فصل [في رواية الراوي الخبر وإنكار المَرْوِيِّ عنه] | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م



فصل
[في رواية الراوي الخبر وإنكار المَرْوِيِّ عنه]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٢٤٩]:

«فَأَمَّا إِنْ شَكَّ المُرْوَى عَنْهُ فِيهِ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابنَا وَأَصْحَابِ أَبي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِ الشَافِعيِّ إِلَى وُجُوبُ العَمَلِ بهِ».

[م] والمراد بهذا الضرب: إنكار الشيخ العدل الحديث الذي رواه الفرع عنه إنكارًا غير صريح، كأن يتوقَّف ويقول: «لست أذكر ذلك الحديث» أو نحو ذلك، فما عليه جمهور أهل العلم وقول مالك والشافعي وأحمد في أصحّ الروايتين عنه أنَّ ذلك لا يقدح في الخبر بل يقبل ويعمل به، وبه قال أهل الحديث، ونسب القول إلى محمَّد بن الحسن صاحب أبي حنيفة(١)، وقد استدلَّ له المصنَّف بإلحاق فرع النسيان على الموت إلحاقًا قياسيًّا، فإنَّه إذا كان موته لا يسقط العمل به فكذلك نسيانه، ومن الأدلة التي استند إليها الجمهور ما ثبت في سنن أبي داود عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «قَضَى بِاليَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ»، فذكر ذلك لسهيل فقال: «أخبرني ربيعة ـ وهو ثقة عندي ـ أني حدَّثته إيَّاه ولا أحفظه»(٢)، ولم ينكره أحد من التابعين فكان ذلك إجماعًا على قَبول الحديث والعمل به. ومن المعقول أنَّ الفرع موصوف بالعدالة والثقة، وقطع بهذه الرواية على الشيخ، والشيخ نسي ـ والنسيان غالب على الإنسان ـ ولم يكذبه، ولم ينكر حديثه، فالأصل أنّ الحافظ الصادق يقبل حديثه ويعمل به.

[في الاحتجاج بترك العمل بما أنكره الأصل]

• قال الباجي -رحمه الله- في الصفحة نفسها:

«وَذَهَبَ الكَرْخِيُّ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ العَمَلُ بهِ».

[م] وهو مذهب أكثر الأحناف، وغاية ما استدلُّوا به قياس الرواية على الشهادة في أنَّه لو شهد شاهدان على شهادة شاهدين فإذا نسي شاهدا الأصل الشهادة ولم يحفظوها فلا يجوز للحاكم القضاء بشهادة شاهدي الفرع فكذلك الرواية، ولا يخفى أنَّ هذا القياس فاسد للفرق بين الشهادة والرواية، فباب الشهادة أضيق من باب الرواية وأغلظ حُكمًا، حيث إنَّه اعتُبِر في الشهادة من الاحتياط والتأكُّد ما لم يُعتَبر مثله في الرواية.

[في إنكار العدل رواية الفرع عنه صراحة]

• وذكر الباجي -رحمه الله- في [ص ٢٥٠] القسم الثاني من الضرب الثاني: فيما إذا قطع أنَّه لم يحدث به بقوله: «وَأَمَّا إِذَا قَالَ: «لَمْ أَرْوِهِ قَطُّ» فَهَذَا مِمَّا لاَ يَجُوزُ الاِحْتِجَاجُ بهِ جُمْلَةً».

[م] والمراد بهذا الضرب: إنكار الشيخ العدل الخبر الذي رواه عنه الفرع إنكارًا صريحًا وهو على قسمين:

ـ إمَّا أن يصرِّح بأنَّ الخبر من مروياته إلَّا أنَّه نفى نفيًا صريحًا بعدم تحديث الراوي به، فهذا لا يمنع من الاحتجاج لصحَّة الخبر من جهة المروي عنه لا من جهة الراوي؛ لأنّ روايته من جهة الراوي تبطل.

ـ وإمَّا أن ينكر الشيخ روايةَ الفرع عنه إنكار تكذيب وجحودٍ صراحةً كأن يقول: «لَمْ أَرْوِهِ لَهُ قَطُّ» أو يقول: «كَذَبَ عَلَيَّ»، فقد حكى الآمدي وابن الحاجب وغيرهما الإجماع على عدم الاحتجاج به، والصحيح أنَّ هذه المسألة موضع اجتهاد واختلاف رأي، فمذهب الأكثرين عدم العمل به خلافًا لتاج الدِّين السبكي وأبي المُظفَّر السمعاني وأبي الحسن القطان وابن الوزير وغيرهم(٣)، ومذهب الجمهور أقوى لأنَّ كلا منهما مكذِّب للآخر فيما يدَّعيه، وهذا موجب للقدح في الحديث، لكنَّه لا يوجب جرح واحد منهما على التعيين لقيام الشكِّ في كذبه، ولمّا كانت العدالة متيقّنة ـ وهي الأصل ـ فلا يجوز أن يترك اليقين إلَّا بيقين مثله لا بالشكِّ.

والخلاف له آثاره من الناحية العملية من جهة أنَّ من احتجَّ بحديثه عمل بمقتضى الحديث، ومن لم يحتجّ به امتنع عن العمل بمقتضى الخبر.

 



(١) انظر المصادر الأصولية والحديثية المثبة على هامش «الإشارة» (٢٤٩).

(٢) أخرجه أبو داود في «الأقضية» [(٤/ ٣٤) ٣٦١٠]، باب القضاء باليمين والشاهد، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصحَّحه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (٢/ ٤٠٠).

(٣) انظر المصادر الأصولية والحديثية المثبة على هامش «الإشارة» (٢٥٠).

الزوار