٌ في «صفة القيامة والجنَّة والنار» (١٧/ ١٤٨) بابُ طلبِ الكافر الفداءَ بمِلْءِ الأرض ذهبًا]، «والحكمةُ في حشرِ الكافر على وجهه: أنه عُوقِبَ على عدمِ السجود لله في الدنيا بأَنْ يُسْحَبَ على وجهه في القيامة؛ إظهارًا لِهوانه بحيث صار وجهُه مكانَ يَدِه ورِجْلِه في التوقِّي عن المُؤْذِيات» [«فتح الباري» لابن حجر (١١/ ٣٨٢)].

·  تشتدُّ الحرارةُ ويعرق الناسُ عرقًا مَهيلًا في ذلك الموقف لدُنُوِّ الشمس ـ في ذلك اليوم ـ مِنْ رؤوس الخلائق كمقدار مِيلٍ، كما أخبر به النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم بقوله: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ»، قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: «فَوَاللهِ مَا أَدْرِي: مَا يَعْنِي بِالمِيلِ؟ أَمَسَافَةَ الأَرْضِ، أَمِ المِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ العَيْنُ؟» قَالَ: «فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي العَرَقِ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ العَرَقُ إِلْجَامًا»، قَالَ: وَأَشَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ، [أخرجه مسلمٌ في «الجنَّة وصِفَةِ نعيمها وأهلها» (١٧/ ١٩٦) بابٌ في صفةِ يوم القيامة ـ أعاننا اللهُ على أهواله ـ مِنْ حديثِ المقداد بنِ الأسود رضي الله عنه].

وهكذا يطول موقفُهم ـ في فصل القضاء ـ ويعظم كربُهم ويشتدُّ عناؤهم حتَّى يبلغ مبلغًا عظيمًا؛ فيرغب الناسُ في أَنْ يحكم اللهُ فيهم ليُريحَهم مِنْ شدَّةِ الهول وعناءِ الموقف وصعوبته؛ قال تعالى: ﴿وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقِّتَتۡ ١١ لِأَيِّ يَوۡمٍ أُجِّلَتۡ ١٢ لِيَوۡمِ ٱلۡفَصۡلِ ١٣ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا يَوۡمُ ٱلۡفَصۡلِ ١٤ وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ ١٥[المُرْسَلات]، وقال تعالى: ﴿هَٰذَا يَوۡمُ لَا يَنطِقُونَ ٣٥ وَلَا يُؤۡذَنُ لَهُمۡ فَيَعۡتَذِرُونَ ٣٦ وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ ٣٧ هَٰذَا يَوۡمُ ٱلۡفَصۡلِۖ جَمَعۡنَٰكُمۡ وَٱلۡأَوَّلِينَ ٣٨ فَإِن كَانَ لَكُمۡ كَيۡدٞ فَكِيدُونِ ٣٩ وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ ٤٠[المُرْسَلات]؛ ثمَّ تكون الشفاعةُ العظمى للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم في أهل الموقف التي يتأخَّر عنها أولو العزم مِنَ الرُّسُل، فيسألُ نبيُّنا صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم اللهَ تعالى أَنْ يقضيَ بين الخَلْق ليستريحوا مِنْ هول الموقف؛ فيستجيبُ اللهُ له ويُظْهِرُ فَضْلَه على العالَمِين؛ فهي أوَّلُ الشفاعاتِ، وهي المَقامُ المحمودُ الموعودُ به في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَتَهَجَّدۡ بِهِۦ نَافِلَةٗ لَّكَ عَسَىٰٓ أَن يَبۡعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامٗا مَّحۡمُودٗا ٧٩[الإسراء]، فعن أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَقُولُونَ: «لَوِ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا»، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: «أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ المَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّنَا»، فَيَقُولُ: «لَسْتُ هُنَاكُمْ» وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ وَيَقُولُ: «ائْتُوا نُوحًا، أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ»، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: «لَسْتُ هُنَاكُمْ» وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ، «ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي اتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلًا»، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: «لَسْتُ هُنَاكُمْ» وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ، «ائْتُوا مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللهُ»، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: «لَسْتُ هُنَاكُمْ» فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ، «ائْتُوا عِيسَى»، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: «لَسْتُ هُنَاكُمْ، ائْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم؛ فَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ»، فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي»، وفي لفظٍ للبخاريِّ ومسلمٍ: «فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا» [مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «التفسير» (٨/ ١٦٠) بابُ قولِ الله: ﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا[البقرة: ٣١]، وفي «الرِّقاق» (١١/ ٤١٧) بابُ صفةِ الجنَّة والنار، وفي مواضِعَ أُخَر، ومسلمٌ في «الإيمان» (٣/ ٥٣، ٦١) بابُ إثبات الشفاعة وإخراج الموحِّدين مِنَ النار].

·  يُظْهِرُ اللهُ تعالى حوضَ نبيِّنا محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم تكرمةً لعباد الله المؤمنين، بعد أَنْ عَظُمَ الخطبُ بالناس واشتدَّ عليهم العطشُ مِنْ طول انتظار الحساب، فيشربُ منه مَنْ يَرِدُه مِنْ أُمَّته لا يظمأ بعدها أبدًا، ويُذادُ عنه مَنْ بدَّل وغيَّر؛ ويدلُّ عليه قولُه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ المِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلَا يَظْمَأُ أَبَدًا» [مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الرِّقاق» (١١/ ٤٦٣) بابٌ في الحوض وقولِ الله تعالى: ﴿إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ ١﴾ [الكوثر]، ومسلمٌ في «الفضائل» (١٥/ ٥٥) بابُ إثباتِ حوضِ نبيِّنا صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم وصِفاته، مِنْ حديثِ عبد الله بنِ عمرو بنِ العاص رضي الله عنهما]، وعن سهل بنِ سعدٍ الساعديِّ رضي الله عنهما قال: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ، مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ»، وفي حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه بزيادةِ: فَيَقُولُ: «إِنَّهُمْ مِنِّي»، فَيُقَالُ: «إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ»، فَأَقُولُ: «سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي»، وفي رواية البخاريِّ: «لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي» [مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الرِّقاق» (١١/ ٤٦٤) بابٌ في الحوض وقولِ الله تعالى: ﴿إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ ١﴾ [الكوثر]، ومسلمٌ في «الفضائل» (١٥/ ٥٣) بابُ إثباتِ حوضِ نبيِّنا صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم وصِفَاته].

قال ابنُ أبي العزِّ ـ رحمه الله ـ في [«شرح الطحاويَّة» (٢٥١)] في بيانِ صفةِ الحوض ما نصُّه: «والذي يتلخَّص مِنَ الأحاديث الواردة في صفة الحوض: أنه حوضٌ عظيمٌ، وموردٌ كريمٌ، يمدُّ مِنْ شراب الجنَّة، مِنْ نهر الكوثر، الذي هو أشدُّ بياضًا مِنَ اللبن، وأبردُ مِنَ الثلج، وأحلى مِنَ العسل، وأطيبُ ريحًا مِنَ المِسْك، وهو في غاية الاتِّساع، عرضُه وطوله سواءٌ، كُلُّ زاويةٍ مِنْ زواياه مسيرةُ شهرٍ».

«قال القاضي عياضٌ ـ رحمه الله ـ: أحاديث الحوض صحيحةٌ، والإيمانُ به فرضٌ، والتصديق به مِنَ الإيمان، وهو على ظاهره عند أهل السُّنَّة والجماعة، لا يُتأوَّل ولا يُخْتلَفُ فيه» [«شرح مسلم» للنووي (١٥/ ٥٣)].

«وأَجمعَ على إثباته السلفُ وأهلُ السُّنَّة مِنَ الخلف، وأنكرَتْ ذلك طائفةٌ مِنَ المُبْتدِعة (الخوارج وبعض المعتزلة)، وأحالوه على ظاهِرِه وغلَوْا في تأويله، مِنْ غير استحالةٍ عقليَّةٍ ولا عاديَّةٍ تَلْزَمُ مِنْ حمله على ظاهره وحقيقتِه، ولا حاجةٍ تدعو إلى تأويله؛ فخَرَق مَنْ حرَّفه إجماعَ السلف، وفارق مذهبَ أئمَّةِ الخلف» [«فتح الباري» لابن حجر (١١/ ٤٦٧)].

·  مجيء اللهِ تعالى ـ يومَ القيامة ـ في ظُلَلٍ مِنَ الغمام ـ كما يشاء ـ إلى فصلِ القضاء بين خَلْقه؛ لمحاسَبةِ الخلائق على ما فعلوه واقترفوه، والملائكةُ يجيئون بين يديه صفوفًا صفوفًا؛ قال تعالى: ﴿وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلۡمَلَكُ صَفّٗا صَفّٗا ٢٢[الفجر]؛ فيأخذ كُلُّ واحدٍ جزاءَ ما عَمِل مِنْ خيرٍ أو شرٍّ بالقسط والعدل، سواءٌ مارَسَ عملًا بالفعل أو نواهُ وأصرَّ عليه؛ ﴿لِيَجۡزِيَ ٱللَّهُ كُلَّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ ٥١﴾ [إبراهيم].

علمًا أنَّ الله تعالى هو الذي يُحاسِبُ عبادَه جميعًا بنفسه بدون واسطةٍ على كُلِّ ما اكتسبوه في الدنيا مِنْ خيرٍ أو شرٍّ؛ فيُثيبُ الطائعين المُحْسِنين، ويُعاقِب المسيئين المجرمين؛ قال صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ؛ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ؛ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»، وزاد بعضُ الرُّواةِ فيه: «وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» [مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «التوحيد» (١٣/ ٤٢٣) بابُ قولِ الله تعالى: ﴿وُجُوهٞ يَوۡمَئِذٖ نَّاضِرَةٌ ٢٢ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ ٢٣﴾ [القيامة]، و(١٣/ ٤٧٤) بابُ كلامِ الربِّ تعالى ـ يومَ القيامة ـ مع الأنبياء وغيرهم، ومسلمٌ في «الزكاة» (٧/ ١٠١) باب الحثِّ على الصدقة ولو بشِقِّ تمرةٍ، مِنْ حديثِ عَدِيِّ بنِ حاتمٍ رضي الله عنه]؛ وهو ـ سبحانه ـ لا يُناقِش المؤمنين الحسابَ؛ رحمةً بالمؤمن وشفقةً عليه؛ لأنَّ مَنْ نُوقِشَ الحسابَ عُذِّب؛ بل إنَّ الله تعالى يُناجي عبدَه المؤمن في الآخرة فيَعرِضُ عليه ذنوبَه ويُعْلِمه بأخطائه التي ارتكبها في الدنيا وسَتَرها عليه فيها، ويغفرها له في الآخرة؛ قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم يَقُولُ فِي النَّجْوَى؟» قَالَ: «سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «يُدْنَى المُؤْمِنُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ فَيَقُولُ: «هَلْ تَعْرِفُ؟» فَيَقُولُ: «أَيْ رَبِّ أَعْرِفُ»، قَالَ: «فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ»، فَيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الكُفَّارُ وَالمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الخَلَائِقِ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ»» [مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «المظالم» (٥/ ٩٦) باب: ﴿أَلَا لَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ ١٨﴾ [هود]، ومسلمٌ في «التوبة» (١٧/ ٨٦) بابُ سَعَةِ رحمةِ الله تعالى على المؤمنين]، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ إِلَّا هَلَكَ» قَالَتْ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ ـ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ ـ أَلَيْسَ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ ٧ فَسَوۡفَ يُحَاسَبُ حِسَابٗا يَسِيرٗا ٨[الانشقاق]؟» قَالَ: «ذَاكَ العَرْضُ يُعْرَضُونَ، وَمَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ هَلَكَ»» [مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «التفسير» (٨/ ٦٩٧) باب: ﴿فَسَوۡفَ يُحَاسَبُ حِسَابٗا يَسِيرٗا ٨﴾ [الانشقاق]، ومسلمٌ في «الجنَّة وصِفَةِ نعيمها وأهلها» (١٧/ ٢٠٨) بابُ إثباتِ الحساب].

ولا يُستثنى مِنَ الحساب إلَّا ما ثَبَت استثناؤه مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قال: «يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي الجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ» [أخرجه مسلمٌ في «الإيمان» (٣/ ٨٨) باب الدليل على دخول طوائفَ مِنَ المسلمين الجنَّةَ بغير حسابٍ ولا عذابٍ]، وفي حديثِ أبي أمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه: «مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَزَادَنِي ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ» [أخرجه الترمذيُّ في «صفة القيامة» (٤/ ٦٢٦) باب (١٢)، وابنُ ماجه في «الزهد» (٢/ ١٤٣٣) بابُ صفةِ أمَّةِ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، وهذا اللفظ لأحمد في «مسنده» (٥/ ٢٥٠). وصحَّحه الألبانيُّ في «ظلال الجنَّة» (١/ ٢٦١) برقم: (٥٨٨)]؛ «ومَنْ شاء اللهُ أَنْ يُلْحِقَه بهم، وهم الذين يمرُّون على الصراط كالبرق الخاطف وكالريح وكأجاويد الخيل» [«فتح الباري» لابن حجر (١٣/ ٥٣٨)].

وفي الحساب يُستنطَقُ الفردُ ويُسألُ عن كُلِّ عملٍ كبيرٍ أو صغيرٍ فَعَله؛ فإِنْ حاول الكذبَ أو الكتمان فإنه يُخْتَمُ على فَمِه وتُستنطَقُ جوارحُه، فتنطق بما اقترفه في دُنْياهُ ولا تخفي شيئًا؛ قال تعالى: ﴿ٱلۡيَوۡمَ نَخۡتِمُ عَلَىٰٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَتُكَلِّمُنَآ أَيۡدِيهِمۡ وَتَشۡهَدُ أَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ٦٥[يس]، وقال تعالى: ﴿يَوۡمَ تَشۡهَدُ عَلَيۡهِمۡ أَلۡسِنَتُهُمۡ وَأَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٢٤[النور]، وقال تعالى: ﴿وَيَوۡمَ يُحۡشَرُ أَعۡدَآءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ فَهُمۡ يُوزَعُونَ ١٩ حَتَّىٰٓ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيۡهِمۡ سَمۡعُهُمۡ وَأَبۡصَٰرُهُمۡ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٢٠ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمۡ لِمَ شَهِدتُّمۡ عَلَيۡنَاۖ قَالُوٓاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَنطَقَ كُلَّ شَيۡءٖۚ وَهُوَ خَلَقَكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ٢١ وَمَا كُنتُمۡ تَسۡتَتِرُونَ أَن يَشۡهَدَ عَلَيۡكُمۡ سَمۡعُكُمۡ وَلَآ أَبۡصَٰرُكُمۡ وَلَا جُلُودُكُمۡ وَلَٰكِن ظَنَنتُمۡ أَنَّ ٱللَّهَ لَا يَعۡلَمُ كَثِيرٗا مِّمَّا تَعۡمَلُونَ ٢٢ وَذَٰلِكُمۡ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمۡ أَرۡدَىٰكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم مِّنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٢٣﴾ [فُصِّلَتْ].

·  تطايُرُ الصُّحُفِ ونشرُ الكُتُب التي دُوِّنَتْ فيها الأعمالُ، فليس فيها شيءٌ ضائعٌ، ولا يمكن لشيءٍ منها أَنْ يزول؛ فهي كُتُبٌ يُعطاها كُلُّ فردٍ ـ في ساحةِ فصلِ الحساب ـ لتُعْرَضَ على أصحابها ويقرأَها كُلُّ واحدٍ مِنْ أهل الموقف؛ قال تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا ١٣ ٱقۡرَأۡ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفۡسِكَ ٱلۡيَوۡمَ عَلَيۡكَ حَسِيبٗا ١٤[الإسراء]، وقال تعالى: ﴿وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا ٤٩﴾ [الكهف].

ويختلف مَصيرُ كُلِّ صنفٍ باختلاف تَلقِّيهِ لكتابه: فصنفٌ يأخذ صحيفةَ عملِه بيمينه ومِنْ أمامه، ويكون له البشرى السارَّةُ والسرورُ والفرح؛ وصنفٌ يأخذ صحيفةَ عملِه بشماله وراءَ ظهرِه؛ فيكون ذلك علامةً على سُوءِ الحساب وخيبةِ صاحبِه وخسرانِه؛ وقد أشار القرآنُ إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿يَٰأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحٗا فَمُلَٰقِيهِ ٦ فَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ ٧ فَسَوۡفَ يُحَاسَبُ حِسَابٗا يَسِيرٗا ٨ وَيَنقَلِبُ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ مَسۡرُورٗا ٩ وَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ وَرَآءَ ظَهۡرِهِۦ ١٠ فَسَوۡفَ يَدۡعُواْ ثُبُورٗا ١١ وَيَصۡلَىٰ سَعِيرًا ١٢ إِنَّهُۥ كَانَ فِيٓ أَهۡلِهِۦ مَسۡرُورًا ١٣ إِنَّهُۥ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ١٤ بَلَىٰٓۚ إِنَّ رَبَّهُۥ كَانَ بِهِۦ بَصِيرٗا ١٥﴾ [الانشقاق]؛ وفي قوله تعالى ـ أيضًا ـ: ﴿فَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقۡرَءُواْ كِتَٰبِيَهۡ ١٩ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَٰقٍ حِسَابِيَهۡ ٢٠ فَهُوَ فِي عِيشَةٖ رَّاضِيَةٖ ٢١ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٖ ٢٢ قُطُوفُهَا دَانِيَةٞ ٢٣ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ هَنِيٓ‍َٔۢا بِمَآ أَسۡلَفۡتُمۡ فِي ٱلۡأَيَّامِ ٱلۡخَالِيَةِ ٢٤ وَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِشِمَالِهِۦ فَيَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي لَمۡ أُوتَ كِتَٰبِيَهۡ ٢٥ وَلَمۡ أَدۡرِ مَا حِسَابِيَهۡ ٢٦ يَٰلَيۡتَهَا كَانَتِ ٱلۡقَاضِيَةَ ٢٧ مَآ أَغۡنَىٰ عَنِّي مَالِيَهۡۜ ٢٨ هَلَكَ عَنِّي سُلۡطَٰنِيَهۡ ٢٩ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ٣٠ ثُمَّ ٱلۡجَحِيمَ صَلُّوهُ ٣١ ثُمَّ فِي سِلۡسِلَةٖ ذَرۡعُهَا سَبۡعُونَ ذِرَاعٗا فَٱسۡلُكُوهُ ٣٢ إِنَّهُۥ كَانَ لَا يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ ٱلۡعَظِيمِ ٣٣ وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ ٣٤ فَلَيۡسَ لَهُ ٱلۡيَوۡمَ هَٰهُنَا حَمِيمٞ ٣٥ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنۡ غِسۡلِينٖ ٣٦ لَّا يَأۡكُلُهُۥٓ إِلَّا ٱلۡخَٰطِ‍ُٔونَ ٣٧[الحاقَّة]، وغيرها مِنَ الآيات.

·  فبعد أَنْ يأخذَ القضاءُ الإلهيُّ مجراهُ وتُعْطى كُتُبُ الأعمالِ ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال فتُوضَعُ ـ عند ذلك ـ الموازينُ بالقسط والعدل؛ وبحسَبِ نتيجةِ الوزن تكون السعادةُ أو الشقاوة ـ كما سيأتي تفصيلُه في الفصل اللَّاحق [الفصل ٧٥: وزنُ الأعمال والجزاءُ عليها] ـ.

ويجدر التنبيهُ إلى أنَّ العلماء اختلفوا في الحوض والميزان: أيُّهما قبل الآخَر؛ وقد رجَّح القرطبيُّ ـ رحمه الله ـ سابقيَّةَ الحوض على الميزان في [«التذكرة» (٣٦٢)] بقوله: «والمعنى يقتضيه؛ فإنَّ الناس يخرجون عطاشًا مِنْ قبورهم.. فيُقدَّمُ قبل الصراط والميزان؛ واللهُ أعلمُ» بتصرُّف، [وانظر: «شرح الطحاويَّة» لابن أبي العزِّ (٤٧٥)].

هذا، وقد رتَّب السفَّارينيُّ ـ رحمه الله ـ المَعادَ على المراتب التالية: البعث والنشور، ثمَّ المحشر، ثمَّ القيام لربِّ العالَمِين، ثمَّ العرض، ثمَّ تطايُرُ الصحف وأخذُها باليمين أو الشِّمال، ثمَّ السؤال والحساب، ثمَّ الميزان، [انظر: «لوامع الأنوار البهيَّة» (٢/ ١٨٤)].

(٥) «م.ر.ش، م.ف»: «ذَاكَ».

(٦) والذي تَقرَّر ـ عند أهل السُّنَّة ـ أنه لا واجِبَ على الله ولا تحريمَ عليه، لا بحكم الأمر ولا بحكم العقل؛ لأنَّ الله هو الربُّ والسيِّدُ المطلقُ والمالكُ لكُلِّ شيءٍ؛ فإنَّ مقتضى السيادة والربوبيَّة والمُلْك المطلق لكُلِّ شيءٍ لا يخوِّل لأحَدٍ أَنْ يُوجِبَ على المتَّصِف بها ـ تَبارَك وتعالى ـ شيئًا أو يحرِّمَه، ولا أَنْ يُلْزِمَه بشيءٍ، إلَّا ما حرَّمه اللهُ على نفسه كقوله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم في الحديث القدسيِّ: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي» [أخرجه مسلمٌ في «البرِّ والصِّلة والآداب» (١٦/ ١٣١ ـ ١٣٤) بابُ تحريمِ الظلم، مِنْ حديث أبي ذَرٍّ الغِفاريِّ رضي الله عنه]، أو أَوْجَبَه تفضُّلًا منه وتكرُّمًا، وعدلًا ورحمةً كما سيأتي.

وتأكيدًا لانتفاءِ الوجوب والتحريم على مَنْ له الخَلْقُ والأمرُ ولا يُسْألُ عمَّا يفعل؛ قال ابنُ تيميَّة ـ رحمه الله ـ في [«اقتضاء الصراط المستقيم» (٢/ ٣١٠)]: «وأمَّا الإيجاب عليه ـ سبحانه وتعالى ـ والتحريمُ بالقياس على خَلْقه فهذا قولُ القدريَّة، وهو قولٌ مُبتدَعٌ مُخالِفٌ لصحيح المنقول وصريحِ المعقول، وأهلُ السُّنَّةِ متَّفِقون على أنه ـ سبحانه ـ خالقُ كُلِّ شيءٍ ومليكُه، وأنَّ ما شاء كان وما لم يَشَأْ لم يكن، وأنَّ العباد لا يُوجِبون عليه شيئًا؛ ولهذا كان مَنْ قال مِنْ أهل السُّنَّة بالوجوب قال: إنه كَتَبَ على نفسه وحرَّم على نفسه، لا أنَّ العبد نَفْسَه يستحِقُّ على الله شيئًا كما يكون للمخلوق على المخلوق؛ فإنَّ الله هو المُنعِمُ على العباد بكُلِّ خيرٍ؛ فهو الخالقُ لهم وهو المُرْسِلُ إليهم الرُّسُلَ، وهو الميسِّرُ لهم الإيمانَ والعملَ الصالح» [انظر تقريرَ هذه المسألة ـ أيضًا ـ في: «مجموع الفتاوى» لابن تيميَّة (٨/ ٧٢، ١٨/ ١٣٧)، «مفتاح دار السعادة» لابن القيِّم (٢/ ٤٢٧ وما بعدها)، «لوامع الأنوار البهيَّة» للسفَّاريني (١/ ٣٢٠، ٢/ ٢٥٦)].

ومعنى إيجابه على نفسه إنما يكون بحكمِ قولِه الحقِّ ووعدِه الصدقِ أنه ـ سبحانه ـ لا يفعل إلَّا مُوجَبه ولا يفعل خلافَه؛ ففي مَقامِ البعث والحساب والجزاء فإنَّ الله لا يعذِّب إلَّا مَنْ بَعَث إليه رسولًا؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا ١٥﴾ [الإسراء]؛ وأنه ـ سبحانه ـ لا يحمِّل الإنسانَ سيِّئاتٍ لم يعملها، ولا يضيِّع له أَجْرَ حسناتٍ عَمِلها؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَا يَخَافُ ظُلۡمٗا وَلَا هَضۡمٗا ١١٢[طه]، ﴿مَّنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَسَآءَ فَعَلَيۡهَاۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ ٤٦[فُصِّلَتْ]؛ وأنه كَتَب على نفسه الرحمةَ؛ لقوله تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ[الأنعام: ٥٤]؛ وأنه ـ سبحانه ـ حرَّم الجنَّةَ على مَنْ مات مُشْرِكًا وأنه لا يغفر له؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ[النساء: ٤٨، ١١٦]، ﴿إِنَّهُۥ مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ[المائدة: ٧٢]، وغيرها ممَّا أوجبه اللهُ على نفسه، منها ما هو عدلٌ ومنها ما هو تفضُّلٌ منه ورحمةٌ؛ فلا الخَلْقُ أوجبوه عليه ولا هم حرَّموه عليه، ولا أنه استحقاقٌ للمطيعين ـ كما يزعم المعتزلةُ ـ لأنَّ طاعتهم وقعَتْ بتوفيقٍ منه سبحانه وهدايةٍ، وأنَّ النِّعَمَ التي أعطاهم إيَّاها لا تُوَفِّي عباداتُهم حقَّه ـ سبحانه ـ عليهم في شُكْرِها؛ فإنَّ كُلَّ نعمةٍ منه فضلٌ وكُلَّ نقمةٍ منه عدلٌ؛ وشُكرُ عبدِه لنِعَمِه عليه هو مِنْ توفيقه وإنعامِه؛ قال ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ في [«فتح الباري» (١١/ ٣٣٩)] ناقلًا كلامَ القرطبيِّ ـ رحمه الله ـ بما نصُّه: «حقُّ العبادِ على الله ما وَعَدهم به مِنَ الثواب والجزاء؛ فحَقَّ ذلك ووَجَب بحكم وَعْدِه الصدقِ وقولِه الحقِّ الذي لا يجوز عليه الكذبُ في الخبر ولا الخُلْفُ في الوعد؛ فاللهُ ـ سبحانه وتعالى ـ لا يجب عليه شيءٌ بحكم الأمرِ إذ لا آمِرَ فوقه، ولا حُكْمِ العقلِ لأنه كاشفٌ لا مُوجِبٌ».

(٧) ساقطةٌ مِنْ «م.ر».

(٨) ما بين المعقوفين ساقطٌ مِنْ «م.ر».

(٩) ساقطةٌ مِنْ «م.ر».

(١٠) «م.ر.أ»: «خلقاكم»، وهو خطأٌ في الآية.