فصل [في اقتضاء الأمر المطلق الوجوب] | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م



فصل
[في اقتضاء الأمر المطلق الوجوب]

في معرض الاستدلال على أنَّ لفظ الأمر المطلق إذا ورد عاريًا من القرائن وجب حمله على الوجوب ما لم يدلَّ عليه دليل أنه أريد به الندب.

• يقول الباجي -رحمه الله- في [ص ١٦٨]:

«وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ: قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لإِبْلِيسَ: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ[الأعراف: ١٢]، فَوَبَّخَهُ وَعَاقَبَهُ لَمَّا لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ بالسُّجُودِ لآدَمَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَضَاهُ الوُجُوبَ لَمَا عَاقَبَهُ وَلاَ وَبَّخَهُ عَلَى تَرْكِ مَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ».

[م] والخصم وإن كان يعترض على هذا الدليل بخروجه عن محلِّ النِّزاع؛ لأنَّه ورد في أمر عُلِم كونه واجبًا بقرائن اتصلت به فإنَّ أهل التحقيق ـ بغضِّ النظر عن صحَّة هذا الاحتمال ـ يحتجُّون على أنَّ الأوامر تقتضي الوجوب بأنَّ تارك المأمور به عاصٍ كما أنّ فاعله مطيع بقوله تعالى: ﴿أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي[سورة طه: ٩٣]، وقوله تعالى: ﴿وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا[سورة الكهف: ٦٩]، وقوله تعالى: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ[التحريم: ٦]، وإذا كان تارك المأمور عاصيًا استحقَّ العقاب سواء أكان ذلك في أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم لقوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[سورة النور: ٦٣]، ولقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ[الجن: ٢٣]، ولقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ[الأحزاب: ٣٦]، وقد امتنع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن الأمر بالسواك لأجل المشقَّة مع أنَّ السواك مندوب إليه فلو كان أمره للندب لما امتنع منه(١).

هذا، والمسألة اتسع الخلاف ـ في المعنى الحقيقي للأمر ـ على ما يربو عن ستة عشر قولًا، وما عليه مذهب الجمهور أنَّ الأمر على الوجوب حقيقة، وإنما يصرف إلى غيره بقرينة، وهو قول الشافعي(٢) وظاهر كلام أحمد، وهو مذهب الأحناف وجمهور المالكية، ورجَّحه المصنِّف، وصحَّحه ابن الحاجب(٣)، والبيضاوي(٤)، وقال الفخر الرازي(٥) إنه: «الحقّ»(٦)، غير أنهم يختلفون في دلالته على الوجوب هل هو بوضع اللغة أم بالعقل أم بالشرع ؟ والصحيح أن اقتضاء الصيغة للوجوب إنما ثبت عن طريق اللغة لا عن طريق الشرع ولا العقل؛ لأنّ إلحاق العصيان على من خالف الأمر بمجرَّد ذكر الأمر، وقد ثبت عن أهل اللغة تسمية من خالف مطلق الأمر عاصيًا؛ ولأنَّ الوعيد مستفاد من اللفظ كما يستفاد منه الاقتضاء الجازم، وإذا تقرَّر أنَّ صيغة «ﭐفعل» مقتضية للوجوب بوضع اللغة لزم حمل الأمر على الوجوب سواء كان الأمر الوارد من جهة الشرع أو من غيره إلَّا ما خرج بقرينة أو دليل، خلافًا لمن رأى أنها تقتضي الوجوب بوضع الشرع فيقصرها على أوامر الشرع، أو تقتضي الوجوب عن طريق العقل فيقصرها على الأوامر التي يقتضي العقل أنها الوجوب دون غيرها.

 



(١) انظر: «مفتاح الوصول» للشريف التلمساني (٣٧٨).

(٢) هو أبو عبد الله محمَّد بن إدريس بن العباس القرشي المطلبي الشافعي المكي، الإمام المجتهد المحدّث، الفقيه صاحب المذهب، مناقبه عديدة، له مصنفات في أصول الفقه وفروعه، أشهرها: «الرسالة» في أصول الفقه، و«الأم» في الفقه، و«أحكام القرآن»، توفي سنة (٢٠٤ﻫ).

انظر ترجمته في: «التاريخ الكبير» للبخاري (١/ ٤٢)، «التاريخ الصغير» (٢/ ٢٧٥)، «الفهرست» للنديم (٢٦٣ ـ ٢٦٤)، «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (٧/ ٢١ ـ ٢٤)، «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (٢/ ٥٦ ـ ٧٨)، «ترتيب المدارك» للقاضي عياض (١/ ٣٨٢ ـ ٣٩٧)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان (٤/ ١٦٣ ـ ١٦٩)، «الكامل» لابن الأثير (٦/ ٣٥٩)، «اللباب» لابن الأثير (٢/ ١٧٥)، «البداية والنهاية» لابن كثير (١/ ٢٥١ ـ ٢٥٤)، «طبقات الشافعية» للإسنوي (١/ ١٨ ـ ٢)، «سير أعلام النبلاء» للذهبي (١/ ٥/ ٩٩)، «الديباج المذهب» لابن فرحون (٢٢٧ ـ ٢٣٠)، «وفيات ابن قنفذ» (٣٩)، «تهذيب التهذيب» لابن حجر (٩/ ٢٥/ ٣١)، «طبقات الحفاظ» للسيوطي (١٥٨ ـ ١٥٩)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٢/ ٩/ ١١)، «الفكر السامي» للحجوي (١/ ٢/ ٣٩٤ ـ ٤٥)، «تاريخ المذاهب» لأبي زهرة (٤٣٦ ـ ٤٨٢)، «تاريخ التراث العربي» لسزكين (٢/ ١٦٥ ـ ١٧٦)، «كتاب الإمام الشافعي» لعبد الحليم الجندي.

(٣) هو أبو عمرو جمال الدين عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الكردي، الفقيه المالكي المعروف بابن الحاجب المصري، كان بارعًا في العلوم الأصولية، وتحقيق علم العربية ومذهب مالك، له تصانيف مفيدة منها: «الجامع بين الأمهات»، و«والمختصر»، و«الكافية»، و«الشافية» في النحو والصرف، توفي سنة (٦٤٦ﻫ).

انظر ترجمته في: «الديباج المذهب» (١٨٩)، «البداية والنهاية» لابن كثير (١٣/ ١٧٦)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان (٣/ ٢٤٨)، «بغية الوعاة» للسيوطي (٣٢٣)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٥/ ٢٣٤)، «معجم المؤلفين» لكحالة (٢/ ٣٦٦)، «شجرة النور» لمخلوف (١/ ١٦٧).

(٤) هو أبو الخير القاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي الشافعي، الفقيه الأصولي، صاحب التصانيف الكثيرة، منها: «المصباح» في أصول الدين، و«الغاية القصوى» في الفقه، و«المنهاج» في أصول الفقه، و«أنوار التنزيل» في التفسير، ولي القضاء بشيراز،وتوفي سنة (٦٨٥ﻫ).

انظر ترجمته في: «طبقات الشافعية» للقاضي شهبة (٢/ ١٧٢)، «البداية والنهاية» لابن كثير (٣/ ٣٠٩)، «طبقات الشافعية» للإسنوي (١/ ١٣٦)، «بغية الوعاة» للسيوطي (٢٨٦)، «طبقات المفسرين» للداودي (١/ ٢٤٨)، «مرآة الجنان» لليافعي (٤/ ٢٢٠)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٥/ ٣٩٢)، «الفتح المبين» للمراغي (٢/ ٩١)، «الفكر السامي» للحجوي (٢/ ٤/ ٣٤١).

(٥) هو أبو عبد الله فخر الدين محمَّد بن عمر بن الحسين القرشي البكري التيمي الشافعي، المعروف بابن الخطيب، صاحب المصنفات المشهورة، منها: «التفسير»، و«المحصول»، و«المعالم» في الأصول، و«المطالب العالية»، و«نهاية العقول» في أصول الدين، توفي سنة (٦٠٦ﻫ).

انظر ترجمته في: «طبقات الشافعية» لابن السبكي (٨/ ٨١)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان (٤/ ٢٤٨)، «دول الإسلام» (٢/ ١١٢)، «سير أعلام النبلاء» كلاهما للذهبي (٢١/ ٥٠٠)، «البداية والنهاية» لابن كثير (١٣/ ٥٥)، «لسان الميزان» لابن حجر (٤/ ٤٢٦)، «طبقات المفسرين» للداودي (٢/ ٢١٥)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٥/ ٢١).

(٦) «المحصول» للفخر الرازي: (١/ ٢/ ٦٦)، وانظر المسألة مثبتة على هامش «الإشارة» (١٦٦).

الزوار