فصل [في صحة لزوم الدليل على نافي الحكم] | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الأربعاء 8 شوال 1445 هـ الموافق لـ 17 أبريل 2024 م



فصل
[في صحة لزوم الدليل على نافي الحكم]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٣٢٦]:

«مَنِ ادَّعَى نَفْيَ حُكْمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ كَمَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلىَ مَنْ أَثْبَتَهُ، وَقَالَ دَاوُدُ: «لاَ دَلِيلَ عَلىَ النَّافِي»».

[م] هذه المسألة لها علاقة بموضوع الاستصحاب، وهي أنه: إذا نفى بعضُ المجتهدين حُكمًا من الأحكام، فهل يكفيه التمسُّك بأصلِ النفي في عدم ثبوت الحكم عنده، أم يطالب بإقامة الدليل كما يطالب به المثبِت للحكم ؟

ففي تحرير محلِّ النِّزاع لا يختلف العلماء في أنَّ المثبِت للحكم يلزمه الدليلُ، كما أنَّ النافيَ للحكم إن كان نفيه مُستلزمًا لإثبات ضدِّ المنفي كمن نفى الإباحة فإنه يُطالب بالدليل اتفاقًا، وإنما الخلاف في النافي للحكم إذا كان نفيه لا يستلزم ثبوتًا وهو: النفي المجرّد كنفي عبادة في الشرعيات، أو صِحَّة عقدٍ من العقود، أو نفي شيء من الأشياء في العقليات، فهل يلزمه إقامة الدليل ؟

فالذي ارتضاه المصنِّف هو ما عليه جمهور الفقهاء والمتكلِّمين من أنَّه يلزمه إقامةُ الدليل مُطلقًا، خلافًا لمن قال: إنه لا يُطالب بالدليل ولا يلزمه وهو مذهبُ بعضِ الشافعية وداودَ بن علي، ومَن تبعه من أهل الظاهر إلَّا أنَّ ابنَ حزم وافق الجمهور في هذه المسألة(١)، وفصَّل آخرون فيها مع اختلافهم في وجوه التفصيل(٢).

[في الاحتجاج بلزوم الدليل على نافي الحكم]

• وفي الاحتجاج على مذهب الجمهور يقول الباجي -رحمه الله- في الصفحة نفسها:

«وَالدَّلِيلُ عَلىَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالىَ: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[البقرة: ١١١]».

[م] ووجه الاستدلال بالآية التي احتجَّ بها المصنِّف: أنَّ الله تعالى ـ وهو أحكم الحاكمين ـ طالبَ اليهود والنصارى بالدليل على دعوى نفي دخول الجنة إلَّا مَن كان هودًا أو نصارى، ولما كانت دعواهم دعوى نفي فإنَّها تفيد لزوم الدليل على نافي الحكم.

والصواب: أنَّ الاستدلال بالآية على هذا الحكم لا يصحُّ؛ لأنَّ الله تعالى لم يطالبهم بدليل النفي المجرّد، بل ادَّعوا دعوى مضمونها دخولهم هم الجنّة، وأنَّ غيرَهم لن يدخلها، وطولبوا بالدليل على هذه الدعوى المركّبة من النفي والإثبات، وصاحبُ هذه الدعوى يلزمه الدليل باتفاق الناس، وإنما الخلاف في النفي المجرّد، كما أفصح عن ذلك ابن القيم -رحمه الله- وحقَّق هذه المسألة بقوله:

«إن النفي نوعان:

* نوعٌ مستلزم لإثبات ضِدِّ المنفي، فهذا يلزم النافي فيه الدليل، كمن نفى الإباحة فإنه يُطالَبُ بالدليل قَطْعًا؛ لأنَّ نفيَها يستلزم ثبوتَ ضِدٍّ من أضدادِها، ولابدّ من دليلٍ، وكذلك نفيُ التعذيب بالنار بعد الأيام المعدودة(٣) يستلزم دخول الجنّة والفوز بالنعيم ولابدّ من دليل.

* النوع الثاني: نفيٌ لا يستلزم ثبوتًا كنفي صِحَّةِ عقدٍ من العقود، أو شرطٍ، أو عبادةٍ في الشرعيات، ونفي إمكان شيءٍ ما من الأشياء في العقليات، فالنافي إن نفى العلم به، لم يلزمه الدليل، وإن نفى المعلوم نفسَه، وادّعى أنه مُنتفٍ في نفس الأمر فلابدَّ له من دليل»(٤).

والظاهر أنَّ نفي المعلوم في نفس الأمر هو دعوى منفية الحكم نفيًا مجرَّدًا، والدعاوى لا تثبت إلَّا بدليل، لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «البَيِّنَةُ عَلىَ مَنِ ادَّعَى»(٥)، وعليه فلا فرق في وجوب إقامة الدليل على الدعوى سواء على المثبت أو النافي، إذ لو سقط الدليل على النافي لأمكن للمثبت أن يعبر عن مذهبه بلفظ النفي كأن يقول مثلًا: «غير قادر» بدلًا من لفظة «عاجز» ليتخلَّص بأسلوب النفي من الدليل، الأمر الذي يُفضي إلى إسقاط الدليل على المثبت والنافي جميعًا، ولا شكَّ في بطلان هذه النتيجة فتبطل وسيلتُها المفضية إليها جريًا على قاعدة: «مَا أَدَّى إِلَى بَاطِلٍ فَهُو بَاطِلٌ»، لذلك يلزم النافي للحكم الدليل سدًّا للذريعة.

هذا، ولا يعلم انعكاس هذا الخلاف وتأثيره على الفروع الفقهية، لذلك كان الخلاف لفظيًّا، يُحتاج إليه في تقعيد المناظرات العلمية.

 



(١) انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (٣٢٦).

(٢) من وجوه التفصيل ما ذهب إليه بعض الشافعية أنَّ الحكم إن كان عقليًّا يلزم النافي له الدليل، ولا يلزمه إن كان شرعيًّا وهو محكي عن الباقلاني وابن فورك وغيرهما، وهذا التفصيل بين العقليات والشرعيات يحتاج إلى دليل التفريق، وذهب آخرون إلى نفي الحكم إن ثبت بالضرورة، فلا يطالب بالدليل؛ لأنَّ الضرورة دليل، أمَّا إن ثبت بالظنّ أو بالعلم النظري وجب عليه الدليل كما يجب على من أثبته؛ لأنَّه محلّ شبهة بخلاف الضروري فتنتفي فيه الشبهة، ولا يخفى أنَّ الضروري خارج عن محلِّ النزاع باعتبار أنَّ الضرورة دليل، أمَّا العلم النظري فلا يخرج عن مذهب القائلين بلزوم الدليل عليه فلا وجه للتفصيل.

(٣) وذلك في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠].

(٤) «بدائع الفوائد» لابن القيم (٤/ ١٥١ ـ ١٥٢).

(٥) أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (١٠/ ٢٥٢)، وأصله في الصحيحين بلفظ: «اليَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ». أخرجه البخاري في «الرهن» (٥/ ١٤٥) باب إذا اختلف الراهن والمرتهن، ومسلم في «الأقضية» (١٢/ ٢) باب اليمين على المدَّعى عليه، والترمذي في «الأحكام» (٣/ ٦٢٦)، باب البينة على المدعي والنسائي في «القضاء» (٨/ ٢٤٨) باب عظة الحاكم على اليمين، وابن ماجه في «الأحكام» (٢/ ٧٧٨) باب البيِّنة على المدَّعي واليمين على المدَّعَى عليه، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه قصّة.

[انظر تخريجه في: «نصب الراية» للزيلعي (٤/ ٩٥)، «التلخيص الحبير» لابن حجر (٢/ ٢٠٨)، «الدراية» لابن حجر (٢/ ١٧٥)، «إرواء الغليل» للألباني (٨/ ٢٦٤)].

الزوار