الفتوى رقم: ٤

الصنف: فتاوى المعاملات المالية

في استيفاء حقِّ مَنْ ظَفِر بمالِ ظالمٍ

السؤال:

رجلٌ استأجر أُجَرَاءَ ليُنْجِزوا له عملًا ثمَّ لم يُوَفِّهِم حقَّهم، فهل يجوز لهم أخذُ حقِّهم بالقوَّةِ إِنِ استطاعوا أو يأخذونه خُفيةً إِنْ كانوا ضعفاءَ، ومِنْ إخواننا مَنْ خرَّج هذا الصنيعَ على حديثِ هندٍ رضي الله عنها عندما شكَتْ زوجَها أبا سفيان رضي الله عنه إلى رسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم ونَسَب ذلك إلى ابنِ حزمٍ ـ رحمه الله ـ وشكرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فهذه المسألةُ تُعْرَف بمسألةِ «الظفر»، وصورتُها: أنَّ مَنْ ظَفِر لظالمٍ بمالٍ: هل يجوز له أخذُه بدون علمٍ ولا إذنٍ مع إنصاف المظلوم منه؟

فللعلماء فيها أقوالٌ، والجمهورُ على كراهةِ مجازاةِ مَنْ أساء بالإساءة؛ لحديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ»(١)، والصارفُ عن التحريم دلالةُ الآياتِ على جوازِ مجازاةِ السيِّئة بمثلها: كقوله تعالى: ﴿وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثۡلُهَا[الشورى: ٤٠]، وقوله: ﴿وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦ[النحل: ١٢٦]، وغيرِها.

والرأيُ المُعتبَرُ في هذه المسألةِ القولُ بمشروعيةِ الأخذِ قَدْرَ حقِّه مِنْ مالٍ ظَفِرَ به عند ظالمٍ سواءٌ كان مِنْ جنسِ ما أُخِذَ منه أو مِنْ غيرِ جنسه، مع إنصافِ المظلومِ مِنَ الظالم، ويَستوفي حقَّه منه بعد بيعِه، فما زاد عن حقِّه ردَّه له أو لورثتِه، وإِنْ كان دون حقِّه بقي مطلوبًا في ذمَّةِ الظالمِ، ولا يخرج عن هذا الحكمِ إلَّا بالتحليلِ والإبراء، وهو مذهبُ ابنِ حزمٍ ـ رحمه الله ـ(٢).

والمعتمدُ في ذلك قولُه تعالى: ﴿وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعۡدَ ظُلۡمِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَا عَلَيۡهِم مِّن سَبِيلٍ ٤١[الشورى]، وقولُه عزَّ وجلَّ: ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلۡبَغۡيُ هُمۡ يَنتَصِرُونَ ٣٩[الشورى]، وقولُه تعالى: ﴿وَٱلۡحُرُمَٰتُ قِصَاصٞۚ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ[البقرة: ١٩٤]، أمَّا مِنَ الحديثِ فبقوله صلَّى الله عليه وسلَّم لهندٍ زوجةِ أبي سفيان رضي الله عنهما: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ»(٣) لِحقِّها في النفقةِ، ولِمَا رواهُ الشيخان: «إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ»(٤)، وغيرِها مِنَ الأدلَّة.

أمَّا مَنِ استدلَّ على عدمِ جوازِ أخذِ المال إلَّا بحكم الحاكم لقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ[النساء: ٢٩]، ولظاهرِ حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه المتقدِّم مرفوعًا: «وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» فجوابُه: أنَّ استردادَ المظالمِ واستيفاءَ الحقوق ليس أكلًا بالباطل، والحديثُ لا وجهَ للاحتجاجِ به في هذه المسألةِ لأنه لا يُعَدُّ انتصافُ المرءِ خيانةً، بل هو حقٌّ وواجبٌ، وإنما الخيانةُ أَنْ يخونَ بالظلمِ والباطلِ مَنْ لا حقَّ له عنده، كذا قرَّره ابنُ حزمٍ الظاهريُّ ـ رحمه الله ـ(٥)، وتَبِعه الصنعانيُّ ـ رحمه الله ـ فقال: «ويؤيِّدُ ما ذَهَب إليه حديثُ: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا»(٦)؛ فإنَّ الأمرَ ظاهرٌ في الإيجابِ، ونصرُ الظالمِ بإخراجِه عن الظلم، وذلك بأخذِ ما في يدِه لغيرِه ظلمًا»(٧)، وقد تقدَّم أنَّ الجمهور حملوا النهيَ في الحديث على التنزيه.

قلت: وهذا كُلُّه فيما إذا لم يترتَّبْ على استيفاءِ حقِّهم بهذا الطريقِ مفسدةٌ مساويةٌ للمصلحةِ المرادِ تحقيقُها أو أقوى منها، فإِنْ ترتَّب على فعلِهم مفسدةٌ فلا يجوز؛ عملًا بقاعدةِ: «دَرْءُ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ».

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١٩ رمضان ١٤١٧ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٨ جانفي ١٩٩٧م



(١) أخرجه الترمذيُّ في «البيوع» (١٢٦٤)، وأبو داود في «الإجارة» بابٌ في الرجل يأخذ حقَّه مَنْ تحت يده (٣٥٣٥)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (٤٢٣).

(٢) انظر: «المحلَّى» لابن حزم (٨/ ١٨٠).

(٣) أخرجه البخاريُّ في «النفقات» باب: إذا لم يُنفِقِ الرجلُ فللمرأة أَنْ تأخذ بغيرِ علمِه ما يكفيها وولدَها بالمعروف (٥٣٦٤)، ومسلمٌ في «الأقضية» (١٧١٤)، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.

(٤) أخرجه البخاريُّ في «المظالم» بابُ قصاصِ المظلوم إذا وَجَد مالَ ظالمه (٢٤٦١)، وفي «الأدب» باب إكرام الضيف وخدمتِه إيَّاهُ بنفسه (٦١٣٧)، ومسلمٌ في «اللُّقطة» (١٧٢٧)، مِنْ حديثِ عقبة بنِ عامرٍ رضي الله عنه.

(٥) انظر: «المحلَّى» لابن حزم (٨/ ١٨٢).

(٦) أخرجه البخاريُّ في «المظالم» باب: أَعِنْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا (٢٤٤٣) مِنْ حديثِ أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه، ومسلمٌ في «البرِّ والصِّلَة والآداب» (٢٥٨٤) مِنْ حديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما.

(٧) «سُبُل السلام» للصنعاني (٣/ ٦٩).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)