ذكرتم ـ شيخَنا حَفِظكم الله ورعاكم ـ في كتابكم «الفتح المأمول» في بيانِ أساليب الكراهة ما نصُّه: «وللكراهة أسلوبٌ آخَرُ مُسْتَعمَلٌ مُتمثِّلٌ في اللَّفظ الصَّريح بالكراهة، مثل قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ كَرِهَ...  للمزيد

الفتوى رقم: ١٢٦٩

الصنف: فتاوى أصول الفقه

في توضيح ما أشكل مِن معنى لفظ الكراهة

السؤال:

ذكرتم ـ شيخَنا حَفِظكم الله ورعاكم ـ في كتابكم «الفتح المأمول» في بيانِ أساليب الكراهة ما نصُّه: «وللكراهة أسلوبٌ آخَرُ مُسْتَعمَلٌ مُتمثِّلٌ في اللَّفظ الصَّريح بالكراهة، مثل قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ»(١)، وقد تَقدَّمَ التنبيهُ على إطلاق لفظِ: «المكروه» على «الحرام»، وخاصَّةً في كلام السلف».

والمثال نفسُه ورَدَ في الكلمة الشهرية رقم: (٤٢): «في ردِّ شبهةِ دار الإفتاء المصريَّة في حصر النهي عن اتِّخاذ القبر مسجدًا في الصلاة عليه أو إليه» لكِنْ تحت «الكراهة التَّحريميَّة» وهو ما نقلتموه عن ابنِ القيِّم ـ رحمه الله ـ بما نصُّه: «وفي الصحيح: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ كَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ».

فالسلفُ كانوا يَسْتَعْمِلون «الكراهةَ» في مَعْناها الذي اسْتُعْمِلَتْ فيه في كلام الله ورسوله، أمَّا المتأخِّرون فقَدِ اصطلحوا على تخصيصِ «الكراهة» بما ليس بمُحَرَّمٍ وتَرْكُه أَرْجَحُ مِنْ فِعْلِه، ثمَّ حَمَلَ مَنْ حَمَلَ منهم كلامَ الأئمَّةِ على الاصطلاح الحادث».

فما هو الرَّاجح عندكم في هذا الحديث؟ وهل يُعتبَر التَّصريحُ بلفظ «الكراهة» في نصوص الكتاب والسُّنَّة وليس في نصوص الأئمَّة أصلًا في الكراهة التحريميَّة أم في الكراهة التَّنزيهيَّة؟ وبارك الله فيكم.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فقَدْ يُطلَق المكروهُ على الحرام باعتباره بَغيضًا إلى النُّفوسِ العارفة، ومنه قولُه تعالى: ﴿كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُۥ عِندَ رَبِّكَ مَكۡرُوهٗا٣٨[الإسراء]، وقد استَعمَلَ السَّلفُ الكراهةَ في هذا المعنى للتَّحريمِ وهو معناها الشَّرعي في كلام اللهِ وكلامِ رسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، غيرَ أنَّ المتأخِّرين اصطلحوا على تخصيصِ الكراهةِ بما ليس بمحرَّمٍ، وحملوا كلامَ أئمَّتِهم المتقدِّمين على هذا المعنى الاصطِلاحيِّ الحادثِ بعدهم(٢) بأنَّ المكروهَ هو مَا نَهَى عنه الشَّارعُ نَهيًا غيرَ جازمٍ، أو هو ما تَرْكُهُ خيرٌ مِن فِعلِهِ، وأصبحتِ الكراهةُ تُطلَقُ في كلام متأخِّري الأئمَّةِ والعلماءِ على كراهةِ التَّحريمِ وكراهةِ التَّنزيه(٣).

عِلمًا أنَّ الصِّيَغَ الدالَّةَ على الكراهة تأتي في النصوص على أقسامٍ فمنها:

ـ ما دلالتُه على الكراهة التَّنزيهيَّة مثل قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَمَّا أَنَا فَلاَ آكُلُ مُتَّكِئًا»(٤)، وقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعائشةَ رضي الله عنها في شأنِ كِسوة الجدار: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الحِجَارَةَ وَالطِّينَ»(٥)، أي: لم يأمرنا ولم يَنْهَنَا، فهو مَحمولٌ على الكراهة.

ـ ما دلالتُه على القَدْرِ المُشترَك بين التَّحريم والكراهَةِ، وهو طلبُ التَّرك، وقد يُستعمَل في التَّحريم أكثَرَ ممَّا يُستعمَل في التَّنزيه؛ فيُحمَل على الغَالبِ ما لم تَرِدْ قرينةٌ، فمِنْ هذا القَبيلِ قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ»(٦)، فالحديث تضمَّنَ الحرمَةَ في مُقابِلِ الكراهةِ، وهذا يدُلُّ على أنَّ الكراهةَ في هذه الثَّلاثةِ الأخيرةِ للتَّنزيه لا للتَّحريمِ كما صرَّح بذلك النَّوويُّ(٧)؛ لأنَّ الأصلَ في الألفاظِ أَنْ تكونَ مُتبايِنةً لا مُترادِفَةً(٨).

 «قِيلَ وَقَالَ» ـ وهو الخوض في أخبار النَّاس وحكايةُ ما لا يعني مِنْ أحوالهم وتصرُّفاتِهم ـ محمولٌ على الكراهة التَّنزيهيَّةِ، فإِنْ تَضمَّن غِيبةً أو نميمةً أو تعرُّضًا لأعراض النَّاس أو وقيعةً فيهم ونحو ذلك صار مُحرَّمًا.

وكذلك «كَثْرَةُ السُّؤَالِ» عمَّا لم يقع ولا تدعو الحاجةُ إليه أو القطعُ في المسائل فهو مكروهٌ لِمَا فيه مِنَ التَّكلُّف المَنهيِّ عنه، وقد يُرادُ به سؤالُ النَّاس أموالَهُم وما في أيديهم، أو السُّؤالُ عمَّا لا يعني مِنْ أخبارهم وأحوالهم، فإنَّ كثرةَ السُّؤال المُؤدِّي إلى حصول الحَرَج في حقِّ المسؤول أو يُفضي إلى الكذب أو التَّعريض أو الخصومة أو سوءِ الأدبِ فهو بالتحريم ألصقُ وأَلْيَقُ.

وأمَّا «إِضَاعَةُ المَالِ» فإِنْ صَرَفَهُ في المباحاتِ: مِنَ اللَّعبِ والتَّنعُّمِ والتَّنزُّهِ فيما لم يَصِلْ إلى حدِّ النَّهي فهو على الكراهة التَّنزيهيَّة وإِنْ صَرَفَهُ في غيرِ طُرُقِهِ الشَّرعيَّة على وجهٍ يُعرِّضُهُ للتَّلف والتَّبذير أو بَلَغَ حدَّ النَّهيِ أو جاوَزَه أو أَنفقَه فيما حرَّم اللهُ مِنَ الشَّهوات وغيرِها فهو حرامٌ؛ لأنَّه إفسادٌ لا يرضاه اللهُ، فضلًا عن أنَّه إذا أضاع مالَه تَعرَّض لِمَا في أيدي النَّاس مِنْ أموالٍ.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٢٣ جمادى الأولى ١٤٤٢هـ
المــــوافــق ﻟ: ٠٧ يـنــايــر٢٠٢١م



(١) أخرجه البخاريُّ (٣/ ٣٤٠) رقم: (١٤٧٧)، ومسلمٌ (١٢/ ١٢) رقم: (٥٩٣)، مِنْ حديثِ المُغيرةِ بنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه

(٢) انظر: «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (١/ ٣٩ ـ ٤٣).

(٣) انظر: «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ١٢٣ ـ ١٢٤) ومعه: «نزهة الخاطِر» لابن بدران، «مذكِّرة الشنقيطي» (٢١).

(٤) أخرجه البخاري في «الأطعمة» (٥٣٩٨) باب الأكل متَّكِئًا، وأبو داود في «الأطعمة» (٣٧٦٩) بابُ ما جاء في الأكل متَّكِئًا، والترمذيُّ في «الأطعمة» (١٨٣٠) بابُ ما جاء في كراهِيَةِ الأكل متَّكِئًا، واللفظُ له، وأحمد في «مسنده» (١٨٧٥٤)، مِنْ حديثِ أبي جُحَيْفَة رضي الله عنه.

(٥) أخرجه مسلمٌ في «اللباس والزينة» (٢١٠٧) باب لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلبٌ ولا صورةٌ، وأبو داود في «اللباس» (٤١٥٣) بابٌ في الصور، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.

(٦) أخرجه مسلمٌ في «الأقضية» (١٣٤١) باب النهي عن كثرة المسائل مِنْ غير حاجةٍ، والنهيِ عن منعٍ وهاتِ، وهو الامتناعُ مِنْ أداءِ حقٍّ لَزِمَه، أو طلبِ ما لا يَستحِقُّه، مِنْ حديثِ المغيرةِ بنِ شُعبةَ رضي الله عنه.

(٧) انظر: «شرح مسلم» للنَّووي (١٢/ ١٢).

(٨) انظر: «مفتاح الوصول» للتِّلمساني (٥٢٦) [بتحقيقي].

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)