عِلْمُ الأصُولِ(١)

مَعْرِفَةُ(٢) القَوَاعِدِ(٣) الَّتِي يُعْرَفُ(٤) بِهَا كَيْفَ تُسْتَفَادُ أَحْكَامُ الأَفْعَالِ(٥) مِنْ أَدِلَّةِ(٦) الأَحْكَامِ(٧)؛ فَلْنَحْصُرِ(٨) الكَلَامَ فِي أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ:


(١) بَدَأَ المُصنِّفُ بتعريف عِلْمِ أصول الفقه باعتبارِه علمًا ولَقَبًا، أي: تَناوَلَهُ ابتداءً كعِلْمٍ مُسْتقِلٍّ، له حقيقةٌ عُرْفيةٌ مع تجريد النظر عن أجزائه المُركَّب منها، بخلافِ ما لو نُظِرَ إليها؛ فيكون حِينَها تعريفُه باعتبارِه مُركَّبًا إضافيًّا، وأنه مُؤلَّفٌ مِنْ ثلاث كلماتٍ، وهي: «علمٌ»، و«أصولٌ»، و«فقهٌ»؛ لِيُفْهَمَ مَعْنَى كُلِّ كلمةٍ منه على حِدَةٍ بقصد فهمِ المعنى العامِّ لعلمِ الأصول وإدراكِ محتواهُ وحدودِه.

(٢) لعلَّ عدول المُصنِّف مِنْ لفظِ: «علم» إلى «معرفة» يُفسَّرُ باختياره للتفريق بينهما مِنْ ناحيةِ أنَّ معنى «العلم» محصورٌ بالتصديق على وجهِ القطع، أمَّا «المعرفة» فسبيلُها الظنُّ، فضلًا عن شمولها لليقين، وهو مذهبُ بعض الأصوليِّين؛ لِيَخْرُجَ مِنَ الحدِّ: عِلْمُ الله تعالى؛ لأنَّ عِلْمَه تعالى لا يُوصَفُ بأنه مأخوذٌ مِنَ الأدلَّة لكونه أزليًّا غيرَ مُكْتَسَبٍ، ولأنَّ عِلْمَه تعالى قطعيٌّ، وَسِعَ كُلَّ شيءٍ، وأحاطَ بكُلِّ شيءٍ عِلْمًا، وأحصى كُلَّ شيءٍ عدَدًا، بخلافِ عِلْمِ المُحْدَثِين فإنه مُكْتَسَبٌ مِنَ الأدلَّة؛ لذلك لا يُوصَفُ اللهُ تعالى بكونه عارفًا، ولا يُضافُ إلى الله تعالى إلَّا العلمُ لا المعرفة؛ لأنَّ المعرفة تَسْتدعي سَبْقَ جهلٍ بالمعروف.

وفيه مَنْ لا يُفرِّقُ بينهما؛ إذ قد يُرادُ بلفظِ المعرفة: العلمُ الذي يكون معلومُه مُعيَّنًا خاصًّا، وبالعلمِ الذي هو قسيمُ المعرفة: ما يكون المعلومُ به كُلِّيًّا عامًّا، وقد يُرادُ بلفظِ المعرفة: ما يكون معلومُه الشيءَ بعَيْنِه، وإِنْ كان لفظُ العلمِ يَتناوَلُ النوعين في الأصل.

انظر تفصيل ذلك في: «الفروق» للعسكري (٦٢)، «درء التعارض» لابن تيمية (٣/ ١٣٧)، «بدائع الفوائد» (٢/ ٦٢)، «مَدارِج السالكين» (٣/ ٣٣٤)، «روضة المُحِبِّين» (٤٠٢) كُلُّها لابن القيِّم، «مختصر ابنِ اللحَّام» (٣٦).

(٣) جمعُ قاعدةٍ، وهي: «كُلُّ قضيَّةٍ كُلِّيَّةٍ تدخل تحتها جزئيَّاتٌ كثيرةٌ»، والأَوْلى تقييدُ القاعدةِ بلفظةِ: «عامَّة» أو «كُلِّيَّة»؛ ذلك لأنَّ القاعدة الأصولية تنبني عليها الفروعُ التشريعية، فلا تَثْبُتُ إلَّا مِنْ دليلٍ، وهي دلائلُ الفقهِ الإجماليةُ، وهي راجعةٌ إلى: استقراءِ نصوصِ الكتاب والسنَّة الصحيحة، وإجماعِ السَّلَفِ الصالح والآثارِ المَرْوِيَّة عنهم، وإلى اللغة العربية وعلومِها، وإلى الفطرة السَّوِيَّة والعقل السليم؛ فلا يدخل في عِلْمِ الأصول الدليلُ التفصيليُّ للأحكام الجزئية في عِلْمِ الفقه والخلاف.

وعليه؛ فإنَّ موضوعَ عِلْمِ أصولِ الفقه هو: «الأدلَّةُ الشرعية ومَراتِبُها وأحوالُهَا».

(٤) استعمل المُصنِّفُ لَفْظَ: «يُعْرَفُ» في الحدِّ، وهو تَكرارٌ لِلَفْظِ «المعرفة»، ويُسْتَحْسَنُ ـ عند العُلَماء ـ صَوْنُ الحدودِ عن التَّكرار. ويمكن أَنْ يُقال: «.. التي يُتوصَّلُ بها إلى استفادةِ أحكام الأفعال مِنْ أدلَّة الأحكام».

(٥) والمُرادُ به: الأحكامُ التي تقتضي عملًا أو فعلًا مِنْ أفعال المكلَّفين، وهي: عَمَلُ القلب: كوجوب النيَّة، وعَمَلُ اللسان: كالقراءة والذِّكْر، وعَمَلُ الجوارح: كالعبادات البدنية والجهاد.

ويَلْزَمُ مِنْ هذا القيدِ: خروجُ الأحكام الاعتقادية: كالعلم بوحدانية الله، وأنه يُرى في الآخرة، وأنَّ البعث حقٌّ، والرسولَ حقٌّ، والاحترازُ مِنَ الأخلاقية: كالصدق والسخاء والوفاء، والأحكامِ النظرية: كالعلم بأنَّ القياس حُجَّةٌ؛ فهذه الأحكام لا تتعلَّق بكيفية عَمَلٍ.

هذا، والعُلَماءُ يُقيِّدون الأحكامَ بصفةِ: «الشرعية» لتَخْرُجَ منها: الأحكامُ العقلية، مثل: «الكُلُّ أَعْظَمُ مِنَ الجزء»، و«الواحدُ نصفُ الاثنين»، والأحكامُ اللغوية مثل: «الفاعلُ مرفوعٌ»، و«المفعولُ منصوبٌ»، والأحكامُ الحِسِّية: ﻛ «النارُ مُحْرِقةٌ» و«الماءُ باردٌ»، والأحكامُ العاديَّة: كسقوطِ المطر بعد الرعد.

(٦) الجارُّ والمجرورُ متعلِّقان بالفعل «تُستفادُ»، وكيفيةُ استفادةِ الأحكامِ ناشئةٌ عن معرفة القواعد المُكْتَسَبةِ منها، ويخرج مِنْ ذلك المعرفةُ أو العلمُ الذي لا يتوقَّف على دليلٍ: كعلم الله وعلمِ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم وعلمِ جبريل؛ فهي غيرُ مُكْتَسَبةٍ ولا ناشئةٍ مِنَ الأدلَّة، كذلك العلمُ الحاصل للمُقلِّد؛ فهو يعلم أنها حكمُ الله مِنْ غير معرفتها مِنْ دليلٍ.

(٧) والمقصودُ بأدلَّةِ الأحكامِ هو: الأدلَّةُ التفصيلية الجزئية على حادثةٍ معيَّنةٍ في مُقابِل الأدلَّة الإجمالية الكُلِّيَّة كقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ[البقرة: ٤٣؛ وغيرها]: هو دليلٌ جزئيٌّ على حادثةٍ مُعيَّنةٍ، وهي الصلاة، وحكمُها الوجوبُ استنادًا إلى قاعدةِ: «الأَمْرُ يُفِيدُ الوُجُوبَ»، وهي دليلٌ إجماليٌّ كُلِّيٌّ. وقولِه تعالى: ﴿وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلزِّنَىٰٓۖ[الإسراء: ٣٢]: دليلٌ تفصيليٌّ على حادثةِ قربانِ الزِّنا، وحكمُها التحريمُ اعتمادًا على قاعدةِ: «النَّهْيُ يُفِيدُ التَّحْرِيمَ»، وهي دليلٌ إجماليٌّ كُلِّيٌّ.

(٨) «أ»: «فانْحَصَرَ».

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)