فصل [في المخصّصات المنفصلة للعموم] | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م



فصل
[في المخصّصات المنفصلة للعموم]

• قال المصنِّفُ -رحمه الله- في [ص ١٩٩]:

«يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ القُرْآنِ بخَبَرِ الوَاحِدِ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ، وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ السُّنَّةِ بالقُرْآنِ، وَتَخْصِيصُ عُمُومِ القُرْآنِ وَأَخْبَارِ الآحَادِ بالقِيَاسِ الجَلِيِّ وَالخَفِيِّ، لأَنَّ ذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ دَلِيلَيْنِ».

[م] والمصنِّفُ في هذا الفصل، والذي يليه تناول بالذِّكر بعضَ المخصِّصات المنفصلة، وضابطُ المخصِّص المنفصل هو: «أنَّه يستقِلُّ بنفسه دون العامِّ بأن لا يكون مرتبطًا بكلام آخر، وهو لفظ أو غيره»(١)، والمسائل التي ذكرها المصنِّفُ تصريحًا وغيرها تعريضًا كتخصيص الكتاب بالكتاب، والكتاب بالسنَّة المتواترة أو الآحاد، أو تخصيص عموم القرآن والسنَّة بالإجماع والقياس مطلقًا وبالمفهوم، لا نزاع في جوازها عند الجمهور لوقوعها، و«الوُقُوعُ دَلِيلُ الجَوَازِ»، ولإجماع الصحابة رضي الله عنهم على تخصيص العامِّ من الكتاب والسنّة المتواترة بخبر الواحد من غير نكير، كتخصيص أبي بكر رضي الله عنه الآية في قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ[النساء: ١١]، بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّا مَعشَرَ الأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ»(٢)، كما خصَّصوا عمومَ قوله تعالى: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ[النساء: ٢٤] بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تُنْكَحُ المَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا خَالَتِهَا»(٣).

ومن أمثلة تخصيص الكتاب بالكتاب قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ[البقرة: ٢٢٨] فإنّ عمومَ منطوق هذه الآية قد خُصِّص بقوله تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ[الطلاق: ٤]، فهذه الآية تخصّص الحامل من عموم عِدَّة المطلقات بثلاثة قروء (حيض أو طهر على خلاف)، فإنَّ عِدَّتها بوضع الحمل، ولو بعد ساعة من طلاق أو بعد سنة منه.

وأمَّا تخصيص الكتاب بالسُّنَّة فمثل قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ[النساء: ١١] فهو عموم مخصَّص بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ، وَلَا يَرِثُ الكَافِرُ المُسْلِمَ»(٤).

ومثل تخصيص السُّنَّة بالكتاب قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ»(٥)، فهي مُخصَّصة بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا[النساء: ٤٣].

ومثل تخصيص العموم بالإجماع، قوله تعالى: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ[النساء: ٣]، فظاهر الآية يقضي بإباحة المملوكة سواء كانت أختًا من الرضاع أو لم تكن، لكن الإجماع خصَّص الآيةَ بتحريم المملوكة إذا كانت أختًا من الرضاع.

وأمَّا تخصيص اللفظ العامِّ بالقياس، فمثل قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ[النور: ٢] خصص منه العبد قياسًا على الأَمَة المخصَّصة منه بقوله تعالى: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ[النساء: ٢٥].

وأمَّا تخصيصُ العامِّ بالمفهوم مُطلقًا، فمثاله في مفهوم الموافقة: تخصيص عموم قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَيُّ الوَاجِدِ ظُلْمٌ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ»(٦) بمفهوم قوله تعالى: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ[الإسراء: ٢٣]، فإنَّه يُفهم منه منع حبس الوالد للدين، فلا يصحُّ أن يحبس في دين ولده.

ومثاله في مفهوم المخالفة تخصيص قوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ[النساء: ٣] بمفهوم قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ[النساء: ٢٥]. فإنه مفهوم يقتضي عدم جواز نكاح الأَمَة لمستطيع الطول فيخصَّص به العامّ.

هذا، والمصنِّف ذكر مذهبَ الجمهور في جواز تخصيص اللفظ العامّ بالقياس مطلقًا سواء كان جليًّا أو خفيًّا، وهو الصحيح، خلافًا لمن فَرَّقَ بينهما في التخصيص، فجعل القياس الجليَّ يخصّص العموم دون الخفي وهو مذهب ابنِ سُرَيجٍ والإِصْطَخْرِي من الشافعية(٧)، علمًا أنَّ العلماء يختلفون في تفسير القياس الجليّ والخفيّ على آراء متعدِّدة، حيث يرى بعضهم: أنَّ القياس الجليَّ هو قياس العِلَّة، والقياسُ الخفي هو قياس الشبه، ومنهم من يرى: أنَّ القياس الجليّ ما ينقض قضاء القاضي بخلافه والخفي خلافه، وفسّر آخرون الجليَّ: بأنَّه ما تبادرت علَّته إلى الفهم عند سماع الحكم والخفي بخلافه، وفي المسألة أقوال أخرى، ولكن مهما كان الاختلاف في تفسيرهما فلا يخرج القياس الخفي من أن يكون دليلًا شرعيًّا، حكمه حكم القياس الجليّ، فهما أشبه في تخصيص العموم بخبر المتواتر وخبر الواحد.

أمَّا مذهب الجمهور في العُرف والعادة فإنَّه لا يخصَّص بهما العموم؛ لأنَّ أعراف الناس وعاداتهم لا تكون حُجَّة على الشرع.

 



(١) انظر: «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (٣/ ٢٧٧)، و«جمع الجوامع» لابن السبكي (٢/ ٢٤).

(٢) تقدم تخريجه، انظر: الرابط.

(٣) متفق عليه: أخرجه البخاري (٩/ ١٦٠)، ومسلم (٩/ ١٩١) واللفظ له، وأحمد (٢/ ٤٣٢)، وابن ماجه (١/ ٦٢١)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، انظر طرقَه في «الإرواء» للألباني (٦/ ٢٨٨).

(٤) تقدّم تخريجه، انظر: الرابط.

(٥) أخرجه بهذا اللفظ أبو داود (١/ ٤٩)، ورواه البخاري (١/ ٢٣٤)، ومسلم (٣/ ١٠٤)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ…» وتمام الحديث عند البخاري: قال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة ؟ قال: فساء أو ضراط.

(٦) أخرجه البخاري معلَّقًا (٥/ ٦٢)، وأبو داود (٤/ ٤٥)، والنسائي (٧/ ٣١٦)، وابن ماجه (٢/ ٨١١)، من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه رضي الله عنه، قال ابن حجر في «الفتح» (٥/ ٦٢): «وإسناده حسن»، وحسَّنه الألبانيُّ ـ أيضًا ـ في «صحيح سنن أبي داود» (٢/ ٤٠٣).

(٧) انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش كتاب «الإشارة» للباجي (٢٠١).

الزوار