المبحث الثالث في التفريق بين العبادات المفتقرة إلى نية وغيرها | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الخميس 9 شوال 1445 هـ الموافق لـ 18 أبريل 2024 م

المبحث الثالث في التفريق بين العبادات المفتقرة إلى نية وغيرها

اختلف العلماء في العبادات التي تفتقر إلى نيَّةٍ لأدائها من غيرها، ومنشأ الخلاف في دخولها في مسمَّى الأعمال من عدمه، واحتياجها إلى نيَّةٍ مميِّزةٍ أم لا.

يمكن لتحقيق هذه المسألة أن نتعرَّض للمطالب التالية:

المطلب الأول: الأقوال

ونعني بالأقوال في هذا المطلب عمومَ الذكر الداخل في العبادة: كقراءة القرآن والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وغيرها، وقد ذهب جماعةٌ من أهل العلم إلى أنَّ هذه الأقوال لا تحتاج إلى نيَّةٍ مطلقًا لعدم دخولها في حديث عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه مرفوعًا: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَاتِ»(١).

والمذهب الصحيح: هو اعتبارها داخلةً في مسمَّى الأعمال، وهي مشمولةٌ بحديث عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه المتقدِّم، ويدلُّ عليه ما أخبر الله تعالى عنه من حال المحتضَر من الكافرين عند الموت بقوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ [المؤمنون: ٩٩-١٠٠]، فقد فسَّر ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما العملَ في الآية بأنه قول: لا إله إلا الله(٢)، كما يدلُّ عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ إِلاَّ رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ»(٣)، فقد سمَّى النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قولَ: لا إله إلا الله عملاً، لأن الرجل لم يعمل شيئًا غيره، وهذا المعنى يفيده -أيضًا- حديث معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه مرفوعًا: «مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلاً قَطُّ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ(٤)»(٥).

وإذا ما اعتُبرت الأقوال داخلةً في مسمَّى الأعمال، فينبغي -درءًا للالتباس- أن يفرَّق بين حالتين من مقاصد المكلَّف: تتعلَّق الأولى بذات الفعل، والثانية بالإخلاص.

فإذا قصد المكلَّفُ ذاتَ الفعل -وهي الحالة الأولى- فإنه يُفرَّق بين ما إذا كانت الأعمال من الأقوال وغيرها متميِّزةً بنفسها لا لَبْسَ فيها، فإنها لا تحتاج إلى نيَّة الإضافة لله تعالى أو نيَّة التخصيص: كقراءة القرآن والتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد وغيرها، لأنها أعمالٌ في شكل أقوالٍ بطبيعتها منصرفةٌ إلى الله تعالى لا يستحقُّها سواه(٦).

ونظيرها خطبة الجمعة، فالأصحُّ أنه لا يُشترط فيها النيَّةُ لعدم التباسها بغيرها(٧).

أمَّا إن التبستْ بعض الأقوال ببعضها فإنَّ النيَّة ضروريةٌ للقول التعبُّديِّ تمييزًا لها عن غيرها، كمن نذر قراءة القرآن أو ذكرًا، فإنه تجب فيه النيَّة للتمييز بين المنذور وغيره، وكذلك الأذان فلا يحتاج إلى نيَّةٍ، وقد نقل العينيُّ(٨) الإجماع على ذلك(٩)، وقد يحتاج الأذان إلى نيَّةٍ للصلاة الفائتة سواء كانت مؤدَّاةً أو مقضيَّةً لشقِّها التوقيفيِّ دون الإعلاميِّ، تمييزًا عن الأذان للصلاة الحاضرة الذي يجتمع فيه الجانب التوقيفيُّ والإعلاميُّ، وكذلك يحتاج الأذان إلى نيَّةٍ مميِّزةٍ للصلاتين المجموعتين في وقتٍ واحدٍ واكتفاء المؤذِّن بأذانٍ واحدٍ.  

وجديرٌ بالتنبيه: أنَّ الألفاظ الصريحة في عموم باب المعاملات -في غير القربات- كالبيع والإجارة والهبة والمزارعة والسَّلَم والنكاح والطلاق وغيرها من الألفاظ الواردة في شيءٍ غيرِ متردِّدٍ، والدالَّة على مدلولها بالمطابقة، فإنها لا تحتاج إلى نيَّة تعيين المدلول لكونها تنصرف إليه مباشَرةً، وكذلك الألفاظ اللغوية التي يغلب عليها الاستعمال الشرعيُّ حتى أصبحت حقيقةً شرعيَّةً كلفظ الصلاة والزكاة والصوم والحج، فإنها تنصرف إلى حقيقتها الشرعية من غير حاجةٍ إلى نيَّةٍ، ولا تنتقل إلى المعاني اللغوية إلاَّ بنيَّةٍ معيِّنةٍ أو مدلولٍ يدلُّ عليها.

أمَّا الألفاظ الصريحة المتردِّدة بين شيئين -سواء تعيَّنتْ بالاستعمال الشرعيِّ أو العرفيِّ أو اللغويِّ-، فلا تنصرف عن مدلولها الذي وُضِعَتْ له وتعيَّنتْ فيه إلاَّ بنيَّةٍ أو قرينةٍ صارفةٍ، فإذا أُطلقتْ تعيَّنتْ في المعنى الذي وُضعتْ له ودلَّتْ عليه، فهي لا تحتاج إلى نيَّة تعيينٍ، وإنما تفتقر إلى نيَّة قصدٍ، فلو تلفَّظ بها من يجهل معانِيَها أو صدرتْ من غير مكلَّفٍ فإنه -على الصحيح- لا يُلزم بمدلولها(١٠).

أمَّا الحالة الثانية التي قصد بها الإخلاص؛ فإنَّ الأقوال لا تُقبل إلاَّ إذا كانت مبنيَّةً على إخلاص العبادة لله تعالى، وهو شرط القبول ولا يتمُّ إلا بنيَّةٍ وإرادةِ وجهِ الله عزَّ وجلَّ، وقد ذكر الله تعالى الإخلاص في عِدَّة مَوَاضِعَ من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البيّنة: ٥]، وقوله تعالى: ﴿فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ [الزمر: ٢-٣]، وقوله تعالى: ﴿قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي﴾ [الزمر: ١٤]، ومنه قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»(١١)، قال ابن تيميَّة -رحمه الله-: «وهذا الحديث يدخل فيه سائر الأعمال وهذه النيَّة تميِّز بين من يريد اللهَ والدارَ الآخرة بعمله، وبين من يريد الدنيا: مالاً وجاهًا ومدحًا وثناءً وتعظيمًا وغيرَ ذلك، والحديث دلَّ على هذه النيَّة بالقصد»(١٢).

فالحاصل أنَّ لفظ النيَّة قد يراد به ذاتُ الفعل لتمييز عملٍ من عملٍ وعبادةٍ من عبادةٍ، فإن كانت من القربات التي لا لَبْسَ فيها فإنها لا تحتاج إلى نيَّة التخصيص والتعيين، وإن كانت الألفاظ نصوصًا في شيءٍ غير متردِّدٍ لم تحتجْ -هي الأخرى- إلى نيَّة تعيين المدلول لانصرافها بصراحتها إلى مدلولها، أمَّا إنِ التبستْ بغيرها من القربات، أو تردَّدتْ الألفاظ بين شيئين أو أكثرَ فتحتاج -حالتئذٍ- إلى نيَّة التعيين والتخصيص.

أمَّا إن أريد بالنيَّة الإخلاص لتمييز معبودٍ عن معبودٍ ومعمولٍ له عن معمولٍ له فإنَّ الأعمال من الأقوال والأفعال لا تُقبل إلاَّ بها(١٣).



(١) تقدَّم تخريجه.

(٢) انظر: «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (١٢/ ١٥٠)، «فتح القدير» للشوكاني (٣/ ٥٩٣).

(٣) أخرجه البخاري في «بدء الخلق» باب صفةِ إبلِيس وَجنودِه (٣٢٩٣)، ومسلم في «الذكر والدعاء» (٢٦٩١)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(٤) يستفاد من الحديث أهمِّية الذكر وعظيمُ فضله، وأنه من أكبر أسباب النجاة من مخاوف عذاب الله يوم القيامة، وهو من المنجيات -أيضًا- من عذاب الدنيا ومخاوفها، ولذا وردت نصوصٌ في مواقف الجهاد والخطر يقرن الله تعالى فيها الأمرَ بالثبات لقتال أعدائه وجهادهم بالأمر بذكره، قال تعالى: ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: ٤٥] [انظر: «سبل السلام» للصنعاني (٤/ ٢١٣)].

(٥) أخرجه أحمد في «مسنده» (٣٦/ ٣٩٦)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (٥٦٤٤).

(٦) انظر: «الأمنيَّة في إدراك النيَّة» للقرافي (٢١).

(٧) انظر «الأشباه والنظائر» للسيوطي (١٢).

(٨) هو أبو الثناء وأبو محمَّدٍ بدرُ الدين محمودُ بن أحمد بن موسى القاهري المصري الحنفي المعروف بالعيني، وهو حلبيُّ الأصل، كان إمامًا في علومٍ شتَّى، وبرع في الفقه والحديث والعربية، وتولَّى قضاءَ الحنفية، وله تآليفُ حسانٌ منها: «عمدة القاري شرح صحيح البخاري»، و«شرح شواهد الرضيِّ»، وكتبٌ أخرى في الفقه والسيرة والتاريخ، له مآثرُ جمَّةٌ، تُوفِّي سنةَ (٨٥٥ﻫ).

انظر ترجمته في: «الجواهر المضيئة» للقرشي(٢/ ١٦٥)، و«الضوء اللامع» للسخاوي (١٠/ ١٣١)، و«حسن المحاضرة» للسيوطي (١/ ٤٧٣)، و«البدر الطالع» للشوكاني (٢/ ٢٩٤)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٧/ ٢٨٧)، «الفكر السامي» للحجوي (٢/ ١/ ١٨٥).

(٩) «شرح البخاري» للعيني (١/ ٣٥).

(١٠) انظر «الأمنيَّة في إدراك النيَّة» للقرافي (٢٢).

(١١) أخرجه البخاري في «العلم» باب من سأل، وهو قائمٌ، عالمًا جالسًا (١٢٣)، ومسلم في «الإمارة» (١٩٠٤)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

(١٢) «الأعمال بالنيَّات» لابن تيمية (٢١).

(١٣) ذكر ابن المنير -رحمه الله- ضابطًا لِما يُشترط فيه النيَّة من الأقوال، نقله السيوطيُّ -رحمه الله- في «منتهى الآمال» (١٢٥) بقوله: «وأمَّا الأقوال فتحتاج إلى النيَّة في ثلاثة مواطن: أحدها: التقرُّب إلى الله فرارًا من الرياء، والثاني: التمييز عن الألفاظ المحتمِلة لغير المقصود، والثالث: قصْد الإنشاء ليخرج سبْق اللسان».