فصْلٌ [في الإجماع السكوتي] | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م



فصْلٌ
[في الإجماع السكوتي]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٢٨٢]:

«إِذَا قَالَ الصَّحَابيُّ أَوْ الإِمَامُ قَوْلاً أَوْ حَكَمَ بحُكْمٍ وَظَهَرَ ذَلِكَ وَانْتَشَرَ انْتِشَارًا لاَ يَخْفَى مِثْلُهُ، وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ مُخَالِفٌ وَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ مُنْكِرٌ فَإِنَّهُ إِجْمَاعٌ وَحُجَّةٌ قَاطِعَةٌ».

[م] هذه المسألة معروفة عند الأصوليِّين بالإجماع السُّكوتي، وقد اختلف العلماء في كونه إجماعًا وحُجَّةً، فالذي عليه جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة أنَّ الإجماع السكوتي حُجَّة وإجماع، وعند الشافعية حُجَّة وفي تسميته إجماعًا قولان، وفي أحد النَّقلين عن الشافعي أنه حُجَّة وليس بإجماع، وبه قال أبو هاشم(١) والصيرفي، واختاره الآمدي وابن الحاجب، خلافًا لمن يرى أنه ليس بإجماع ولا حُجَّة وهو مذهب داود الظاهري وابنه أبي بكر والباقلاني وغيرِهم، وهو الرواية الأخرى عن الشافعي، واختارها الغزالي والفخر الرازي، وفي المسألة أقوال أخرى(٢).

والصحيحُ ما ذهب إليه المصنِّفُ من أنَّ الإجماع السكوتي إجماعٌ وحُجَّة تقريرًا لمذهب الجمهور، فإن نقل بعدد التواتر كان إجماعًا قطعيًّا كالإجماع على تحريم ربا الجاهلية، ووجوب الحجِّ مرَّة واحدة في العمر، وعلى وجوب الزكاة في الذهب، وعلى كفر تارك الصلاة الجاحد لوجوبها وقتله كفرًا ما لم يتب(٣)، أما الظنِّيُّ من الإجماع السكوتي وهو ما نقل بعدد الآحاد، فهو حُجَّة ظَنِّية. ويدلّ على صِحة الإجماع السكوتي:

أنَّ المعهود في كلِّ عصر أن يتولى كبار العلماء إبداء الرأي، ويسلم الباقون لهم، فظهر بذلك أنَّ سكوت الباقين إقرارٌ لهم على الحُكم الذي انتهوا إليه، ولا يخفى ـ من جهة أخرى ـ أنَّ السكوت مُعتبر في المسائل الاعتقادية أي يدلُّ على رِضى الساكت؛ لأنه لا يحلُّ السكوت فيها على الباطل، فتُلحق بها المسائل الاجتهادية بجامع أنَّ الحقَّ واحدٌ، فلا يجوز السكوت في موضع بيان المخالفة؛ لأنَّ الساكت عن الحقِّ شيطانٌ أخرسُ، إِذِ السكوت عن الباطل باطلٌ؛ ولأنه ترك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد شهد اللهُ على هذه الأُمَّة أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وهذا يتَّصف به أهل العلم والعدالة، وعليه فيكون سكوتُهم عن موافقةِ مَنْ أعلن رأيَه في المسألة مُعتبرًا، ولأنه وقع ذلك من التابعين عند عدم وجود نصٍّ، فقد عملوا بقول لصحابي انتشر وسكت عن الإنكار بقيةُ الصحابة، فدلَّ ذلك على اتفاق التابعين على وجوب العمل به، وعدم العدول عنه إلى غيره(٤).

أمَّا قول الصحابي إذا لم ينتشر ولم يُعرف له مخالف فقد اختلف العلماء في حُجِّيته على غيره على آراء مختلفة، فمذهب جمهور الأشاعرة والمعتزلة والشافعي في قولٍ وروايةٍ عن أحمدَ إنكار حُجِّية قولِ الصحابيِّ، وهو رأيٌ منسوبٌ إلى جمهور الأصوليِّين، واختاره الكرخي وابن حزم والغزالي والآمدي وابن الحاجب والشوكاني وغيرُهم، وذهب أئمَّة الحنفية والمشهور عن مالك وأكثرُ المالكية، والحنابلة، وبعضُ الشافعية إلى أنه حُجَّة شرعية مقدَّمة على القياس خلافًا لمن يقول بحُجِّيته إذا انضمَّ إليه قياس، وهو ظاهر مذهب الشافعي في الجديد، أو من يرى حُجِّيته فيما خالف القياس، وهو مذهب الحنفية وغيرهم(٥)، والقول بمذهب الصحابيِّ إذا لم يخالف فيه قول صحابي آخر ولم ينتشر حُجَّة شرعية أقوى نظرًا؛ لأنَّ قوله مرجَّحٌ على رأي التابعي وهو أقرب إلى إصابة الحقِّ وأبعد عن الخطإ، وقد خصَّ اللهُ تعالى الصحابة رضي الله عنهم بتوقُّد الأذهان وفصاحة اللسان، فالعربية طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم، شهدوا التنزيل وعرفوا التأويل ووقفوا على أحوال النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ومرادِه في كلامه على ما لم يقف عليه غيرُهم، فكانوا أبرَّ الأُمَّة قلوبًا وأعمقَهم علمًا وأقلَّهم تكلُّفًا، وقد أثنى اللهُ عليهم بقوله سبحانه: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ[آل عمران: ١١٠]، فمن كان هذا شأنه فإنَّ قولَه أولى بالاتباع وأحظى في إصابة الحقّ.

وممَّا يتفرَّع على الاختلاف في الإجماع السكوتي الظنِّي:

مسألة زكاة عروض التجارة، فمن قال بحُجِّيته قال بوجوب زكاة عروض التجارة، وهو مذهب الجمهور الذين استدلُّوا بالآية والحديث والآثار، ولما صحَّ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنها قال: «ليس في العروض زكاة إلَّا ما كان للتجارة»(٦)، ولم يعلم أنَّ أحدًا منهم خالف في ذلك فهو إجماع سكوتي(٧)، ومن مَنَعَ حُجِّيَّة الإجماع السكوتي استحكم البراءة الأصلية التي تؤيِّدها قاعدة: «الأصل في الأموال التحريم» ومنع وجوب الزكاة في عروض التجارة، وبهذا قال ابن حزم(٨) والشوكاني(٩).

 



(١) هو أبو هاشم عبد السلام بن شيخ المعتزلة أبي عليٍّ محمَّد بن عبد الوهاب الجُبَّائي البصري، وهو من رؤوس المعتزلة وابن شيخهم، ألف كتبًا كثيرة منها: «تفسير القرآن»، و«الجامع الكبير»، و«الأبواب الكبير»، توفي سنة (٣٢١ﻫ).

انظر: «الفَرق بين الفِرق» للبغدادي (١٨٤)، «طبقات المفسرين» للداودي (١/ ٣٠٧)، «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (١١/ ٥٥)، «البداية والنهاية» لابن كثير (١١/ ١٧٦)، «المنتظم» لابن الجوزي (٦/ ٢٦١)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان (٣/ ١٨٣)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٢/ ٢٨٩).

(٢) انظر المصادر الأصولية المثبة على هامش «الإشارة» (٢٨٤).

(٣) «سلالة الفوائد الأصولية» للسديس (٦٣).

(٤) انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (٣٨٤).

(٥) انظر تفصيل المسألة في «المعتمد» لأبي الحسين (٢/ ٥٣٩)، «المسائل الأصولية» لأبي يعلى (٤٩)، «التبصرة» للشيرازي (٣٩٥)، «الإحكام» لابن حزم (٤/ ٢١٩)، «البرهان» للجويني (٢/ ١٣٥٨)، «أصول السرخسي» (٢/ ١٠٥)، «المستصفى للغزالي» (١/ ٢٦٠)، «المحصول» للرازي (٢/ ٣/ ١٧٨)، «الإحكام» للآمدي (٣/ ١٩٥)، «المسودة» لآل تيمية (٣٣٦)، «القواعد والفوائد» للبعلي (٢٩٥)، «فواتح الرحموت» للأنصاري (١٤٠)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (٢٤٣)، «مذكرة الشنقيطي» (١٦٤).

(٦) حديث موقوف عن ابن عمر رضي الله عنها، قال الألباني في «تمام المنة» (٣٦٤): «أخرجه الإمام الشافعي في الأم بسند صحيح».

(٧) «أضواء البيان» للشنقيطي (٢/ ٤٥٨).

(٨) «المحلى» لابن حزم (٦/ ٢٣٣).

(٩) «السيل الجرار» للشوكاني (٢/ ٢٦).

الزوار