الفتوى رقم: ١٠٦٣

الصنف: فتاوى الصيام ـ المفطِّرات

في حكم السباحة للصائم في رمضان

السؤال:

ما حكمُ السباحةِ للصائمِ في رمضانَ؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فالسباحةُ ـ في حدِّ ذاتِها ـ ليسَتْ مِنْ مُفَطِّرَاتِ الصِّيام، فهي في حكمِ عمومِ الاغتسالِ للصائم، سواءٌ اغتسل داخِلَ الحمَّامِ أو في بِرْكةٍ أو حوضٍ ونحوِ ذلك، ولو كان غرضُه التبرُّدَ فقط؛ وقد أَطْلَقَ البخاريُّ ـ رحمه الله ـ في تبويبِه: «باب اغتسال الصائمِ» ليَشْمَلَ الأغسالَ المسنونةَ والواجبةَ والمُباحةَ(١)؛ ويدلُّ على الغُسْلِ المُباحِ الأصلُ المُبيحُ والآثارُ الموقوفةُ، منها: أثرُ أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه أنه قال: «إِنَّ لِي أَبْزَنَ إِذَا وَجَدْتُ الْحَرَّ تَقَحَّمْتُ فِيهِ وَأَنَا صَائِمٌ»(٢)؛ قال ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ: «الأَبْزَنُ ـ بفتح الهمزة وسكونِ الموحَّدة وفتحِ الزاي بعدها نونٌ ـ: حجرٌ منقورٌ شِبْهُ الحوضِ، وهي كلمةٌ فارسيَّةٌ؛ ولذلك لم يَصْرِفْه... وكأنَّ الأَبْزَنَ كان مَلْآنَ ماءً، فكان أنسٌ إذا وَجَدَ الحرَّ دَخَلَ فيه يتبرَّد بذلك»(٣).

وللسباحةِ هذا الحكمُ مِنَ الجوازِ إِنْ أَمِنَتْ مَحَالُّهَا مِنْ رؤيةِ المُنْكَراتِ التي تقترن بها ـ غالبًا ـ مِنْ مَظاهِرِ العُرْيِ وكشفِ العَوْرَاتِ والنظرِ إلى المحرَّماتِ، وإلَّا فإنها تُحَرَّمُ لهذه العوارضِ لا لِذَاتِها.

هذا، فإِنْ كان سبَّاحًا يسترزق مِنْ عملِه بالغوصِ ـ سواءٌ في إصلاحِ البواخرِ وتلحيمِها أو لغرضٍ آخَرَ ـ ووَافَقَ عملُه الغوصَ في شهرِ رمضانَ؛ فالواجبُ التحفُّظُ مِنْ تسرُّبِ الماءِ إلى جوفِه؛ فإِنْ سَبَقَ الماءُ إلى حَلْقِه عن طريقِ الفمِ أو الأنفِ مِنْ غيرِ تفريطٍ منه ولا قَصْدٍ فصيامُه صحيحٌ مِنْ غيرِ كراهةٍ.

أمَّا إِنْ كان غوصُه في الماءِ والسباحةُ فيه للترفيهِ عنِ النفسِ أو للتبرُّدِ أو للرياضةِ أو للعبثِ والإسراف، دون دوافعِ الحاجةِ مِنْ عملٍ أو استرزاقٍ أو إنقاذٍ ونحوِها؛ فإِنْ كان سبَّاحًا لا يخاف دخولَ الماءِ إلى حَلْقِه بحيث يَضْمَنُ الحفاظَ على صيامِه جازَ له ذلك كما تقدَّم في تقريرِ الأصلِ السابق.

أمَّا إِنْ كان سبَّاحًا يخافُ أَنْ يتعرَّضَ بالسباحةِ إلى إيصالِ الماءِ إلى حَلْقِه فلا تجوز في حقِّه السباحةُ؛ لقوله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ رضي الله عنه: «وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا»(٤).

وفي كِلْتَا الحالتين: عند الخوفِ مِنْ دخولِ الماءِ إلى حَلْقِه أو عند الأمنِ منه: إِنْ حَصَلَ وأَنْ سَبَقَ الماءُ إلى جوفِه مِنْ غيرِ اختيارٍ منه ولا قصدٍ فإنَّ صيامَه صحيحٌ مع الكراهة؛ خلافًا لِمَا عليه الجمهورُ مِنْ إبطالِ صومِه وإلزامِه بالقضاء.

وإنَّما صحَّ صيامُه لشَبَهِه بدخولِ غبارِ الطريقِ أو غربلةِ الدقيقِ إلى جوفِه، أو طيرانِ ذبابةٍ إلى حَلْقِه، وبهذا فارَقَ المتعمِّدَ(٥).

وتَقرَّر حكمُ الكراهةِ في حقِّه لأنَّ دوافعَ سباحتِه في رمضانَ ليسَتْ حاجيَّةً أو ضروريَّةً؛ فيُكْرَهُ له خوفًا مِنْ دخولِ الماءِ إلى حَلْقِه، وقد كَرِهَ الحسنُ والشعبيُّ أَنْ ينغمسَ في الماءِ خوفًا أَنْ يَدْخُلَ في مَسَامِعِه(٦)؛ ولئلَّا يَدَعَ نَفْسَه عُرْضَةً لاختلافِ العلماءِ في حكمِه، خاصَّةً فيما فيه عبثٌ وإسرافٌ مِنْ غيرِ حاجةٍ أو ضرورةٍ.

هذا، وعلى الصائمِ أَنْ يغتنمَ شَهْرَ رمضانَ فيُقْبِلَ فيه على العباداتِ والطاعاتِ والقُرُباتِ، وينتهِيَ عن جميعِ المُخالَفاتِ والمُنْكَراتِ والمنهيَّات، وأَنْ يَحْرِصَ على ما ينفعُه في مَعاشِه ومَعادِه، فيسعى ليستفيدَ مِنْ وقتِه فيما يُحِبُّه اللهُ ويرضاه، ويصونَ نَفْسَه عنِ اللهوِ واللعبِ والهَزْلِ والعَبَثِ وما يُخِلُّ بالمروءة، وغيرِها مِنَ الأفعالِ التي يَحْسُن تَرْكُها في رمضانَ وغيرِه لِمَا فيها مِنْ تضييعِ العُمُرِ في غيرِ ما خُلِقَ مِنْ أَجْلِه.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٠٧ شعبان ١٤٣١ﻫ
الموافـق ﻟ: ١٩ يولـيو ٢٠١٠م

 



(١) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٥٣).

(٢) علَّقه البخاريُّ في «الصوم» بابُ اغتسالِ الصائم (٤/ ١٥٣)، قال ابنُ حجرٍ في «فتح الباري» (٤/ ١٥٤): «وَصَلَه قاسم بنُ ثابتٍ في «غريب الحديث» له».

(٣) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٥٤).

(٤) أخرجه أبو داود في «الطهارة» بابٌ في الاستنثار (١٤٢) وفي «الصوم» باب الصائمِ يصبُّ عليه الماءَ مِنَ العطش ويُبالِغُ في الاستنشاق (٢٣٦٦)، والترمذيُّ في «الصوم» بابُ ما جاء في كراهِيَةِ مُبالَغةِ الاستنشاق للصائم (٧٨٨)، والنسائيُّ في «الطهارة» باب المبالَغة في الاستنشاق (٨٧)، وابنُ ماجه في «الطهارة» باب المبالَغة في الاستنشاق والاستنثار (٤٠٧)، مِنْ حديثِ لقيط بنِ صَبِرةَ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «الإرواء» (٤/ ٨٥) رقم: (٩٣٥).

(٥) انظر: «المغني» لابن قدامة (٣/ ١٠٨ ـ ١٠٩)، «المجموع» للنووي (٦/ ٣٢٦).

(٦) انظر: «المغني» لابن قدامة (٣/ ١٠٩).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)