Skip to Content
الجمعة 19 رمضان 1445 هـ الموافق لـ 29 مارس 2024 م

ردود وتعقيبات رقم: ٢٦

تهاوي شُبُهات الانقضاض في دحضِ جوابِ الاعتراض

[جواب الإدارة على شبهات الانقضاض]

الحمد لله حقَّ حمدِه، والصَّلاةُ والسَّلام على نبيِّه وعبدِه: محمَّد، وعلى آله وصحبِه والتَّابعين لسُنَّتِه مِنْ بعدِه، أمَّا بعد:

فبعد اطِّلاعِ إدارةِ موقعِ الشَّيخ أبي عبد المُعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ على ما سَوَّده صاحبُ: «الانقضاض على الاعتراض (الرَّد على الشَّيخ فركوس في بيانه الأخير)» ارتأَتْ أَنْ تجيبَ عِلميًّا على الإيرادات التي بحوزتها أجوبةٌ عنها إنارةً للعُقول ودفعًا للالتباس، وأَنْ ترفع إلى الشَّيخ أبي عبد المُعزِّ ـ حفظه الله ـ ما رأَتْ مُناسِبًا أَنْ يَتولَّى بنفسه بيانَه وتوضيحَه، وقد انتظمَ الرَّدُّ على الانقضاض والجواب على تفاصيله على المَسار التالي:

ـ أَوَّلًا: الجواب على الاعتراض على العُنوان.

ـ ثانيًا: الجواب على الاعتراض بأنَّ علَّةَ الحُكم في الحديث مركَّبةٌ مِنْ وصفين.

ومعه جواب الشَّيخِ ـ حفظه الله ـ في حَصْر تعليلِ حديثِ وابصةَ رضي الله عنه في وصفين: «فَردٍ» و«خَلْفَ الصَّفِّ».

ـ ثالثًا: الجواب على الاستدلالِ بأثرِ أنسٍ رضي الله عنه، وأنَّ ما يُشبِهُ الصَّلاةَ بالتَّباعد كان معروفًا عند أهل العلم، وأنَّ العلماء الذين أَبطلوا صلاةَ المُنفرِد لم يَعتبروا الفُرَجَ في الصَّفِّ مُبطِلًا للصَّلاة.

ـ رابعًا: الجواب على الاعتراض على كونِ «خلفَ الصَّفِّ» خرَجَ مخرجَ الغالبِ الأعمِّ.

ـ خامسًا: الجواب على الاعتراض بفتوى الألبانيِّ ـ رحمه الله ـ.

ـ سادسًا: الجواب على الاعتراض بأنَّ عدمَ اعتبارِ الوصف هو إهمالٌ وإهدارٌ لألفاظ الحديث.

ـ سابعًا: جوابُ الشيخ ـ حفظه الله ـ عن المُعترِض على أنَّ النَّكرة في سياق النَّفي تفيد العمومَ بالإجماع.

ـ ثامنًا: جوابُ الشيخ ـ حفظه الله ـ عن قولِ المُعترٍض بأنَّ الشَّيخَ لم يسبقه إلى القول ببُطلان صلاة التَّباعد أحَدٌ.

ـ تاسعًا: الجواب على الاعتراض بقاعدة: «الخروج مِنَ الخلاف مُستحَبٌّ» و«مراعاة الخلاف».

ـ عاشرًا: الخاتمة، وفيها حوصلةٌ عن طابع الانقضاض.

   أوّلًا: الجواب على الاعتراض على العنوان:

قال المُعترِضُ: «قوله في العنوان: «في الاعتراض على جهةِ دلالةِ حديثِ وابصةَ وعلي بنِ شَيْبان رضي الله عنهما» وجوابُه مِنْ وجهين: ...».

الجواب:

أمَّا الاعتراضُ على العنوان فهو اعتراضٌ في غيرِ موضعِهِ، حيث إنَّ الشَّيخَ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ كان دقيقًا في العبارة ـ كعادَتِهِ ـ ولم يكتفِ بلفظةِ: «الدِّلالة» ولكِنْ أضاف إليها كلمةَ: «جهة الدِّلالة»، فلو اقتصر على لفظةِ «الدِّلالة» لكانَ الاعتراضُ صحيحًا، إذ دلالةُ حديثِ وابصةَ وعليِّ بنِ شَيْبان رضي الله عنهما هي: بطلانُ صلاةِ المُنفردِ وهو الحكمُ الأصليُّ، ولكنَّه لمَّا أضاف إليها كلمةَ «الجهةِ» ظهَرَ واضحًا أنَّ الاعتراضَ الذي أَوضحَ الشَّيخ اللَّبسَ فيه إنَّما كان على: جهةِ دلالةِ حديثِ وابصةَ وعليِّ بنِ شَيْبان رضي الله عنهما على حكم الصَّلاة بالتباعد: هل هي مِنَ الجهةِ النَّصِّيَّة اللَّفظيَّة أم أنَّها مِنَ الجهة القياسيَّةِ العقليَّة؟ ولذلك فكلامُ المُعترضِ لا معنَى له في هذا البابِ ولا يُلتفَتُ إليه، لأنَّه لا محلَّ له في كلام الشَّيخ ـ حفظه الله ـ.

وبالمُقابلِ فإنَّ عنوانَ المُعترِضِ عليه لا له، لأنَّ الاعتراضَ كان منه على فتوى الشَّيخ المُتقدِّمة، والانقضاضَ أُضِيفَ إلى الاعتراض وهو فعلٌ لازمٌ، فكان مُضافًا إلى فاعله، وهو هنا ليس كانقضاضِ الصَّقر أو الفهد أو الأسد على فريسته، والذي يُقال فيه: انقضَّ الجارحُ على الفريسة، وإنَّما هو مِنِ انقضاضِ بناءِ اعتراضه، وهو تصدُّعُه(١)، فالَّذي يخدم المُعترِضَ أَنْ يكون عنوانُه: الانقضاض على جواب الاعتراض، أو: انقضاض جوابِ الاعتراض، أو: الانقضاض على فتوَى «في الاعتراض على جهةِ دلالةِ حديثِ وابصةَ وعليِّ بنِ شَيْبانَ رضي الله عنهما».

   ثانيًا: الجواب على الاعتراض بأنَّ علَّةَ الحكم في الحديث مركَّبةٌ مِنْ وصفين:

قال المُعترِض: «أَوَّلها: أنَّه نصَّ على أنَّ عِلَّة الحديث منصوصٌ عليها، وهي: «الانفراد»، و«خلف الصفِّ»، وهما وصفان مجتمعان، لا يُفصَل أحَدُهما عن الآخَرِ، ويعني: بطلانَ صلاةِ المنفرد حالَ كونِه خلف الصفِّ».

الجواب:

ذكَرَ المُعترِضُ في مقاله أنَّ علَّةَ الحُكم في حديثِ وابصةَ وعليِّ بنِ شَيْبان رضي الله عنهما مركَّبةٌ مِنْ وصفين: الأَوَّل: هو الانفرادُ، والثَّاني: هو كونُه خلفَ الصَّفِّ، والظَّاهر أنَّ المُعترضَ ردَّ على الفتوى دونَ قراءتها، ولو قرَأَها لَتبيَّن له واضحًا أنَّ الشيخَ ـ حفظه الله ـ أصَّلَ وفصَّل وتفنَّنَ في تفنيدِ هذا الاعتراضِ وهو سببُ الفتوى أصالةً، حيث إنَّ الشَّيخ ـ حفظه الله ـ أَلحقَ حُكمَ الصَّلاةِ بالتَّباعد بصلاة المُنفرِدِ لكونِ عمومِ لفظِ الحديث الصَّريحِ يَستغرِقهُ ويقتضيه، فالإلحاقُ ـ إذن ـ إلحاقٌ لفظيٌّ لا قياسيٌّ، ونظرُ المجتهد ـ هاهنا ـ إنَّما هو في تحقُّقِ صفة الانفراد في الصَّلاة بالتَّباعدِ، وقد عبَّر بعضُ أهل العلم عن هذا الاجتهادِ بتَحقيق المَناطِ(٢)، فلا دَخْلَ للعِلَّة المركَّبةِ في هذا الباب، وإنَّما هو حكمٌ شرعيٌّ أُنيطَ بوصفٍ عامٍّ وهو الانفرادُ في صلاة الجماعةِ، وأمَّا كونُه خلفَ الصَّفِّ فالشَّيخ قد أجاب بجوابٍ كافٍ شافٍ حيث قال: «وأمَّا قوله: «خَلْفَ الصَّفِّ» فإمَّا أَنْ يكون قد خرَجَ مَخْرَجَ الغالِب الأعمِّ فلا مفهومَ له، وإمَّا أَنْ يكون الوصفُ طَرديًّا ليس في إناطةِ الحكم به مصلحةٌ، لأنَّ العلماءَ لا يختلِفون في صورةِ الانفراد بين أَنْ تكون خلفَ الإمامِ أو خلفَ الصَّفِّ أو مع الصَّفِّ وَحْدَه، ألَا تَرَى أنَّ الاثنين إِنْ صلَّيَا جماعةً لم يكن الإمامُ منهما متقدِّمًا؟ وإنَّما يُؤمَرُ المأمومُ الواحدُ أَنْ يُصافَّه حتَّى لا يكونَ مُنفرِدًا».

وعلى فرض التَّسليمِ ـ جدلًا أو تنزُّلًاـ أنَّ إلحاقَ الحكم في هذه المسألةِ إنَّما كان بالقياس لا بالنَّصِّ، فهو ـ أيضًا ـ لا يخدم المعترضَ وذلك مِنْ وجهين:

ـ الأوَّل: أنَّه غالبًا ما تكون الأحكامُ الشَّرعيَّة العمليَّةُ مصحوبةً في دليلها التَّفصيليِّ بجُملةٍ مِنَ الأوصاف، حيث يقوم المجتهدُ بعدها بتنقيح المَناط: وهو انتخابُ ـ أو تهذيبُ ـ الأوصافِ المُلائمةِ الصَّالحة لتعلِيل الحكمِ وتصفِيَتُها، إمَّا بالإنقاص مِنَ الأوصاف الواردة غيرِ المُلائمة وإمَّا بالزِّيادة عليها(٣)، ولا يخفى أنَّ كونه «خلف الصَّفِّ» إنَّما خَرَجَ مَخرجَ الغالب أو هو وصفٌ طرديٌّ لا يتأثَّر الحُكمُ به وُجودًا ولا عَدَمًا ـ كما سبق بيانُه ـ، ذلك أنَّ مِنْ لوازمِ اعتبارِ هذا الوصف: تصحيحُ صلاةِ المُنفرِد خلفَ الإمام إذا صلَّى رجلان فقط، وهذا لم يَقُلْ به أحَدٌ ممَّنْ يقول ببطلان صلاة المُنفرِد خلفَ الصَّفِّ، قال البُهوتيُّ ـ رحمه الله ـ: «ولا تصحُّ صلاةُ الفذِّ ـ أي: الفردِ ـ خَلْفَهُ ـ أي: خلفَ الإمامِ ـ أو خلفَ الصَّفِّ إِنْ صلَّى ركعةً فأَكثرَ عامدًا أو ناسيًا، عالمًا أو جاهلًا؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ لِفَرْدٍ خَلْفَ الصَّفِّ» ... إلَّا أَنْ يكونَ الفذُّ خَلفَ الإمامِ أو الصَّفِّ امرأةً خلفَ رجلٍ، فَتصِحُّ صَلاتُهَا لحديثِ أنسٍ رضي الله عنه»(٤)، و«إذا كان اللَّازمُ باطلًا فالمَلزومُ مثلُه».

وقد سألنا الشَّيخ ـ حفظه الله ـ عن قولِ المُعترِضِ:

«وجوابُه مِنْ وجوهٍ:

أوَّلها: أنه ذَكَر سابقًا: أنَّ العلَّةَ منصُوصٌ عليها؛ وهي: الانفراد، و«خلف الصَّفِّ». فهي مشتركةٌ بينهما، مجتمعتَان.

الثاني: أنَّ التَّحقُّق إنَّما يكون في هذين الوصفين مُجتمِعَين معًا؛ وهما: «فرد»، و«خلف الصَّفِّ»؛ لأنَّ لهما تأثيرًا في الحكم؛ وليس الانفرادُ وَحْدَه؛ ولهذا، لا ينبغي التحقُّقُ مِنْ وصفٍ وإهمالُ الوصفِ الآخَرِ.

ولأنَّ العلَّةَ المنصوصَ عليها في كِلَا الحديثين؛ هي: «فرد»، و«خلف الصفِّ»؛ ولفظ العامِّ هو: «فرد» فقط.

والعلَّة المنصوصة تُوجِبُ الأخذَ بها والوقوفَ عندها، وعدَمَ تَجاوُزِها إلى غيرها.

فتحقيق اللفظ العامِّ الذي هو «فرد» على أفراده، هو: فردَان، وأفرادٌ؛ لكن مقيَّدٌ بلفظِ: «خلف الصفِّ» لأنه مُتعلِّقٌ به؛ لا يمكن فصلُه عنه كما تقدَّم.

وتوضيحه:

لا صلاةَ لفردٍ خلف الصفِّ؛ ولا صلاةَ لفردٍ خلف الفرد السابق، ولا صلاةَ لفردٍ خلف الفرد الثاني...؛ وهكذا غير مُنتظِمِين؛ كما تقدَّم توضيحُ شيخِ الاسلام ابنِ تيمية لصلاة المُنفرِدين خَلْفَ الصفِّ.

الثالث: أنَّ لفظ: «خلف الصفِّ» شبهُ جملةٍ، متكوِّنٌ مِنْ «خلف»، وهو ظرفُ مكانٍ، وهو مُضافٌ؛ و«الصفِّ» بالإفراد ـ والمرادُ به: الجنسُ ـ: مُضافٌ إليه؛ وشبهُ الجملة متعلِّقٌ ﺑ «الفرد» كما تقدَّم.

والظرف لا بُدَّ له مِنْ مُتعلَّقٍ؛ لأنه يدلُّ على معنًى يتعلَّق ويرتبط بمعنى الفعل الذي يدلُّ على حدثٍ في الزمان أو المكان.

قال ابنُ هشامٍ في «مغني اللبيب» (٥٦٦): «لا بُدَّ مِنْ تعلُّقهما (يعني: الظرف، والجارَّ والمجرور) بالفعل أو ما يُشبِهُه، أو ما أُوِّل بما يُشبِهُه، أو ما يشير إلى معناه؛ فإِنْ لم يكن شيءٌ مِنْ هذه الأربعةِ موجودًا قُدِّرَ».

ﻓ «خلف الصفِّ» متعلِّقٌ ﺑ «فرْد»؛ فلا يمكن فصلُه عنه؛ لأنَّ ارتباطَ شبهِ الجملة «خلف الصف» به.

فإذا قُلنا: «لا صلاةَ لفردٍ» دلَّتْ هذه الجملةُ على معنًى تامٍّ مُسْتقِلٍّ.

وإذا قُلنا: «لا صلاةَ لفردٍ خلف الصفِّ» دلَّ الظرفُ هنا على معنًى متعلِّقٍ بصلاة الفرد؛ وأضاف معنًى جديدًا؛ وهو: لا صلاةَ لمنفردٍ حالَ كونِه خلفَ الصفِّ؛ لهذا لا يجوز إهمالُه ولا إلغاؤه.

كما لو قلنا: «صلَّى زيدٌ خلفَ السارية»؛ فإذا قلنا: «صلَّى زيدٌ» كانت الجملةُ تامَّةً مُستقِلَّةً؛ لكن إذا قُلنا: «صلَّى زيدٌ خلف السارية» دلَّ الظرفُ على معنًى جديدٍ متعلِّقٍ بالفعل: «صلَّى».

وأيضًا فلفظُ: «فرد» عامٌّ، عقبه بذكرِ صفةٍ خاصَّةٍ، وهي: «خلف الصفِّ»؛ فلا بُدَّ مِنَ النظر في الوصفين عند بناء الحكم؛ وإلَّا كان الوصفُ الثاني هذرًا بلا فائدةٍ؛ وهو منزَّهٌ عنه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ وإذا لَزِم النظرُ في الوصف الثاني لَزِم التقيُّدُ به.

وهذا كقوله: «في الغنمِ السائمة زكاةٌ»؛ فلفظُ «الغنم» عامٌّ في «السائمة» وفي غيرها؛ لكنَّ تعقيبَه بذكرِ صفةٍ خاصَّةٍ وهي «السائمة» يفيد عدمَ وجوبِ الزكاة في المعلوفة؛ فتقييدُه بالسائمة قَصَد به نفيَ الحكمِ عن المعلوفة؛ وإلَّا لكان التقييدُ هذْرًا.

وهذا واضحٌ جدًّا؛ لهذا ينبغي لمَنْ يريد الاستدلالَ بحديثٍ واستنباطَ أحكامِه: أَنْ يعرف إعرابَه، حتَّى يُتِمَّ فهمَه فهمًا سليمًا.

قال الأوزاعيُّ: «أَعرِبُوا الحديثَ، فإنَّ القومَ كانُوا عَرَبًا». أخرجه الرامهرمزيُّ في «المحدث الفاصل» (٥٢٢)، والخطيب في «الكفاية» (١٩٥)، وابنُ عبد البرِّ في «جامع بيان العلم» (٤٥٤ ـ ٤٥٥).

وقوله: «أعربوا». يقال: أَعربَ عنه لسانُه وعرب إذا بيَّن ما في ضميره. وإنما سُمِّيَ الإعرابُ إعرابًا لتبيِينه وإيضاحه؛ المعنى: بيِّنوا ما في الحديث مِنْ غرائب اللغة، وبدائعِ الإعراب؛ انظر: «شرح المشكاة» (٥/ ١٦٧٢) للطِّيبي، في شرح كلمة: «أعربوا القرآنَ».».

فأجاب ـ حفظه الله ـ بما يأتي:

«يمكنُ الرَّدُّ على هذا الجوابِ المُسْهَب بما يأتي:

إنَّ حَصْرَ تعليلِ حديثِ وابصةَ رضي الله عنه في وصفين: «فَردٍ» و«خَلْفَ الصَّفِّ» غيرُ مُستوفٍ، لأنَّ المَعلومَ أنَّ المُجتهِدَ ينبغي أَنْ يحصرَ جميعَ الأوصافِ المَوجودةِ في الأصلِ المُحتمِلةِ للتَّعليلِ وهو المُعبَّرُ عنها ﺑ: «التَّقسيم»، وهذا لم يتمَّ له تحقيقُ النَّتيجةِ اكتفاءً بالوصفين المَذكورين ـ على ما صرَّح به ـ دون مراعاةِ بقيَّةِ الأوصاف الأخرى الَّتي يُمكن إضافتُها إلى الوصفين السابقين، مثل وصفِ: «كونه ذَكَرًا»، و«كونِه يُصلِّي جماعةً»، و«كونِه في المَسجدِ»، ثمَّ يُنقِّحُ المَناطَ ويَختبِرُ الأوصافَ واحدًا تِلوَ الآخَرِ في صلاحِيَتِهِ للتَّعليلِ وإبطالِ ما لا يصلحُ له، فيُعيِّنُ الوصفَ المُناسِبَ المُؤثِّر على الحُكمِ مِنَ المُناسِبِ غيرِ المُؤثِّر على وجهِ السَّبْرِ، مع مراعاةِ الفَرْقِ بين الوَصْفِ المُرتبِطِ بالحُكمِ والوصفِ المُرتبِطِ بمحَلِّ الحُكمِ أو مُتَعلَّقِهِ.

فإذا حقَّقْنا النَّظرَ في مناسبةِ الوصف للحكمِ وجَدْنا أنَّ الشَّريعةَ عُنِيَتْ بأمرِ صلاةِ الجماعةِ عنايةً كبيرةً، ونَوَّهَتْ بأهمِّيَّتِها وفضلِها، وأَمَرَتْ بإقامتِها على وجهِ الاجتماعِ والاصطفافِ، وشَددَّتْ في مخالفتِها، ووجَدْنا صورةَ صلاةِ الفذِّ الذَّكَرِ لا يتحقَّق فيها معنى الجماعة المَطلوبةِ والمُؤكَّدةِ شرعًا، وإنَّما تخالفها، فأَدرَكْنا ـ والحالُ هذه ـ أنَّ وصفَ صلاةِ الفذِّ وَحْدَه في الجماعةِ هو الوصفُ المُناسِبُ المُؤثِّرُ على الحكم بالمَنْعِ والإبطال، لأنَّ الحكمَ الشَّرعيَّ إنَّما يتعلَّقُ بفعلِ المكلَّفِ ـ وهي صلاتُه مُنفرِدًا ـ ولا يتعلق بالأعيانِ ولا بالذَّواتِ، هذا مِنْ جهةٍ، ولعدمِ مراعاةِ جماعة المُسلمين في الصَّلاةِ بصورةٍ مُطلَقةٍ ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ سواءٌ أكان خلفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، أو وَحْدَهُ بين صفَّيْنِ، أو وَحْدَه وراءَ الإمام وقبل الصَّفِّ، علمًا أنَّ وصفَ «خَلْف الصَّفِّ» إنَّما هو واردٌ في محلِّ الحكمِ ومُتعلَّقِهِ لا في ذاتِ الحُكم أي: أنَّهُ يتعلَّق بمحلِّ الحُكم وهو الفَردُ الذَّكَرُ ولا يتعلَّقُ بحُكم النَّهي والإبطال، ذلك لأنَّ «خَلْفَ الصَّفِّ» لا يقوم وصفًا مُستقِلًّا في ذاتِه لتَعلُّقه بالفَذِّ الَّذي يرتبطُ به الحكمُ وهو المَطلوبُ، سواءٌ وُجِد وصفُ «خَلْفَ الصَّفِّ» أو انتفى، وذِكرُه في الحديثِ إنما هو لوقوعِ الحادثة به، ولأنَّ الصورةَ التي يقعُ الانفرادُ عليها ـ غالبًا ـ هي خَلفَ الصَّفِّ.

وهذا هو مناطُ الحكمِ الَّذي استنبطَه أو حقَّقه الإمامُ أحمد ـ رحمه الله ـ حيث نقل ابنُ القيِّمِ ـ رحمه الله ـ عنه أنَّه قال: «إذا صَلَّى بين الصَّفَّيْن وَحْدَه يُعيدُها، لأنَّه فَذٌّ وإِنْ كان بين الصَّفَّيْنِ»(٥)، واكتفى ـ رحمه الله ـ بهذا الوصف ـ كما ترى ـ لكونه وصفًا مناسبًا ومؤثرًا على الحكم، ولم يقيِّده ﺑ «خلف الصَّفِّ».

وما ذكَرَه المُعترِضُ في مثالِ ابنِ تيميَّة ـ رحمه الله ـ إنَّما هو حجَّةٌ عليه لا له، إذ فيه فردٌ خَلْفَ فردٍ، لا فردٌ خلف الصفِّ، فهو ليس تفسيرًا لقوله: «خلفَ الصَّفِّ»، بل هو دليلٌ على أنَّه ليس قيدًا، وأنَّه إذا كان الفردُ خلفَ الصَّفِّ لا صلاةَ له ويُؤمَرُ بالإعادة فالفردُ خلفَ الفردِ كذلك بلْ أَوْلى منه.

ومثلُه ـ أيضًا ـ لو اعتبَرْنا وَصْفَ «كونه في المسجد» لَتَعَلَّقَ الحكمُ ـ هو الآخَرُ ـ بمحلِّ الحُكمِ وهو فعلُ الفَردِ الذَّكَرِ، لا بذاتِ الحُكمِ وهو النَّهيُ والإبطال، لكونه وصفًا غيرَ مُستقِلٍّ، وعليه نُثبِتُ حُكْمَ النَّهيِ والبطلانِ لصلاة الفذِّ وَحْدَه دون الجماعة، سواءٌ كان داخِلَ المسجدِ أو خارِجَه، وإِنْ كان وقوعُ الانفرادِ في المسجد هو الغالبَ.

لكِنْ ـ كما هو معلومٌ ـ فإنَّ سوءَ تصوُّرِ المسألةِ، وضَعْفَ توظيفِ القواعدِ على وجهها الصَّحيحِ، وعدمَ التَّحريرِ الدَّقيقِ لبعض المسائل لَهي مِنْ أهمِّ أسبابِ التَّناقضِ والاختلافِ» ا.هـ

ـ الثَّاني: المَعلومُ أنَّ النكرةَ إذا كانت في سياق النَّفي ورُكِّبَتْ مع «لا» وبُنِيَتْ على الفتح فهي مِنْ جهة الوضع نصٌّ صريحٌ في العموم وليست مِنَ القياس في شيءٍ، ويُؤكِّده ابنُ النَّجَّار الفتوحيُّ ـ رحمه الله ـ حيث قال: «ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ دَلالَةَ النَّكِرَةِ فِي سِياقِ النَّفْيِ عَلى العُمُومِ قِسْمانِ: قِسْمٌ يَكُونُ «نَصًّا» وصُورَتُهُ: ما إذا بُنِيَتْ فِيهِ النَّكِرَةُ عَلى الفَتْحِ لِتَرَكُّبِها مَعَ لا، نَحْوَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ»(٦)، وقال الشنقيطيُّ ـ رحمه الله ـ «لِأنَّ قَوْلَهُ: «لا حَرَجَ» نَكِرَةٌ فِي سِياقِ النَّفْيِ رُكِّبَتْ مَعَ لا فَبُنِيَتْ عَلى الفَتْحِ، والنَّكِرَةُ إذا كانَتْ كَذَلِكَ فَهِيَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي العُمُومِ، فالأحادِيثُ إذَنْ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي عُمُومِ النَّفْيِ لِجَمِيعِ أنْواعِ الحَرَجِ مِنْ إثْمٍ وفِدْيَةٍ»(٧).

والمُعترِضُ ـ بتلاعبه ـ سعى جاهدًا إلى نقلِ الدَّليل مِنَ النَّصِّ اللَّفظيِّ النَّقليِّ الصَّريحِ في العمومِ إلى القياسيِّ العقليِّ، وذلك ليُصيِّر الدليلَ ظنِّيًّا لا قطعيَّ الدِّلالة، وهو ـ في حقيقة الأمر ـ إنَّما نقل الدَّليلَ مِنَ الظَّنِّيِّ النَّصِّيِّ إلى الظنِّي القياسيِّ، ذلك لأنَّ العمومَ وإِنْ كان قطعيَّ الاستغراق لأَدْنَى أفراده، إلَّا أنَّه ظنِّيٌّ في استغراقِ جميعِ أفراده؛ وإنَّما يحتاجُ المجتهدُ إلى التَّفريق بين الدليل اللفظيِّ وبين الدليل القياسيِّ في باب التَّعارض والتَّرجيح، بحيث يُقدِّمُ اللَّفظيَّ على القياسيِّ عند استحالة الجمع، وإلَّا فالقياسُ مِنَ الأدلَّة الشرعيَّة بإجماعِ مَنْ يُعتَدُّ بقوله مِنْ أهل العلم(٨)، وهو القسم الرَّابع مِنْ أدلَّة التَّشريع، هذا مِنْ جهةٍ.

ومِنْ جهةٍ أخرى، فإنَّ المعترض بعدما نقَلَ الاستدلالَ بالنَّص إلى الاستدلالِ بالقياس ـ بزعمه ـ حاول أَنْ يُقرِّر لمتتبِّعيه ويُقعِّد لهم أنَّ الإنكارَ إنَّما يكون في المسائل القطعيَّة لا الظَّنِّيَّة، وهذا مردودٌ عليه ـ كما ذَكَرَ الشيخ ـ ذلكَ لأنَّ غالِبَ الأحكام التَّشريعيَّة العمليَّة إنَّما بابُها غلبةُ الظَّنِّ لا القطعُ بالحكم، وأمَّا ما قُطِع بحُكمه فقليلٌ، ولو قصَرَنا الإنكارَ على المسائل القطعيَّة لَانْقطعَ الإنكارُ ولَأُغلِقَ بابُه، ألَا ترى أنَّ النَّبيذَ إنَّما حُرِّم بالقياس لا بالنَّصِّ القطعيِّ: فهل يُعقَل تركُ الإنكار على شاربِه بدعوَى أنَّ الحكمَ إنَّما استُنبِط بالظَّنِّ الرَّاجح لا بالقطع؟ إنَّ هذا لَشيءٌ عُجابٌ؟!

وأخيرًا، فإنَّ لازِمَ ما حاولَ أَنْ يُؤصِّل له المُعترِض: أَنْ يُقصَرَ العمومُ على أفراده الواردة في عَهدِ النُّبوَّةِ، وأنَّ كُلَّ إلحاقٍ بعده في النَّوازل إنَّما هو إلحاقٌ قياسِيٌّ لا نَصِّيٌّ، فحَصَرَ بابَ الاجتهاد في القياسِ فقط، ولا مدخلَ للنُّصوص العامَّةِ في النَّوازلِ، وهذا في تمامِ التَّهاوي والبطلان، ذلك أنَّ الصَّحابةَ كانوا يُعمِلون النُّصوصَ العامَّةَ في المَسائل التي تُعرَض عليهم ـ كما سبق بيانُه ـ مِنْ دون نكيرٍ؛ هذا مِنْ جهةٍ، ومِنْ جهةٍ أخرى فإنَّ العلماء لا يختلفون أنَّ أوَّلَ ما تُعرَض عليه النَّوازلُ إنَّما هو الكتابُ والسُّنَّة، ذلك لأنَّ الشَّريعةَ وإِنْ كانت لا تتوفَّر على أحكامٍ خاصَّةٍ في كُلِّ مسألةٍ ـ لكونِ المَسائلِ غيرَ محدودةٍ والنُّصوصِ محدودةً ـ إلَّا أنَّها لا تفتقر ـ في كمالها ـ إلى عموماتٍ تجتمع تحتها الكثيرُ مِنَ المَسائل الفرعيَّة.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ الإعرابَ في كلام الأوزاعيِّ ليس هو الإعرابَ الاصطلاحيَّ عند النُّحاة؛ لأنَّ الكلمةَ منقولةٌ عن عمر بنِ الخطَّاب فيما كتَبَ به إلى أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنهما: «أمَّا بعد: فتَفَقَّهُوا في السُّنَّةِ وتَفَقَّهوا في العربية، وأَعْرِبُوا القرآنَ فإنه عربيٌّ»(٩)، وفي حديثٍ آخَرَ عن عُمَرَ رضي الله عنه أنه قال: «تَعَلَّموا العربيةَ فإنها مِن دينِكم، وتَعَلَّموا الفرائضَ فإنها مِنْ دِينِكم»(١٠)؛ ولم يكن الإعرابُ النحويُّ الاصطلاحيُّ موجودًا؛ وإنَّما المراد: أَنْ يُقرَأ بلحون العرب، وأَنْ يُفهَم على مقتضى لسان العرب الذين نزَلَ فيهم، وبه يظهر أنَّ كثيرًا ممَّنْ يتكلَّم في تفسير القرآن أو الإعجاز العلميِّ يدخل عليهم الخللُ مِنْ هذا الباب(١١).

   ثالثًا: الجواب على الاستدلال بأثرِ أنسٍ رضي الله عنه (ص: ٦، ٣٣) وأنَّ ما يُشبِهُ الصَّلاةَ بالتَّباعد كان معروفًا عند أهل العلم، وأنَّ العلماء الذين أَبطلوا صلاةَ المُنفرِد لم يعتبروا الفُرَجَ في الصَّفِّ مُبطِلًا للصَّلاة (ص: ١٦):

قال المعترض: «رابعًا: أنَّ ما يشبه الصلاةَ بالتباعد كان معروفًا عند أهل العلم، فعن أنس بنِ مالكٍ: «أنه قَدِم المدينةَ فقِيلَ له: ما أنكرتَ منَّا منذ يومِ عهدتَ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قال: «ما أنكرتُ شيئًا إلَّا أنَّكم لا تُقيمون الصفوفَ» أخرجه البخاري (٧٢٣) وقد تقدَّم».

الجواب:

استدلَّ المعترض في مَعرِضِ الاحتجاج لعدمِ بطلان الصَّلاة بالتباعدِ بأثرِ أنسٍ رضي الله عنه لمَّا قِيلَ لَهُ: «مَا أَنْكَرْتَ مِنَّا مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟» قَالَ: «مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلَّا أَنَّكُمْ لَا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ»(١٢)، وكأنَّ المعترض أراد أَنْ يُخصِّصَ حديثَ عليِّ بنِ شَيْبانَ رضي الله عنه بهذا الأثر، ويجعلَ الانفرادَ الذي تَبطُلُ به الصَّلاةُ إنَّما هو قاصرٌ على الانفراد خلف الصَّفِّ لا في أثنائه أو قبله، وأنَّ الصلاةَ بالتَّباعدِ كانت معروفةً عند السَّلف، فالجواب على هذا يكون مِنْ ناحيتين:

مِنَ النَّاحية التَّأصيليَّة: لا يخفى أنَّ مذهبَ الصحابيِّ إنَّما يكون حُجَّةً فيما إذا كان له حكمُ الرفع، أو كان إجماعًا، وقد يكون حُجَّةً إذا لم يُعارِض مذهبُه نصًّا مِنْ كتابٍ أو سُنَّةٍ، أمَّا إذا عارض أحَدَهما أو كِلَيْهما فلا حُجَّةَ فيه.

فيتقرَّرُ ـ إذن ـ أنَّ التَّخصيص بمذهب الصَّحابيِّ وقولِه غيرُ مستقيم إلَّا إذا ثبَتَ له حكمُ الرَّفع إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، أو كان ما ذهَبَ إليهِ مُنتشِرًا ولم يُعرَفْ له مخالفٌ في الصَّحابةِ رضي الله عنهم؛ لأنَّهُ إمَّا إجماعٌ أو حجَّةٌ مقطوعٌ بِها على الخلاف؛ قال الشوكانيُّ ـ رحمه الله ـ: «فالحقُّ عدمُ التَّخصِيصِ بمذهبِ الصَّحابيِّ وإِنْ كانُوا جماعةً، ما لم يُجمِعوا على ذلك، فيكون مِنَ التَّخصيصِ بالإجماع»(١٣).

مِنَ النَّاحية التَّطبيقيَّة: وبناءً على ما تقرَّر سابقًا فإنَّ قولَ أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه لمَّا قِيلَ لَهُ: «مَا أَنْكَرْتَ مِنَّا مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟» قَالَ: «مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلَّا أَنَّكُمْ لَا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ»(١٤)، لا يخلو مِنْ أمرينِ:

الأوَّل: أَنْ يكون مُرادُه مِنْ «عدمِ إقامة الصفوف» كونَها مقطوعةً في وسَطِها بالسَّواري مثلًا أو غيرَ مُتكامِلةِ الأطراف، فقَدْ ورَدَتْ أحاديثُ في هذا البابِ، وكان أنسُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه مِنْ رُوَاتها، فعن عبد الحميد بنِ محمودٍ قال: صلَّيْتُ مع أنسِ بنِ مالكٍ يومَ الجُمُعة، فدُفِعْنا إلى السَّواري فتَقَدَّمْنا وتأخَّرْنا، فقال أنسٌ: «كُنَّا نَتَّقِي هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»(١٥)، وفي روايةٍ: «فَاضْطَرَّنَا النَّاسُ فَصَلَّيْنَا بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ»(١٦)، وأمَّا عن الصُّفوف غيرِ المتَكامِلةِ فقَدْ قال أنسٌ رضي الله عنه: إِنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: «أَتِمُّوا الصَّفَّ الْأَوَّلَ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، فَإِنْ كَانَ نَقْصٌ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرُ»(١٧)، فهذه الصُّوَرُ خارجةٌ عن محلِّ النِّزاعِ؛ ذلك لأنَّ العلماءَ وإنْ كانوا اختلفوا في كراهة الصفوف بين السَّواري لغيرِ حاجةٍ إلَّا أنَّهم مُتَّفِقون على صحَّة الصَّلاة(١٨)، أمَّا عند الضِّيق والحاجة فتصحُّ الصلاةُ بلا كراهةٍ باتِّفاقٍ(١٩)، وتبقى الأولويَّةُ في الفضل والكمال للصفِّ المكتمل غيرِ المقطوع.

أمَّا إذا كانت الفُرْجةُ يسيرةً بيْن المُصلِّين غيرَ فاحشةٍ، فتكون الصفوفُ بذلك أَشبهَ بالتَّراصِّ المشروعِ منها بصلاة المُنفرِدِ خلف الصَّفِّ، فتصحُّ الصَّلاةُ مع الكراهة، إذِ المعروفُ مِنَ القواعد أنَّ «ما قاربَ الشيءَ أُعطِيَ حُكمَه»(٢٠)؛ فالفُرجةُ اليسيرةُ بين بعض المُصَلِّين هي أَقرَبُ صورةً إلى صفة التَّراصِّ الشرعيِّ، بينما المترُ والمتران بين كُلِّ مُصَلِّيَيْن بحيث يكون بين المُصلِّي وبين مَنْ عن جانبَيْه مسافةُ المتر فهو داخلٌ في عمومِ حديثِ صلاة المُنفرِد خَلْفَ الصَّفِّ، بخلافِ ما لو كان المتر متخلِّلًا للصلاة بين بعضِ المُصلِّين بحيث لا يكون أيٌّ مِنَ المُصلِّين وَحْدَه فهنا تكون مِنْ قطع الصلاة ولا تكون مِنْ صلاة المنفرد، فتكون الصلاةُ صحيحةً مع الإثم بسببِ قطع الصفِّ، هذا مِنْ جهةٍ؛ ومِنْ جهةٍ أخرى فإنَّ الشيخ فركوس ـ حفظه الله ـ أَوردَ هذا الاحتمالَ سعيًا للتوفيق بين الأدلَّة والجمعِ بينها إذ «الجمعُ أَوْلى مِنَ التَّرجيح»، أمَّا إذا ثبَتَ التَّعارضُ واستحالةُ الجمعِ فذلك هو الاحتمالُ الثَّاني.

الثَّاني: أَنْ تكون الفُرجةُ كبيرةً أو فاحشةً لا تتناسب مع التَّسوية المطلوبةِ شرعًا ولا تُدانِيها وإِنْ كان هذا الاحتمالُ بعيدًا، ذلكَ لأنَّ هذه الصِّفةَ مِنَ الصَّلاة لم تكن معروفةً ولا معهودةً ـ أصلًا ـ عند السَّلفِ ولا نقَلَها أحَدٌ مِنْ أهلِ العلمِ في كُتُبه، والأصلُ عدمِ الوقوع، خلافًا لِمَا يُقرِّره المعترضُ، إذ لو وقعَتْ لَنُقِلَتْ إلينا؛ قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة ـ رحمه الله ـ: «وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الِاصْطِفَافُ وَاجِبًا لَجَازَ أَنْ يَقِفَ وَاحِدٌ خَلْفَ وَاحِدٍ، وَهَلُمَّ جَرًّا؛ وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ عِلْمًا عَامًّا أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَجُوزُ لَفَعَلَهُ المُسْلِمُونَ وَلَوْ مَرَّةً؛ بَلْ وَكَذَلِكَ إذَا جَعَلُوا الصَّفَّ غَيْرَ مُنْتَظِمٍ، مِثْلَ: أَنْ يَتَقَدَّمَ هَذَا عَلَى هَذَا، وَيَتَأَخَّرَ هَذَا عَنْ هَذَا، لَكَانَ ذَلِكَ شَيْئًا قَدْ عُلِمَ نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، بَلْ إذَا صَلَّوْا قُدَّامَ الإِمَامِ كَانَ أَحْسَنَ مِنْ مِثْلِ هَذَا؛ فَإِذَا كَانَ الجُمْهُورُ لَا يُصَحِّحُونَ الصَّلَاةَ قُدَّامَ الإِمَامِ ـ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا لِغَيْرِ عُذْرٍ ـ فَكَيْفَ تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِ الِاصْطِفَافِ؟!»(٢١)؛ ثمَّ على فرضِ وجودِ هذه الفُرَج في الصَّفِّ فهذا لا يعني بالضَّرورة أَنْ تكون بينَ كُلِّ المُصلِّين على وجه الالتزام، ولكِنْ قد تتراصُّ جماعةٌ ثمَّ تأتي فُرجةٌ وهكذا، وهذه الصورة ـ أيضًا ـ خارجةٌ عن محلِّ النِّزاع، ولكِنْ لو فُرِض التَّسليمُ بهذا الاحتمال ـ مع بُعده ـ ففي هذه الحالةِ يتعيَّن التَّرجيحُ، ذلك لأنَّ قولَ أنسٍ رضي الله عنه لا هو بالمُستفيضِ المُنتشِرِ بين الصحابةِ رضي الله عنهم بحيث لم يُعرَف له مخالفٌ فيكون حُكمُه حُكْمَ الإجماعِ، ولا هو بالموقوفِ الذي له حكمُ الرَّفع فتكونَ له حجِّيَّةُ النَّصِّ، وغايةُ ما في الأمر أنَّ أنسًا رضي الله عنه استنكر عليهم عدمَ تسويةِ الصُّفوف على ما كان عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فرفَعَ إلى عهد النُّبوَّةِ صفةَ تسويةِ الصُّفوفِ، لا صحَّةَ صَلاةِ الجماعة مع التَّباعدِ وهو محلُّ النِّزاعِ، ففي هذه الحالةِ يكون قولُه رضي الله عنه قد قابل قولَ النَّبيِّ صلَّى لله عليه وسلَّم، فلا حجِّيَّةَ فيه ولا يقوى على معارضته، بناءً على ما سبقَ تقريرُه أصوليًّا في حجِّيَّةِ قول الصَّحابيِّ وحكمِ التَّخصيصِ بِه.

   رابعًا: الجواب على الاعتراض على كونِ «خلف الصَّفِّ» خرَجَ مخرجَ الغالبِ الأعمِّ (ص: ١٨ ـ ٢٠):

ومِنْ عجائبِ ما ذكَرَه المُعترِض ـ وما أَكثرَها في بيانه ـ هذا الاعتراضُ، حيث قال:

«أوَّلها: أنَّ هذا غلطٌ، واحتمالٌ بعيدٌ؛ فلَمْ يكن غالبُ أحوالِ الصَّحابةِ يُصَلُّون مُنفرِدين خلف الصَّفِّ، لا سيَّما بعدما أمَرَهم النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بتسويةِ الصُّفوفِ..».

الجواب:

استدلَّ المُعترض لهذا الفهمِ السَّقيم والتَّأويلِ الفاسد بما يَستكثِرُ به الصفحاتِ ـ واللهُ المستعانُ ـ؛ وليس يخفى على المبتدئ في علمِ أصول الفقه ـ بله المنتهي زعموا ـ أنَّ هذا التَّفسيرَ بعيدٌ جدًّا وغيرُ واردٍ، وبيانُ ذلك: أنَّ المرادَ مِنْ خروجِ وصفِ «خلف الصَّفِّ» مخرجَ الغالب الأعمِّ هو: أنَّ غالب المُنفرِدين في صلاة الجماعة إنَّما يكونون وراء الصفوف، لا أنَّ الصَّحابةَ رضي الله عنهم كانوا غالبًا ما يُصلُّون مُنفرِدين في صلاة الجماعة، ذلك لأنَّنا اعتبَرْنا الوصفَ الأوَّل مؤثِّرًا في الحكم وهو «الانفراد» وألغَيْنا الوصفَ الثَّانيَ للاعتبارات السَّالفة البيان، فالحكمُ ـ إذن ـ يُعلَّقُ بالوصف المُعتبَر المؤثِّر وجودًا وعدمًا، وأمَّا ما خرَجَ مخرَجَ الغالب الأعمِّ فلا مفهومَ له ولا يُقصَر الحكمُ عليه، كما أنَّ العلماءَ لم يذكروا في هذا الباب أنَّه يلزمُ صحَّةُ النَّقل لهذا الغالبِ الواقع، وإنَّما يكفي تصوُّره، ومثال ذلك: قولُه تعالى: ﴿وَرَبَٰئِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّٰتِي دَخَلۡتُم بِهِنَّ[النِّساء: ٢٣]، فكونُ الرَّبائبِ في الحجور إنَّما خرَجَ مَخرجَ الغالب ـ على قول الجمهور ـ فلا يعني أنَّه إذا لم يكنَّ في الحجور لا يَحرُمْن؛ قال صاحبُ «تهذيب الفروق»: «وهنَّ جمعُ ربيبةٍ: بنتُ زوجةِ الرَّجلِ مِنْ آخَرَ؛ سُمِّيَتْ به لأنَّهُ يُربِّيهَا غَالبًا كمَا يُربِّي ولدَه، ثمَّ اتُّسِعَ فيه فسُمِّيَتْ به وإِنْ لم يُرَبِّها، وإنَّما لَحِقَتْه الهاءُ مع أنَّه فَعِيلٌ بمعنى مفعولٌ لأنَّه صارَ اسْمًا؛ فكونُهنَّ في حُجورِ أزواجِ الأمَّهاتِ هو الغالبُ مِنْ حالهِنَّ؛ فوصفَهنَّ به لكونِه الغالبَ، فلا يدلُّ الكلامُ المفيدُ للحُكمِ المتعلِّق بالحقيقةِ المقيَّدةِ به على نفيِ الحكمِ عندَ عدَمِه كالكلامِ المفيدِ لتحريمِهنَّ عليهم على عدمِ تحريمِهنَّ عليهم عند عدم كونهنَّ في حجُورِهم عند الجمهور»(٢٢).

   خامسًا: الجواب على الاعتراض بفتوى الألبانيِّ ـ رحمه الله ـ:

قال المعترض: «وبه قال الشيخ الألبانيُّ؛ كما جاء في أشرطة: «سلسلة الهدى والنور» (١٣٧): «السؤال: يَلِّي صفَّ لوحده على نفس السرب يلِّي بدأ يتعبَّأ يعني: بدأ مِنْ طرف الصفِّ وترك مسافةً طويلةً بينه وبين الآخَرِين.

الشيخ: يعني: هل نقدر أَنْ نقول: إنه صلَّى لوحده؟ لأنه في فرق بين يكون وحده وبين يكون اثنين أو ثلاثة.

السائل: أحيانًا يكون لوحده، وأحيانًا يكون في غيره.

الشيخ: أنا رايح أجاوبك: إذا كان وحده فصلاته باطلة، وعليه إعادةُ الصلاة.

أمَّا إذا كان فيه اثنين أو ثلاثة هنا، والجماعة وراء الإمام كما قلت. يعني مِنْ هناك يبدأ الصفُّ؛ فهؤلاء صلاتُهم صحيحةٌ، ولكن آثمون مِنْ حيث ما وصلوا الصفَّ. واضحٌ الفرق؟!». فهذا نصٌّ صريحٌ مِنَ الشيخ الألبانيِّ في عدم بطلان الصلاة بالتباعد»

الجواب:

استشهاد المعترض بفتوى الألبانيِّ ـ رحمه الله ـ على صحَّةِ ما جنَحَ إليه، هو ـ في حقيقة الأمرِ ـ دليلٌ عليه لا له، وهذا مِنْ سوءِ فهمه للفتوى؛ وبيانُ ذلك: أنَّ الألبانيَّ ـ رحمه الله ـ فرَّق بين أمرين:

الأوَّلُ: أَنْ يصلِّيَ الرَّجلُ وَحْدَه في طَرَفِ الصَّفِّ وبينه وبين الصَّفِّ فُرجةٌ كبيرةٌ؛ فحَكَمَ على صلاته بالبطلانِ لأنَّه تحقَّقَ فيه وصفُ الانفرادِ.

الثَّاني: أَنْ يكون معه واحدٌ أو اثنانِ ولكنَّهم في الطَّرَف بعيدون عن بقيَّة الصَّفِّ، فحكَمَ عليهم بصحَّة الصَّلاة لانتفاء وصف الانفراد فيهم مع الإثم لأنَّهم لم يَصِلوا الصَّفَّ، حيث قال ـ رحمه الله ـ: «إذا كان وحده فصلاتُه باطلةٌ وعليه إعادةُ الصَّلاة، أمَّا إذا كان في اثنين أو ثلاثة والجماعةُ وراء الإمام ـ كما قلتَ يعني مِنْ هنا يبدأ الصَّفُّ ـ فهؤلاء صلاتُهم صحيحةٌ ولكنْ آثمون مِنْ حيث ما وصلوا الصَّفَّ»(٢٣)، وهذا هو قول الشيخ فركوس ـ حفظه الله ـ حيث إنَّه اعتبر وصفًا واحدًا وهو الانفراد، ولم يعتبر كونه «خلف الصَّفِّ» لأنَّ المُصلِّيَ إنَّما انفرد في أثناء الصَّفِّ لا خلفه.

قال ابنُ العثيمين ـ رحمه الله ـ لمَّا سأله رجلٌ عن حالةِ ما إذا وجد شخصين في طَرَفِ الصفِّ هل يصفُّ معهم أم يقفُ وسط الصَّفِّ أم يجذبهما لوسط الصفِّ؟ حيث أجاب ـ رحمه الله ـ: «المشروعُ أَنْ يبدأ الصَّفَّ مِنْ وراءِ الإمامِ؛ لأنَّه كلَّمَا كان الإنسانُ أَقرَبَ إلى الإمامِ كان أفضلَ، فإذَا وجَدْنَا شخصَينِ في أطرافِ الصُّفوفِ جذَبْناهما إلى وَسطِ الصَّفِّ ليَدْنُوَا مِنَ الإمامِ، ومِنَ المعلومِ أنَّك إذا وجَدْتَ اثنين في طرفِ الصَّفِّ ووجَدْتَ وسطَ الصَّفِّ خاليًا أنَّك لو وقفتَ وسَط الصَّفِّ صِرْتَ منفردًا لطُولِ المسافةِ بينكَ وبيْن الاثنين، لكِنِ اجْذِبهما إلى وسط الصَّفِّ وتَصفُّونَ جميعًا»(٢٤).

   سادسًا: الجواب على الاعتراض بأنَّ عدمَ اعتبارِ الوصف هو إهمالٌ وإهدارٌ لألفاظ الحديث:

وهذا جاء في موضعين: الأوَّل:

في قوله: «لا بُدَّ مِنَ النَّظر في الوصفين عند بناء الحكم، وإلَّا كان الوصفُ الثَّاني هذرًا بلا فائدةٍ، وهو منزَّهٌ عنه صلَّى الله عليه وسلَّم، وإذا لَزِم النَّظرُ في الوصف الثَّاني لزِمَ التَّقيُّدُ به» (ص: ١٢).

وأمَّا الثاني: ففي قوله:

«إنَّ التَّعليل بهذا الوصفِ الطرديِّ: يقتضي نَقْصَ جزءٍ مِنْ لفظ الحديث وإهمالَه، وهذا لا ينبغي على مَنْ ينتسب إلى العلم أَنْ يسلك مسلكَ مَنْ يردُّ الأحاديثَ ويؤوِّلها ويُهمِلُ ألفاظَها، بل ينبغي أَنْ يُعظِّمَ أحاديثَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ويقفَ عند ظواهرِها» (ص: ٢٣).

الجواب:

هذا سعيٌ مِنَ المعترض سافلٌ أتى به للتَّشنيع على الشيخ ـ حَفِظه الله ـ حينَ أَعملَ قواعدَ أصولِ الفقه في باب تنقيح المَناط، والذي لا يخلو كتابٌ مِنْ كُتُب الأصول مِنْ ذكرها(٢٥)، والجوابُ على الانتقاد مِنْ وجهينِ:

الوجه الأوَّل: أنَّنا نسلِّم للمعترض أنَّه لا بُدَّ على المجتهد مِنَ النَّظر في كُلِّ الأوصاف التي تعتري الحكمَ الشَّرعيَّ، وذلك ليهتديَ إلى اختيارِ أيِّها يكون أنسبَ لتعلِيل الحكم، ولكنَّ لزوم النَّظر فيه لا يعني بأيِّ وجهٍ مِنَ الوجوه لزومَ التَّقيُّدِ به، ذلك لأنَّه لو لَزِمَ التَّقيُّدُ بكُلِّ الأوصاف لكان النَّظرُ فيها لا فائدةَ مِنْ ورائه، وإنَّما نكتفي ـ ابتداءً ـ بأخذِ كُلِّ الأوصاف، علمًا أنَّ المُعترِض هو ـ في حدِّ ذاته ـ لم يتقيَّد بكُلِّ الأوصافِ بعد بحثه ونظره، فقيَّده بوصفين ليس إلَّا، وأَهملَ بقيَّةَ الأوصافِ الأخرَى.

الوجه الثاني: عدمُ اعتبارِ بعض الأوصاف الواردة في الأحاديث لا يُعَدُّ إهدارًا لكلام النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكنَّ ذلك الوصفَ ورَدَ لفائدةٍ وهي ـ في مسألتنا ـ القطعُ بالحكمِ في مَنْ كان مُنْفرِدًا خلف الصَّفِّ، إذ العمومُ قطعيٌّ في سببِ وروده ـ كما سبَقَ بيانُه ـ كما أنَّ عدمَ اعتبارِ هذا الوصفِ فيه فائدةٌ أخرى وهي توسعةٌ لمجرى الحكم وعدمُ قصرِه على تلك الصورة فقط هذا مِنْ جهةٍ، ومِنْ جهةٍ أخرى: لو كان إلغاءُ بعضِ الأوصاف في الأحاديث النَّبويَّةِ أو الحكمُ عليها بعدم التأثير في الحُكمِ فعلًا شنيعًا ـ كما صوَّره المعترضُ ـ وهذرًا تُنزَّه أقوالُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم منه، لكان هذا الفعلُ في كلام الله أَشنعَ؛ ولكِنْ لم يقل بهذا أحَدٌ مع وقوعه، إذ قد يخصُّ اللهُ تعالى بالذِّكرِ بعضَ الأوصافِ دون البعض الآخَرِ، وهذا لا يعني إثباتَ الحكم أو نفيَه عمَّا عداه قبل التَّحقيق والنَّظر؛ والأمثلةُ في ذلك كثيرةٌ جدًّا؛ قال الجصَّاص: «وجَدْنا اللهَ تعالى قد خَصَّ أشياءَ فذكَرَ بعضَ أوصافِها ثمَّ علَّقَ بها أحكامًا ثمَّ لمْ يكنْ تخصيصُهُ إيَّاها مُوجِبًا للحُكم فيما لم يُذكَرْ بخِلافِها نحو قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُمۡ خَشۡيَةَ إِمۡلَٰقٖ[الإسراء: ٣١]، فخصَّ النَّهيَ عنِ قتلِ الأولادِ لحالِ خشيةِ الإملاقِ، ولم يختَلفْ حكمُ النَّهيِ في الحالينِ، وقال تَعالى: ﴿مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡ[التوبة: ٣٦]، فخصَّ النَّهيَ عن الظُّلم بهذه الأشهُر، ومعلومٌ صحَّةُ النَّهي عنه فيهنَّ وفي غيرِهنَّ، ونحو قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْ[النساء: ٦]، وغير جائزٍ له أكلُها بحالٍ وإِنْ خصَّ حال الإسراف والمبادرةِ لبُلوغِهم، وكقوله تعالى: ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخۡشَىٰهَا ٤٥[النازعات: ٤٥]، وهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نذيرٌ للبشرِ، وقوله تعالى: ﴿لَا تَأۡكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضۡعَٰفٗا مُّضَٰعَفَةٗ[آل عمران: ١٣٠]، ولا يجوزُ أكلُه بحالٍ وإِنْ لم يكنْ أضعافًا مضاعفةً»(٢٦).

والعَجَبُ كُلُّ العَجَبِ أَنْ يتَّهِمَ المُعترِضُ الشَّيخَ ـ حفظه الله ـ بهذه التُّهمةِ الصَّلعاء، وهي ألصقُ بالمُتَّهِمِ منه بالمُتَّهَم والشَّيخُ براءٌ منها بشهادةِ القاصي والدَّاني؛ كيف ومِنْ أهمِّ أسبابِ الخِلاف بين الشَّيخ ـ حفظه الله ـ والمَنصوحين تمسُّكُ الشَّيخ بالدَّليل وتَعظيمُه له ـ نظريًّا وتطبيقيًّا ـ في حينِ كان القومُ يقلِّدون تقليدًا أعمَى ويتعصَّبون تعصُّبًا مَقيتًا؛ فبَعُدَتْ نَوَاهم وانشقَّت عَصاهم، كيف والشَّيخ يتمسَّك في تقريرِ حكمِ مسألةِ التَّباعد في الصَّلاة: بحديث وابصةَ وعليِّ بنِ شَيْبان رضي الله عنهما، ويُقدِّمهما على آراء الرِّجال المُفتقِرةِ إلى دليلٍ يسندها، والقومُ يصرِّحون مُتباهِين: ماذا نصنع بقولِ فلانٍ وفلانٍ مِنَ العلماء؟ كيف والشيخُ في مسألة الإنكار العلنيِّ يفصح بأنَّ: الواجب الجمعُ بين الأحاديث الواردة والآثار، حيث الجمعُ أَوْلى مِنَ التَّرجيح، وإعمالُ الأحاديث أَوْلى مِنْ إهدارها، في حينِ أنَّ القوم تمسَّكوا بحديث الإنكار السِّرِّيِّ ولم يلتفتوا إلى حديثِ معاوية رضي الله عنه، فأيُّ الفريقين أحقُّ بالتُّهمة إِنْ كنتم تعقلون؟! واللهُ المستعانُ وإليه المشتكى.

   سابعًا: جواب الشيخ ـ حفظه الله ـ عن المُعترِض على أنَّ النَّكرة في سياق النَّفي تفيد العمومَ بالإجماع.

وقد سأَلْنا الشَّيخ ـ حفظه الله ـ عن قول المُعترِض:

«إنَّه [أي: الشيخ] ذَكَرَ أنَّ النَّكرة في سياق النَّفي تفيد العمومَ بالإجماع ، ولم يَعْزُ الإجماعَ إلى قائلِهِ ولا إلى مصدره كما يقتضيه البحثُ العلميُّ»، ثمَّ قال: «وحكايةُ الخلاف تنقض الإجماعَ».

فأجاب ـ حفظه الله ـ بما يأتي:

ـ «أنَّ المَقصودَ بالإجماعِ في هذه المسألةِ إنَّما هو إجماعُ الصَّحابةِ رضي الله عنهم، وقد أردفتُهُ في كلامي بعد ذِكْرِ الإجماعِ بقولي: «وهي تفيدُ العمومَ بالإجماع، والمَعلومُ أنَّ الصَّحابةَ رضي الله عنهم كانوا يفهمون العمومَ مِنْ صِيَغِهِ وألفاظِهِ...»، ويُؤيِّدُ ذلك كلامُ الشَّنقيطيُّ ـ رحمه الله ـ أَنَّه بعد أَنْ ذَكَرَ صِيَغَ العمومِ الخمسِ ومنها: النَّكرةُ في سياقِ النَّفي تفيدُ العمومَ، قال: «وخلافُ مَنْ خالف في كُلِّها أو بعضِها كُلُّهُ ضعيفٌ لا يُعوَّلُ عليه، والدَّليلُ على إفادتها العمومَ: إجماعُ الصَّحابة على ذلك»(٢٧)، فمضمونُ كلامِه أنَّ الاختلافَ فيها غيرُ مُعتبَرٍ لِمُخالفتِهِ الإجماعَ القديم، وهذا لا يمنع مِنَ الاختلافِ بعدهم في التَّفاصيل أو في المَسائل الحادثة، كما نقل ابنُ قدامة ـ رحمه الله ـ هذا الإجماعَ وذكَرَ له جُملةً مِنَ الأمثلة عن الصَّحابة رضي الله عنهم أَنَّهم كانوا يفهمون العمومَ مِنْ صِيَغِهِ، فكان ذلك إجماعًا منهم(٢٨).

ـ أمَّا القولُ بأنَّ «حكاية الخلاف ينقض الإجماعَ» فهو غيرُ سائغٍ، فإنَّ هذه الجُملةَ إِنَّما يُؤتَى بها عندما يكون الخلافُ قائمًا في عصر المُجمِعين مِنْ غير الصَّحابة رضي الله عنهم، والمَعلومُ أَنَّ أقوالَ الصَّحابةِ وفَهْمَهم للُّغةِ العربيَّةِ وفَهْمَهم لصِيَغِهَا لم يُعرَف لهم في ذلك مخالفٌ مِنْ مُعاصِريهم مِنَ الصَّحابة رضي الله عنهم ومَنْ بلَغَ الاجتهادَ في زمنهم مِنَ التابعين، فصار إجماعًا وحُجَّةً عند جماهير الفقهاء(٢٩)، والواجبُ ـ والحالُ هذه ـ اتِّباعُ ما عليه الصَّحابةُ رضي الله عنهم مِنْ إجماعٍ واختلافٍ، فلذلك بَوَّبَ الخطيبُ البغداديُّ ـ رحمه الله ـ: «بابُ القولِ في أَنَّه يجب اتِّباعُ ما سَنَّهُ أئمَّةُ السَّلَفِ مِنَ الإجماعِ والخلافِ، وأنَّه لا يجوز الخروجُ عنه»(٣٠).

علمًا أنَّ إجماعَ الصَّحابةِ رضي الله عنهم كان سابقًا عن الاختلاف، وأهلُ الاختلاف هم محجوجون به، ولهذا لم يَعتدَّ الشَّنقيطيُّ ـ رحمه الله ـ بخلافِ مَنْ خالف واعتبرَه ضعيفًا لا يُعَوَّلُ عليه.

هذا، وعلى فرض انتفاءِ الإجماعِ فلا يخفى أنَّ القولَ الرَّاجحَ المُعوَّلَ عليه هو أنَّ النَّكرةَ في سياقِ النَّفي تعمُّ، وأنَّها مِنَ النصِّ الصَّريحِ ـ وهو مذهبُ جمهورِ الأصوليِّين والفقهاءِ وأهلِ التَّحقيق ـ وإذا عُلِمَ هذا الحُكمُ بالإجماعِ أو بالرَّاجحِ المُتَّفَقِ عليه بين المُتناظِرَيْن، فلا يَلْزَمُ ـ في ذلك ـ اتِّباعُ خطواتِ البحثِ العلميِّ الأكاديميِّ، سواءٌ كان المَقامُ مَقامَ ردٍّ على المخالفِ لإبطالِ شبهاتِه، أو مقامَ مُحاورةٍ ومُناظرةٍ بغيةَ الوصول إلى المقصود الشرعيِّ وهو الحقُّ بدليله، هذا مِنْ جهةٍ، ولا داعِيَ ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ لتضخيمِ المسألةِ وإعطائِها حجمًا فوق حجمها، لأنَّ هذا الصَّنيعَ ـ غالبًا ـ ما يفتحُ بابَ الهوى ويَبتعدُ عن التَّقوى، ويُنافي المقصودَ الشَّرعيَّ والطَّريقَ المُثلى» ا.هـ

   ثامنًا: جواب الشيخ ـ حفظه الله ـ عن قول المُعترِض بأنَّ الشَّيخَ لم يَسبِقْهُ إلى القول ببُطلان صلاة التَّباعد أحدٌ.

كما سألناه ـ حفظه الله ـ عن قول المُعترِض:

«إنَّ استدلاله بحديثِ وابصةَ وعليِّ بنِ شيبانَ على بطْلانِ الصَّلاة بِالتباعدِ لم يَسبق إليه أحَدٌ مِنْ أهلِ العلْم؛ حَتَّى ابنُ حزمٍ ـ الذي ذهب إلى بطلانِ الصلاة بتركِ تسوية الصفِّ ـ لم يستدلَّ بالحديث؛ بل استدلَّ بحديثِ: «لَتُسوُّنَّ صفُوفَكم أو لَيُخالفَنَّ اللهُ بين وجُوهكم». قال في «المحلَّى» (٢/ ٣٧٤): «هذا وعِيدٌ شدِيدٌ؛ والوعيدُ لا يكون إلَّا في كبيرةٍ مِنَ الكبائر».

بل نصَّ على أنه: إِنْ كان معذورًا صلَّى خلْف الصفِّ، وصلاتُه صحيحةٌ، فقال في «المحلَّى» (٣٧٢/ ٢):

«وَلا يُصَلِّ وَحْدَه خلفَ الصفِّ إلَّا أَنْ يكونَ ممنوعًا؛ فيصلِّي وَتُجزِئُه».

وقد قال الميمونيُّ: «قال لي أحمد بنُ حنبل: يا أبا الحَسَن، إيَّاك أَنْ تتكلَّم في مسألةٍ ليس لك فيها إمامٌ». رواه ابن الجوزيِّ في «مناقب الإمام أحمد» (٢٤٥).

قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية كما في «مجموع الفتاوى» (٢٩١): «وكُلُّ قولٍ يَنْفرِدُ به المتأخِّرُ عنِ المتقدِّمين، ولم يسبقه إليه أحَدٌ منهم؛ فإنه يكون خطأً كما قال الإمام أحمد: ...» وذكره.

وقال في «الإخنائيَّة» (٤٥٨): «فإِنْ كان قد يخطر له، ويتوجَّه له؛ فلا يقوله وينصره إلَّا إذا عَرَف أنه قد قاله بعضُ العلماء كما قال الإمامُ أحمد: ...» وذكَرَه.

وقال ـ أيضًا ـ في «مجموع الفتاوى» (٣٢١/ ١٠): «وحملُ كلامِ الإمام على ما يُصدِّق بعضُه بعضًا أَوْلى مِنْ حمله على التناقض؛ لا سيَّما إذا كان القولُ الآخَرُ مُبتدَعًا، لم يُعرَف عن أحَدٍ مِنَ السلف، وأحمدُ يقول: إيَّاك أَنْ تتكلَّم في مسألةٍ ليس لك فيها إمامٌ، وكان في المحنة يقول: كيف أقول ما لم يُقَلْ؟!».

وزعمه: أنَّ سلفه في ذلك ما ذكَرَه في فتوى تحت رقم: (١٢٨٠). في وجه إلحاق التَّباعدِ بحديث وابصةَ بنِ مَعْبَدٍ رضي الله عنه، قال: «وسَلَفِي في ذلك: كُلُّ مَنْ قال بعدمِ صحَّةِ صلاة الفذِّ خلفَ الصَّفِّ بأيِّ حالٍ مِنَ الأحوال، ومنهم: أحمدُ وإسحاقُ ووكيعٌ ويحيى بنُ مَعينٍ وابنُ المُنذِر والحسنُ بنُ صالحٍ والأوزاعيُّ ـ فيما حكاه ابنُ عبد البرِّ ـ وروايةٌ عن الثَّوريِّ وأكثرُ أهلِ الظَّاهرِ، ورُوِيَ عن النَّخَعيِّ وحمَّادٍ والحكمِ وابنِ أبي ليلى وغيرِهم».

فهذا غلطٌ؛ وبيانُه مِنْ وجهين:

أوَّلهما: أنَّ هذا لازمُ مذهبٍ؛ وَلازمُ مذهبٍ ليس بمذهبٍ؛ ولَا يكون مذهبًا للرَّجل؛ إذْ قد يقول قولًا، ويكونُ مِنْ لوازمِ قولِه معنًى لا يخطر بِباله ولَا يعتقده؛ بل قد يعتقد خلافَه.

قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية في «مجموع الفتاوى» (٤٦١/ ١٦): «ولَازِمُ المذهبِ لا يجب أَنْ يكونَ مذهبًا؛ بل أكثرُ الناس يقولُون أقوالًا ولَا يلتزمون لوازمَها؛ فلا يَلْزَم ـ إذا قال القائلُ ما يستلزم التعطِيلَ ـ أَنْ يكون مُعتقِدًا للتعْطيل؛ بل يكون مُعتقِدًا للإثبات، ولكِنْ لا يعرف ذلك اللزومَ».

وقال ابنُ القيِّم في «أعلام الموقِّعين» (٢٤٠/ ٥): «فلازِمُ المذهبِ ليس بمذهبٍ، وإِنْ كان لازِمُ النصِّ حقًّا؛ لأنَّ الشارع لا يَجوز عليه التناقضُ؛ فلازمُ قولِه حقٌّ؛ وأمَّا مَن عداه فلا يمتنع عليه أَنْ يقول الشيْءَ ويَخفى عليه لازمُه؛ ولو عَلِم: أنَّ هذا لازمُه لما قاله؛ فلَا يجوز أَنْ يقال: هذا مذهبُه ويُقَوَّلَ ما لم يَقُلْه»».

فأجاب ـ حفظه الله ـ بما يأتي:

«فهذا الاعتراض غيرُ مُنتهِضٍ مِنْ وجوه:

الأوَّل: أنَّ حادثةَ الصَّلاةِ بالتَّباعدِ نازلةٌ غيرُ معهودةٍ فلِلِاجتهادِ فيها مَسرَحٌ، إذ لم تَحدُث لا في عصرِ الصَّحابةِ رضي الله عنهم ولا مَنْ بعدهم ولا في زمنِ ابنِ حزمٍ ـ رحمه الله ـ حتَّى يُستدَلَّ بحديثِ وابصةَ رضي الله عنه، فإنَّه إذا كان يكفيه القولُ ببطلان الصَّلاة عند ترك تسوية الصُّفوفِ فمِنْ بابٍ أَوْلى عدمُ صحَّةِ صلاةِ التَّباعدِ ـ عنده ـ لانتفاءِ الصفوف بله تسويةِ الصُّفوفِ أصلًا، ويُضافُ إلى ابنِ حزمٍ ـ رحمه الله ـ لازِمُ قولِه هذا؛ لأنَّه حقٌّ ولازمُ الحقِّ حقٌّ، هذا إِنْ سلَّمْنا ـ تنزُّلًا ـ أنه لازمٌ، وإلَّا فهو داخلٌ في عمومِ كلامِه لدخوله في الإخلال بالتسوية المأمور بها، وهو أعظمُ إخلالًا بالتسوية مِنَ الذي تكلَّم عنه ابنُ حزمٍ ـ رحمه الله ـ؛ كما أنه مِنْ غير المعقول أَنْ يُؤتَى إلى واقعةٍ فيها إخلالٌ بالتسوية وليس فيها انفرادٌ فيستدلَّ عالمٌ كابنِ حزمٍ فيها بخصوصِ دليلِ صلاة المُنفرِد خلف الصفِّ ويعدلَ إليها عن عمومِ أدلَّة التسوية، بخلاف التباعد المُحدَث فهو حادثةٌ أخرى داخلةٌ في أخصَّ مِنَ الإخلال بالتسوية وهو الانفرادُ، وهو انفرادٌ خلف مُنفرِدٍ مثله، فهو شرٌّ مِنْ منطوقِ الحديث: مُنفردٍ خلفَ الصفِّ وأَوْلى بالبطلان منه.

الثاني: ليس لحادثةِ صلاةِ التَّباعدِ نظيرٌ لها ولا مثيلٌ عند السَّلفِ أو في المذاهبِ الفقهيةِ حتَّى يُنكِر المعترضُ عليَّ الفتوى بقوله: «لم يسبِقْ إليه أحَدٌ مِنْ أهلِ العلمِ»، أو لا يُحفَظُ هذا القولُ عند السَّلفِ أو ليس له سلفٌ، وضِمنَ هذا المعنى قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «وينبغي أَنْ يُعلَمَ أنَّ القولَ الَّذي لا سَلَفَ به الَّذي يجبُ إنكارُه: أنَّ المسألةَ وَقَعَتْ في زمنِ السَّلفِ فأفتَوْا فيها بقولٍ أو أكثرَ مِنْ قولٍ، فجاء بعضُ الخلفِ فأفتى فيها بقولٍ لم يَقُلْهُ فيها أحَدٌ منهم، فهذا هو مُنكَرٌ، فأمَّا إذا لم تكنِ الحادثةُ قد وقعت بينهم، وإنَّما وقعَتْ بعدَهم، فإذا أفتى المُتأخِّرون فيها بقولٍ لا يُحفَظُ عن السَّلفِ، لم يُقَل: إنَّه لا سَلَفَ لكم في المسألةِ، اللهم إلَّا أَنْ يُفتُوا في نظيرها سواءً بخلافِ ما أفتى به المُتأخِّرون، فيُقالُ ـ حينَئذٍ ـ إنَّه لا سلَفَ لكم بهذه الفَتوى»(٣١)، مع العلمِ أنِّي سُبِقتُ مِنْ أحَدِ العُلَماءِ المُعاصرينَ القائلِ ببطلانِها وهو الشيخ:عبد المحسن العبَّاد حفظه الله، هذا مِنْ ناحيةٍ.

كما أنه ـ مِنْ ناحيةٍ أخرى ـ إنَّما يُقال ذلك لمَنْ أجاز صلاةَ التَّباعد بأنَّه: لا سلَفَ له في الأقوال المُحدَثة كإحداث التباعد في الأوبئة ونحوِها الذي تقدَّم مُقتضِيه وداعِيه في الطواعين الماضية، ولم يَجرِ العملُ عليه لا عند الصَّحابةِ ولا مَنْ بعدهم إلى زماننا مع عدم المانع، حتَّى كانت هذه الكائنةُ الأخيرة، فهذا هو الَّذي يقال فيه: لا تَقُلْ بقولٍ ليس لك فيه إمامٌ، فقَولُكم هذا لا سلَفَ لكم فيه؛ فالدَّليلُ على المُعترضِ لا لَهُ.

وأمَّا الاستدلال للأقوال بأدلَّةٍ صحيحةٍ دالَّةٍ عليها لم يَستدِلَّ بها المتقدِّمون إِنْ سلَّمْنا أنه كذلك؛ فإنه لا زال العلماءُ يَستدِلُّون لأقوال أئمَّةِ مذاهبهم ولأقوالِ أشياخِهم بأدلَّةٍ لم يذكرها أشياخُهم ولا أئمَّةُ مذاهبِهم؛ ويكفي في ذلك أَنْ تجد في مسائل العقيدة وغيرها لابنِ تيميَّة وابنِ القيِّم وغيرهما ذِكرًا لأدلَّةٍ نقليَّةٍ وعقليَّةٍ لم يسبق إلى الاستدلال بها أحَدٌ، وإِنْ كانوا مسبوقين فلا تجدها عند الأوَّلين، لكنَّها مِنْ جنسِ ما استدلَّ به مَنْ سَبَقهم.

وإلَّا فمسألتُنا لا تخرج عن صلاة المنفرد، وقد رأَيْنا أنَّ أحمدَ وغيرَه استدلُّوا على بطلانِ صلاة المُنفرِدِ بأحَدِ هذين الحديثَيْن، ولم يعتبروا قَيْدَ: «خلف الصفِّ» مؤثِّرًا في الحكم، فحكَمَ أحمدُ ببطلان صلاة المنفرد بين الصفَّيْن وحكَمَ ابنُ تيميَّة ببطلان صلاة الجماعة يكون كُلُّ واحدٍ منفردًا خلفَ صاحبِه مع أنه مُنفرِدٌ خلف مُنفرِدٍ لا مُنفرِدٌ خلف صفٍّ، وحكَمَ الألبانيُّ ببطلانِ صورةٍ كصورةِ هذا التباعدِ بحيث يكون المصلي وَحْدَه بعيدًا عن غيره في الصَّفِّ، وفرَّق بينها وبين ما إذا كانا رجلين متقاربَيْن فيما بينهما مُتباعدَيْن عن باقي الصفِّ الذي هما فيه فحكَمَ للمنفرد بالبطلان وحكَمَ للرجلين بصحَّة الصلاة مع الإثم، وتقدَّم نحوُه عن ابنِ عثيمين ـ رحمه الله ـ.

الثالث: وأمَّا سَلَفِي في إبطالِ الصَّلاةِ بالتَّباعدِ فهُم مَنْ ذُكِروا في الفتوى المُشارِ إليها، وهُم كُلُّ مَنْ يُبطِل صلاةَ الفذِّ في الجماعةِ لأنَّ صلاةَ التَّباعدِ داخلةٌ في عمومِ صلاة المُنفرِد، وليس مِنْ بابِ لازمِ القول، وأخرجْتُ منها صورةَ صلاةِ الفذِّ خلفَ الصَّفِّ إذا عَجزَ أَنْ يجد مكانًا في الصَّفِّ أو عن يمينِ الإمامِ عملًا بقاعدةِ: «لَا تَكْلِيفَ مَعَ العَجْزِ».

الرابع: إِنْ سُلِّم ـ جدلًا ـ أنَّ هذا مِنْ لازم المذهب فقَدْ صَرَّحْتُ به وأشَرْتُ إليه والْتَزَمْتُه على وجه الأحقِّيَّةِ والصَّوابِ، وأفتَيْتُ به، فلا يُقالُ بعد هذا إنَّه «لا يُسلَّم به لأنَّه لازمُ المذهب، ولازم المذهب ليس بمذهبٍ» ثمَّ يناقضُ المُعترضُ نفسَه فيقول: «حتَّى يَلتزمه»، وهو محالٌ، لأنَّه تحصيلُ حاصلٍ» ا.هـ

   تاسعًا: الجواب على الاعتراض بقاعدة: «الخروج مِن الخلاف مُستحَبٌّ» و«مراعاة الخلاف»:

خَتَمَ المُعترِض رَدَّه بقوله:

«وتنبني هذه المسألة ـ أيضًا ـ على قاعدة: مراعاة الخلاف؛ أو الخروج مِنَ الخلاف أَوْلى وأحرى؛ فإذا اختلفَ أهلُ العلمِ في مسألةِ اجتهادِيَّة، يُستحَبُّ الخرُوجُ مِنَ الخِلافِ بإتيانِ ما هو الأَحوطُ والأفضلُ، ودرءِ ما قد يُفضِي إلى مَفاسِد.» (ص: ٤٢).

الجواب:

يمكن الجواب على هذا الاعتراض مِنْ وجهين:

ـ الوجه الأوَّل: أنَّ قاعدة «الخروج مِنَ الخلاف مستحبٌّ» ليست على إطلاقِها، وإنَّما يلزم لصحَّةِ إعمالها توفُّرُ شرطين:

1.  أَنْ لا يُؤدِّي هذا الخروجُ مِنَ الخلاف إلى ارتكابِ محذورٍ شرعيٍّ مِنْ تركِ سُنَّةٍ ثابتةٍ أو اقترافِ أمرٍ مكروهٍ بلهَ محرَّمٍ وغيرها مِنَ المخالفات الشَّرعيَّةِ.

2.  أَنْ يكونَ مدركُ الخلاف قويًّا بحيث يكون لكِلَا الطرفينِ المختصِمين دليلٌ مُعتبَرٌ ووجاهةٌ فيما ذهبوا إليه، أمَّا إِنْ كانَ الخلافُ ضعيفًا ونأى عن مأخذِ الشرع كان معدودًا مِنَ الهفواتِ والسقطاتِ، لا مِنَ الخلافيَّاتِ الاجتهاديَّة(٣٢).

وإذا كان مقصود المعترض مِنْ وراءِ هذه القاعدةِ تصحيحَ الصلاة بالتَّباعدِ للخروج مِنَ الخلاف، فهذا ظاهرٌ في الفسادِ والبُطلانِ ذلك لأنَّه تنتقضُ معه الشروطُ، إذ يُؤدي هذا إلى مخالفة نُصوصٍ شرعيَّةٍ كثيرةٍ في الباب، منها ما يتعلَّقُ بوجوبِ تسوية الصُّفوفِ وأخرى متعلِّقَّةٌ بالنَّهي عن الصَّلاة منفردًا، وكذلك فإنَّ الذينَ أجازوا الصَّلاةَ بالتباعدِ عمدَةُ قولهم الضرورةُ وقد بيَّنَ الشيخُ ـ حفظه الله ـ ضعفَ هذا المأخذِ وانتفاءَ شروطِ الضرورة فيه، وهذا بِغَضِّ الطَّرْف عن قائله؛ قال السبكيُّ ـ رحمه الله ـ في مَعرِضِ بيان ضعف الخلاف في المسألةِ وعدم الالتفات إلى الرِّجال: «وهناكَ تنبيهٌ على أنَّه لا نَظرَ إلى القائلينِ مِنَ المجتهدين بل إلى أقوالِهم ومَدارِكها قوةً وضعفًا، ونعنِي بالقوَّة ما يُوجب وقوفَ الذِّهنِ عندَها وتعلُّقَ ذِي الفطنَةِ بِسبِيلِها لانتهاضِ الحجَّة بِها؛ فإنَّ الحجَّةَ لو انتهضت بها لمَا كُنَّا مخالفِينَ لهَا؛ إذا عرفتَ هذَا فمَنْ قَوِيَ مدرَكُه اعتُدَّ بخِلافِه وإِنْ كانت مَرتَبتُه في الاجتهادِ دونَ مرتَبةِ مُخَالِفهِ، ومَنْ ضَعُفَ مَدركُه لم يُعتدَّ بخِلافِه وإِنْ كانت مرتَبتُه أرفعَ، وربَّما قَوِيَ مَدركُ بَعضهم في بعضِ المسائلِ دون بعضٍ؛ بل هذا لا يَخلُو عنه مجتهدٌ»(٣٣)، وبهذا ينتقض الشرطُ الثَّاني لضعفِ الخلاف، هذا مِنْ جهةٍ.

ومِنْ جهةٍ أخرى فإنَّ الخروج مِنَ الخلاف في المسائل الَّتي يدور الحكمُ فيها بين الجواز والحرمةِ مع بطلان العبادة، يكون بالأخذِ بأشدِّ الحُكمينِ والذي هو الحرمةُ وبطلانُ العبادة في مسألتنا، ألَا ترى أنَّ كِلَا الطرفين لا يختلفان في حكم الصَّلاة بالتَّراصِّ الشرعيِّ الثَّابتِ، ولكنَّهم يختلفون في حكم الصَّلاة بالتَّباعدِ، فأَبطلَها المانعون، فمِنْ مقتضى الخروج مِنَ الخلاف القولُ بالتَّراصِّ الذي تجتمع فيه الأقوالُ ولا تختلف؛ والمعلومُ تأصيلًا أنَّ: «حمل الناس على المتَّفَقِ عليه أَوْلى مِنْ حملهم على المُختلَف فيه».

فإعمالُ القاعدة ـ إذن ـ يصلحُ سَندًا لقول الشيخ ـ حفظه الله ـ إذ هذا هو الأحوطُ لدِينِ المرء والأبرَأُ لذِمَّته خاصَّةً إذا تعلَّق الأمرُ بركنٍ عظيمٍ مِنْ أركانِ دِينِه وعمودِه وهي الصَّلاة، فالسَّلامةُ في الدِّين لا يعدلُها شيءٌ ومَنْ كان لاعبًا فلا يلعبنَّ بدِينه.

ـ الوجه الثَّاني: وأمَّا عدُّ هذه المسألةِ مِنَ المسائل الاجتهاديَّة فهذا ـ أيضًا ـ مردودٌ، ذلك لأنَّ هناك فرقًا بينَ المسائل الخلافيَّةِ والمسائلِ الاجتهاديَّة، فأمَّا المسائل الخلافيَّة: فهي تلك المسائلُ التي ثَبَتَ فِيها نصٌّ إمَّا مِنَ الكتابِ والسُّنَة الَّتي تدلُّ على صِحَّةِ أحَدِ الأقوال وقوَّةِ مأخذه، وأمَّا المسائل الاجتهاديَّة: فهي تلك المسائلُ التي مأخذُها الاجتهادُ ولم يَثبُتْ فيها نصٌّ لا مِنَ الكتاب ولا مِنَ السُّنَّةِ؛ وثمرةُ التَّفريق بين المفهومين هو في ترتيب الإنكار على المخالف، بحيث يجب الإنكارُ في المسائل الخلافيَّة لأنَّ الخصمَ قد خالف الدَّليلَ مع عذرِ المجتهدِ، ولا يجب الإنكارُ في المسائِلِ الاجتهاديَّة لعدمِ وجود الدَّليل، فهو اجتهادٌ قابَلَ اجتهادًا آخَرَ، فليس أحَدُهما بأَوْلى مِنَ الآخَر، قال ابن تيميَّةَ ـ رحمه الله ـ: «وقولهم: مسائلُ الخلافِ لا إنكارَ فيها ليسَ بِصحيحٍ، فإنَّ الإنكارَ إمَّا أَنْ يتوجَّه إلى القول بالحكمِ أو العملِ، أمَّا الأَوَّلُ فإذَا كانَ القولُ يخالفُ سنَّةً أو إجماعًا قديمًا وجبَ إنكارُه وِفاقًا، وإِنْ لم يكنْ كذلكَ فإنَّهُ يُنكَرُ بِمعنَى بيانِ ضعفِه عندَ مَنْ يقولُ: المُصيبُ واحدٌ وهم عامَّةُ السَّلفِ والفقهاءِ، وأمَّا العَملُ فإذَا كانَ علَى خِلافِ سُنَّةٍ، أو إجماعٍ وجبَ إنكارُه ـ أيضًا ـ بحسَبِ درجاتِ الإنكارِ كمَا ذكَرْنَاه مِنْ حديثِ شاربِ النَّبِيذ المُختَلَفِ فيهِ، وكمَا يُنقَضُ حُكمُ الحَاكِمِ إذا خَالفَ سُنَّةً، وإِنْ كانَ قد اتَّبعَ بعضَ العُلمَاءِ.

وأمَّا إذَا لم يكنْ في المسأَلةِ سُنَّة ولا إجماعٌ، وللاجتهادُ فيهَا مَساغٌ، لم يُنكَر على مَنْ عمل بِها مجتهدًا، أو مُقلِّدًا، وإنَّما دَخَل هذا اللَّبسُ مِنْ جهةِ أنَّ القَائل يَعتقِدُ أنَّ مسائِلَ الخِلافِ هي مسائِل الاجتهادِ كما اعتقدَ ذلكَ طوائفُ مِنَ النَّاس»(٣٤).

ولعلَّ المعترضَ أراد ـ مِنْ خلالِ هذا الاعتراض ـ ردَّ الإنكارِ وعدمَ قبولِه كما فعَلَ قبل ذلك في صرفِ الدليل النَّصِّيِّ إلى القياسيِّ بُغيةَ التَّحجُّجِ لعدمِ قبولِ الإنكار بكون المسألةِ اجتهاديَّةً لا خلافيَّةً، وقد سبَقَ وأَنْ بيَّنَّا أنَّ في المسألةِ العديدَ مِنَ النُّصوص والأدِلَّةِ التِّي استظهر الشيخُ ـ حفظه الله ـ مِنْ خلالها بطلانَ الصَّلاة، ممَّا لا يترك أدنى شكٍّ أنَّ المسألةَ خلافيَّةٌ يجب الإنكارُ فيها.

   عاشرًا: الخاتمة، وفيها حوصلةٌ عن طابع الانقضاض.

قد كان المُتابعون للأحداث الجارية على السَّاحة الدَّعْوِيَةِ وما تعيشه مِنْ تدافعٍ وتجاذُبٍ يتناهى إلى أسماعهم ـ بسَببِ الهالة الإعلاميَّة على صفحات التَّواصلِ الاجتماعيِّ ـ عن اقترابِ صدور ردٍّ مِنَ المُعترِض على فتاوى الشَّيخِ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ فانتظره طلبةُ العلم على أملِ أَنْ يَظفَرُوا بنقدٍ عِلميٍّ بَنَّاءٍ ونَفَسٍ تأصيليٍّ يُجلِّي وجهةَ نظرِ المُعترِضين على اختياراتِ الشَّيخِ الفقهيَّةِ في المَسائلِ المُستحدَثةِ التي كَشَفَ عنها واقعٌ مؤلمٌ وظرفٌ زمنيٌّ عصيبٌ مَرَّ على الأُمَّةِ الإسلاميَّةِ، فلمَّا صدر «انقضاض الاعتراض» وقرَأَه طلبةُ العلم تمثَّلوا قول القائل:

وَأَسْتَكْبِرُ الأَخْبَارَ قَبْلَ لِقَائِهِ **** فَلَمَّا الْتَقَيْنَا صَغَّرَ الخَبَرَ الخُبْرُ

فإنَّ الورقاتِ التي سَوَّدها المُعترِضُ لا تَزِنُ في المِعيار العِلميِّ شيئًا، وكشفت عن تَهاوي إيراداتِ كاتبِهِ، وضعفِ حُججِهِ، وعلى «الانقضاض» المزعوم مَآخِذُ عديدةٌ، وعيوبُه الظَّاهرةُ يُمكِنُ إبرازُها ـ إجمالًا ـ فيما يأتي:

١ ـ حشوٌ عريضٌ وتَكرارٌ مُخِلٌّ بسياق الكلام، وإعادةٌ للمسائل المُرادِ البحثُ فيها، وعدمُ ترتيبِ المَعاني والأفكارِ ترتيبًا مَنطقيًّا؛ الأمرُ الذي يُؤدِّي ـ بطريقٍ أو بآخَرَ ـ إلى تبعثُر الذِّهنِ، ويَحمل القُرَّاءَ وطلبةَ العِلمِ على المَلَلِ والسآمةِ، ومِنَ المَعلوم أنَّ نَفْخَ الكُتُبِ بالإسهابِ والبُحوثِ بالتَّطويل ضربٌ مِنْ ضروب التَّشبُّعِ تَكلُّفًا والاستكثارِ تحذلقًا، ولونٌ مِنْ ألوان التَنَمُّر في العِلم حيدةً، والاستقواء في العُنفِ اللَّفظيِّ تمَلُّصًا.

٢ ـ الاضطرابُ الحاصلُ في دلالةِ العامِّ على أفراده: فتارةً يزعم أنها دلالةٌ قياسيَّةٌ، وبناءً عليه دوَّن طالبُه تقريراتِه ـ ابتداءً ـ في المَسألةِ وجاء عليها الرَّدُّ، ثمَّ ما لَبِثَ ـ تارةً أخرى ـ أَنْ نَفَى كونَها دلالةً قياسيَّةً؛ وعدَّها مغالطةً، وأنَّه لم يقل أحَدٌ بذلك، ثمَّ سُرعانَ ما جعل دخولَ أفرادِ العموم ثابتةً بالقياس، وهذا تناقضٌ فادحٌ وتلاعبٌ بعقول المُستخَفِّ بهم، طَمسًا للحقيقة بنقلِ الدَّليل مِنَ النَّصِّ اللَّفظيِّ النَّقليِّ الصَّريحِ في العمومِ إلى القياسيِّ العقليِّ، وسعيًا منه لئلَّا يُحاصَر بالنَّقد والإبطال.

٣ ـ كون الانقضاض مُشتمِلًا على حشوٍ لمِسائلَ جانبيَّةٍ مُطوَّلًا بالنُّقولاتِ التي مِنْ شأنها تشتيتُ ذِهنِ القارئ، فيَصْعُبُ عليه التَّنسيقُ بين فقرات الانقضاض، ولله درُّ الذَّهبيِّ ـ رحمه الله ـ إذ قال: «.. ثمَّ العِلمُ ليس هو بكثرةِ الرِّوايةِ، ولكنَّهُ نورٌ يَقذفُهُ اللهُ في القلب، وشرطُهُ الاتِّباعُ، والفِرارُ مِنَ الهوى والابتداعِ، وفَّقنا اللهُ وإيَّاكم لطاعته»(٣٥).

٤ ـ افتقارُ الانقضاض إلى منهجيَّةِ البحث والمُناظرةِ، وطريقةُ عَرضِهِ للمسائل عبارةٌ عن أفكارٍ مُبعثَرةٍ تَنِمُّ عن ضعفٍ شديدٍ في فهمِ المَسائلِ وتصوُّرِها؛ وفَقْرٌ مُدقِعٌ بأساليب التَّأليف والكتابة.

٥ـ مُعظَمُ ما سَوَّده المُعترِضُ مِنِ انتقاداتٍ على فتوى الشَّيخ ـ حفظه الله ـ حكايةٌ لإشكالاتٍ علميَّةٍ سابقةٍ وردَتْ على الطَّلبة المَشغوفين بالمُباحثةِ العلميَّةِ، والسَّالكين للطُرُقِ السَّليمةِ في الوصول إلى الصَّوابِ ومعرفةِ الحقِّ، وقد أجاب عنها الشَّيخُ تأصيلًا وتأسيسًا، وصاغَها في قالَبِها العِلميِّ «مُحِبُّ العِلم والعلماء» تلخيصًا وتمحيصًا، فما كان مِنْ صاحب الانقضاض إلَّا أَنْ أعاد صياغتَها مُبعثَرةً غيرَ مُرتَّبةٍ، مُبدَّدةً غيرَ مُنسَّقةٍ، تطويلًا وتهويلًا.

٦ ـ ما كتَبَه المُعترِضُ في «انقضاض الاعتراض» لم يُسعِفْهُ فيه الظَّرفُ الزَّمنيُّ والوعاءُ الوقتيُّ لطرحِ النِّقاشِ العِلميِّ، إذ إنَّ مسألةَ صلاةِ التَّباعُدِ قد تجلَّتْ واضحةً بأصلها وحُكمها لعمومِ طلبة العِلم، واستوعبَتْ حَقَّها بحثًا ومحاجَّةً، والفضلُ ـ بعد الله تعالى ـ راجعٌ إلى تجليةِ الشيخ أبي عبد المُعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ للمسألةِ عِلمًا وتعليمًا، فكان محتَّمًا على المُعترِضِ أَنْ يُدليَ بدَلوه في وقت حاجةِ المُكلَّفين إلى معرفة الحُكمِ الشَّرعيِّ في المَسألةِ المُتباحَث فيها، إذ الإحجامُ عن البيان وقتَ الحاجة إليه معدودٌ مِنْ تضييعِ الأمانةِ المُلقاةِ على كواهلِ المُنتسِبين إلى العِلم، والإهمالِ لحقِّ السَّائلين والباحثين عن أحكامِ الشَّرع في المَسائل المُستجِدَّة على واقعهم المعيش.

هذا، وإنَّ «الانقضاض على الاعتراض» لَيُفصِحُ جليًّا عن نوعيَّةِ المَعدنِ العِلميِّ لكاتبِهِ، ويُجلِّي حقيقةً غائبةً لطالَمَا ظهرت بصورةٍ مُزيَّفةٍ تعلُوها تحسيناتٌ حَجبَتْ المَظهرَ الحقيقيَّ والحجمَ العِلميَّ الخاليَ مِنَ التَّأصيلِ والتَّأطيرِ لكاتبها، وقد كان مِنْ قبلُ مَستورًا حين كانت سِهامُه موجَّهةً للمُفلِسين عِلميًّا صعافقةً كانوا أو مُتعالِمِينَ مُتشبِّعين بما لم يُعْطَوْا، فلمَّا غَرَّتْه نفسُهُ وخدَعَهُ أتباعُهُ مدحًا وإطراءً، جابَهَ شيخًا مُتضلِّعًا بالعِلم، مُستفرِغًا وقتَهُ في نشره، مُنكبًّا على تعليمِهِ، حريصًا على تنقيحِهِ، فمَا لَبِثَ أَنْ سقطَ عنه القِناعُ فأَسْفر عن هَزالةٍ في التَّأصيلِ، وضَحالةٍ في الطَّرحِ، وهشاشةٍ في البناءِ، تدعُو حكايةُ حالِهِ إلى الشَّفقةِ والعَطفِ، وتُلجِئُ عهدةُ التَّكليف وحقُّ الأُخوَّةِ الدِّينيَّةِ إلى نُصحِه بالمُسارعةِ إلى التَّوبةِ والإنابةِ، وتصحيحِ المَسار الدَّعْويِّ.

وبناءً على ما سبق بيانُه فإنَّ إدارة المَوقع تَرفع إلى المُنصِفين مِنْ طلبة العِلمِ والنَّاشدين للحقِّ المُؤْثرين له على بصيرةٍ ويقينٍ، أنَّه لا يُمكِنُ مواصلةُ السِّجال العِلميِّ والمُباحثةِ الفقهيَّةِ مع مَنْ يُقابل الحُجَّةَ بالشُّبهةِ، والنَّظرَ والاجتهادَ بالتَّقليدِ والتَّبعيَّةِ، والنَّصيحةَ بالعِنادِ والمُعارضَةِ، وتُعلِنُ ـ مضطرَّةً ـ إلى عدمِ التزامها بتتبُّع الجواب ـ مُستقبَلًا ـ عن إيرادات المُعترِضِ وجماعتِهِ، فلا تَزالُ غيرَ مَعنيَّةٍ بما يُسوِّدونَ، إلَّا إذا أوْرَدوا مَا له حظٌّ مِنَ النَّظر يستحقُّ الكشفَ والبيانَ مناقشةً وتباحثًا، أو جاؤوا بما يَشفعُ لهم قوَّةً في الدِّلالةِ، ورجاحةً في الحُجَّة، فإنَّ الإذعان إلى الحقِّ ـ عندها ـ واجبٌ لا مَناصَ منه، وعِزَّةٌ لا اعتياضَ عنها.

واللهُ مِنْ وراء القصد وهو يَهدي السَّبيل، والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٠١ ذي القعدة ١٤٤٣هـ
الموافق ﻟ: ٠١ جوان ٢٠٢٢م



(١) «القاموس المحيط» للفيروزآبادي (٦٥٢).

(٢) قال الشَّيخ ـ حفظه الله ـ في الفتوى رقم: (١٢٩٢): «وإِنْ كان بعضُ أهلِ العلم يُسمِّي هذا النَّوعَ مِنَ الاجتهاد بتحقيقِ المَناطِ ـ تجوُّزًا في اللَّفظ ـ على غيرِ معناه الاصطلاحيِّ، فإنَّما عُدَّ ذلك مُسامَحةً ليس إلَّا، ويُؤكِّدُ ذلك ما بيَّنه الشَّنقيطيُّ ـ رحمه الله ـ بقوله في نحوِ الذي نحن فيه: «والمَناطُ هنا ليس بمعناهُ الاصطلاحيِّ؛ لأنَّه ليس المُرادُ به العِلَّةَ، وإنَّما المُرادُ به: النَّصُّ العامُّ، وتطبيقُ النَّصِّ في أفراده هو هذا النَّوعُ مِنْ تحقيق المَناط؛ ولا يخفى أنَّ في عَدِّهِ مِنْ تحقيق المَناطِ مسامحةً، ولا مُشاحَّةَ في الاصطلاح» [«المذكِّرة» للشَّنقيطي (ص ٢٤٤)]».

(٣) انظر: «المحصول» للرَّازي (٥/ ٢٢٩)، «روضة النَّاظر» لابن قدامة (٢/ ١٤٨)، «الإحكام» للآمديِّ (٣/ ٣٠٣)، «المسودة» لآل تيميَّة (٣٨٧)، «الفروق» للقرافي (٢/ ١٣٢)، «شرح مختصر الروضة» للطُّوفي (٣/ ٢٣٧)، «شرح الكوكب المنير» لابن النَّجَّار الفتوحي (٢/ ٥)، «المذكِّرة» للشنقيطي (ص ٢٩٢) وغيرها.

(٤) «الروض المُربِع شرح زاد المستقنع» للبهوتي (١٣٦) [بتصرف].

(٥) انظر: «بدائع الفوائد» لابن القيِّم (٣/ ٨٧).

(٦) «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (٣/ ١٣٨),

(٧) «أضواء البيان» للشنقيطي (١/ ٨٨).

(٨) انظر: «شرح الكوكب المنير» لابن النَّجَّار الفتوحي (٢/ ٥).

(٩) أخرجه ابنُ أبي شيبة في «المصنَّف» (٢٩٩١٤).

(١٠) أخرج شَطْرَه الثانيَ الدارميُّ في «سننه» (٢٨٩٣)، والبيهقيُّ في «السنن الكبرى» (١٢١٧٧)، وجاء في «شُعَب الإيمان» للبيهقي (١٥٥٦) عنه رضي الله عنه: «تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ؛ فَإِنَّهَا تُثَبِّتُ الْعَقْلَ وَتَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ».

(١١) معنَى إعرابِ القرآن ـ في كلام العلماء ـ يدور على قراءته كما تقرؤه العربُ الفُصَحاءُ بدون لحنٍ، وعلى فهمِ معناه ومعرفةِ تفسيره على مقتضى اللسان العربيِّ، ولا مانِعَ مِن إرادة المَعنَيَيْنِ معًا، إلَّا أنَّ المعنى الثانيَ أَوْلى لقلَّةِ وقوعِ اللحن زمنَ الصحابة، ولأنَّ الفِقْهَ في القرآنِ هو المطلوبُ للعمل به الذي هو الغايةُ الأسمى مِن تلاوته.

(١٢) أخرجه البخاريُّ في «الأذان» (٧٤٢) بابُ إثمِ مَنْ لم يُتِمَّ الصفوف، مِنْ حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه.

(١٣) «إرشاد الفحول» للشوكاني (١/ ٣٩٧).

(١٥) أخرجه أبو داود في «الصَّلاة» (٦٧٣) بابُ الصُّفوفِ بيْنَ السَّوَارِي، مِنْ حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه، والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصَّحيحة» (١/ ٦٥٦).

(١٦) أخرجه الترمذيُّ في «الصَّلاة» (٢٢٩) بابُ ما جاءَ في كرَاهِيَةِ الصَّف بينَ السَّوَارِي، مِنْ حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه؛ والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «صحيح وضعيف سنن التِّرمذي» (١/ ٢٢٩).

(١٧) أخرجه النسائيُّ في «المساجد» (٢٢٩) بابُ الصَّفِّ الْمُؤَخَّر، واللَّفظ له، وأبو داود في «تفريع أبواب الصفوف» (٦٧١) بَابُ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ، مِنْ حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه؛ والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «صحيح وضعيف سنن النَّسائيِّ» (٢/ ٢٦٢).

(١٨) انظر: «شرح صحيح البخاري» لابن بطَّال (٢/ ١٣٤).

(١٩) انظر: «عارضة الأحوذي» لابن العربي (٢/ ٢٨).

(٢٠) انظر: «الأشباه والنظائر» للسبكي (١/ ٩٨)، «المنثور في القواعد الفقهية» للزركشي (٣/ ١٤٤)، «الأشباه والنظائر» للسيوطي (١٧٨).

(٢١) «الفتاوى الكبرى» لابن تيمية (٢/ ٣٢٥ ـ ٣٢٦).

(٢٢) «تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية» لمحمَّد بنِ علي بنِ حسين (٢/ ٥٤) [طُبِع مع كتاب «الفروق» للقرافي].

(٢٣) «سلسلة الهدى والنور» للألباني (الشَّريط رقم: ١٣٦).

(٢٤) «سلسلة فتاوى نور على الدرب» لابن العثيمين (الشَّريط رقم: ٣٥٢).

(٢٦) «الفصول في الأصول» للجصَّاص (١/ ٢٩٦)؛ وانظر: «الواضح في الأصول» للظفري (٣/ ٢٨١)، «الإحكام» للآمديِّ (٣/ ٨٦).

(٢٧) «المذكِّرة» للشنقيطي (٢٠٦/ ٢٠٧).

(٢٨) انظر: «روضة الناظر» لابن قدامة (٢/ ١٦ وما بعدها).

(٢٩) انظر: «إعلام الموقعين» لابن القيِّم (٤/ ١٢٠).

(٣٠) «الفقيه والمتفقِّه» للخطيب البغدادي (١/ ٤٣٥).

(٣١) «بدائع الفوائد» لابن القيِّم (٣/ ٢٦٧).

(٣٢) انظر: «الأشباه والنَّظائر» للسبكي (١/ ١١٢).

(٣٣) نفس المصدر ونفس الجرء والصَّفحة.

(٣٤) «مجموع الفتاوى» لابن تيميَّة (٦/ ٩٦).

(٣٥) «سِيَر أعلام النُّبَلاء» (١٣/ ٣٢٣).