فصل [في مخاطبة الكفار بفروع الإيمان] | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الأربعاء 8 شوال 1445 هـ الموافق لـ 17 أبريل 2024 م



فصل
[في مخاطبة الكفار بفروع الإيمان]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ١٧٤] في هذه المسألة:

«…وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ -رحمه الله- أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ شَرَائِعِ الإِيمَانِ».

[م] وهذا القول مشهور عن أكثر الحنفية وهو قول الشافعي وأحمد، واختاره أبو حامد الإسفرائيني(١) والرازي من الشافعية والسرخسي(٢) من الحنفية، وعن الإمام أحمد رواية ثالثة مفادها: أنَّ الكفار مخاطبون بالنواهي دون الأوامر وقيل: مُكلَّفون بما سوى الجهاد، وقيل: يُكلَّف المرتدُّ دون الكافر الأصلي وفي المسألة أقوال أخرى(٣).

غير أنَّ الأصل الذي لا اختلاف فيه بين الأُمَّة أنَّ الكفَّار مخاطبون بالإيمان، أمَّا فروع الإيمان فالذي ينبغي أن يُعلَم أنَّ الكافر غير مُطالَب بفِعلها حالَ كفره؛ لأنَّه إن أدَّاها ـ وهو على هذه الحال ـ لم تقبل منه، ولم يصحّ ما يؤدِّيه من فروع الإيمان إلَّا بعد تحصيل أصل الإيمان لقوله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا[سورة الفرقان: ٢٣]، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا[النور: ٣٩]، ولقوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ[إبراهيم: ١٨]، ولقوله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ[التوبة: ٥٤].

هذا، وإذا أسلم الكافر فليس عليه قضاء ما فاته من العبادات السابقة؛ لأنَّ الإسلام يَجُبُّ ما قبلَه إلَّا أنَّه إن بقي على الكفر فيعاقب على أمرين: أحدهما أصل الإيمان، والثاني على تركه لفروع الإيمان، ودليل ذلك ما ذكره المصنِّفُ أنَّ اللهَ أخبر عن المشركين في معرض التصديق لهم تحذيرًا من فعلهم: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ. وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ. وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ[سورة المدثر: ٤٢-٤٦]. ويدلُّ على معاقبته لهم على أصل الإيمان وفروعه بتضعيف العذاب عليهم في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا[الفرقان: ٦٨ ـ ٦٩]، وعليه فالكافر مُطالَب بفروع الإيمان على الراجح من أقوال أهل العلم، لكن مع تحصيل شرط التكليف المتمثِّل في الإيمان الذي هو أصل تلك الفروع، ولا تنفعه تلك الفروع بدونه، ويدلُّ على مخاطبة الكفار بتلك الفروع عموم الآيات والأوامر الإلهية مثل قوله تعالى: ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ[سورة فصلت: ٦-٧]، وقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا[آل عمران: ٩٧].

ويتفرَّع عن هذا الأصل مسائلُ: منها المرتدُّ إذا أسلم هل يلزمه قضاء الصلوات الفائتة في أيام ردَّته، وكذلك الزكوات التي عليه هل تسقط عنه أم لا ؟ ومن ذلك استيلاء الكفار على أموال المسلمين وحرزها بدارهم هل يملكونها أم لا ؟(٤).

هذا، ويجدر التنبيه إلى أنَّ مسألة مخاطبة الكفَّار بفروع الشريعة ليست قاصرة على الإنس بل شاملة للجِنِّ ـ أيضًا ـ وهم مكلَّفون بفروع الدِّين على أرجح قولي أهل العلم، مع اتفاقهم على تكليفهم بالإيمان للإجماع على أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أرسل بالقرآن الكريم إلى الثقلين، وقد اشتملت أوامر القرآن الكريم ونواهيه على الأصول وفروع الدِّين نحو قوله تعالى: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ[الحديد: ٧]، و﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ[البقرة: ٤٣]. وقد توجَّه خطاب الله تعالى في القرآن الكريم إلى الجنسين معًا في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[سورة الذاريات: ٥٦]، وفي قوله تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ[الأنعام: ١٣٠]، وقوله تعالى: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ[هود: ١١٩؛ السجدة: ١٣]، غير أنَّ تكليفهم قد يختلف عن تكليف الإنس للاختلاف بينهم في الحدِّ والحقيقة كما صرَّح شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-(٥).

 



(١) انظر ترجمته على هامش كتاب «الإشارة» (٣٢٠).

(٢) هو أبو بكر محمَّد بن أبي سهل السَّرَخْسي، المعروف ﺑ «شمس الأئمة»، الفقيه الأصولي أحد أئمة الحنفية، له مصنفات، كثيرة، منها: «المبسوط» في الفقه أملاه وهو في السجن، كما أملى «شرح السير الكبير لمحمَّد بن الحسن»، وله «شرح مختصر الطحاوي»، و«أصول السرخسي» توفي سنة (٤٨٣ﻫ).

انظر ترجمته في: «الجواهر المضيئة» للقرشي (٢/ ٢٨)، «الفوائد البهية» للكنوي (١٥٨)، «تاج التراجم» لابن قُطلوبغا (٥٢)، «معجم المؤلفين» لكحالة (٣/ ٦٨)، «الفتح المبين» للمراغي (١/ ٢٦٤).

(٣) انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (١٧٥).

(٤) «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني (٩٩ ـ ١٠١).

(٥) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٤/ ٢٣٣)، «شرح مختصر الروضة» للطوفي (١/ ٢١٨) «طريق الهجرتين» لابن القيم (٣٥٠).

الزوار