الكلمة الشهرية رقم: ٣٧

في الردِّ على شبهةِ دار الإفتاء المصرية
في التمسُّك بقصَّةِ بناءِ أبي جندلٍ مسجدًا
على قبر أبي بصيرٍ رضي الله عنهما

نصُّ الشبهة:

قد تَمسَّكَتْ دارُ الإفتاء ـ هداها الله ـ بموضعِ شبهةٍ أخرى لا تَشْفَعُ لها: زَعْمُها جوازَ بناءِ المَساجدِ على قبورِ الصالحين واستحبابَ الصلاةِ فيها، حيث احتجَّتْ بحديثِ أبي بصيرٍ رضي الله عنه الذي رواهُ عبدُ الرزَّاق، عن مَعْمَرٍ، عن محمَّد بنِ مسلم بنِ شهابٍ الزُّهْرِيِّ، عن عروة بنِ الزبير، عن المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمةَ ومروانَ بنِ الحَكَم قالا: «إنَّ أبا بصيرٍ انفلت مِنَ المشركين بعد صُلْحِ الحديبية، وذَهَبَ إلى سِيفِ البحر، ولَحِقَ به أبو جندلِ بنُ سُهَيْلِ بنِ عمرٍو، انفلت مِنَ المشركين أيضًا، ولَحِقَ بهم أُناسٌ مِنَ المسلمين حتَّى بَلَغُوا ثلاثَمائةٍ، وكان يُصلِّي بهم أبو بصيرٍ، وكان يقول: «اللهُ العليُّ الأكبرُ، مَنْ يَنْصُرِ اللهَ يُنْصَرْ»، فلمَّا لَحِقَ به أبو جندلٍ كان يؤمُّهم، وكان لا يَمُرُّ بهم عِيرٌ لقُرَيْشٍ إلَّا أَخَذُوها وقَتَلوا أصحابَها؛ فأَرْسَلَتْ قريشٌ إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم تُناشِدُه اللهَ والرَّحِمَ إلَّا أَرْسَلَ إليهم، فمَنْ أتاكَ منهم فهو آمنٌ، وكَتَبَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى أبي جندلٍ وأبي بصيرٍ ليَقْدَما عليه، ومَنْ معهم مِنَ المسلمين أَنْ يَلْحَقوا ببلادهم وأهليهم؛ فقَدِمَ كتابُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على أبي جندلٍ وأبو بصيرٍ يموت، فمات وكتابُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بيده يَقْرَأُهُ؛ فدَفَنَهُ أبو جندلٍ مكانَه وبَنَى على قبره مسجدًا»؛ ثمَّ عَلَّقَتْ على الحديث بأنه ذكَرَهُ ابنُ عبد البرِّ في «الاستيعاب» (٤/ ١٦١٤)، وصاحِبُ «الروض الأنِف» (٤/ ٥٩)، وابنُ سعدٍ في «الطبقات الكبرى» (٤/ ١٣٤)، وصاحِبُ «السيرة الحلبية» (٢/ ٧٢٠)، ورواهُ ـ أيضًا ـ موسى بنُ عقبة في «المغازي»، وابنُ إسحاق في «السيرة»، ومَغازي موسى بنِ عقبة مِنْ أَصَحِّ كُتُبِ السيرة؛ فكان الإمام مالكٌ يقول عنها: «عليكم بمَغازي الرجل الصالح موسى بنِ عقبة؛ فإنها أَصَحُّ المَغازي»، وكان يحيى بنُ مَعينٍ يقول: «كتابُ موسى بنِ عقبة عن الزُّهْرِيِّ مِنْ أَصَحِّ هذه الكُتُب».

الجواب على الشبهة:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فالجواب عن هذه الشبهةِ الثانية مِنَ السُّنَّة في قصَّةِ بناء أبي جندلٍ رضي الله عنه مسجدًا على قبرِ أبي بصيرٍ رضي الله عنه في عهدِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مِنَ الحيثيَّتَيْن التاليتَيْن:

ـ الحيثية الأولى مِنْ حيث السند: فإنَّ القصَّة التي أَوْرَدَها ابنُ عبد البرِّ في «الاستيعاب» بدونِ زيادةِ: «وَبَنَى عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا» ضعيفةٌ لا تقوم بها حُجَّةٌ لكونها مُرْسَلةً؛ لأنَّ مَدارَ هذه القصَّةِ على الزهريِّ على اعتبارِ أنه تابعيٌّ صغيرٌ سَمِعَ مِنْ أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه وإلَّا فهي مُعْضَلةٌ.

أمَّا الزيادةُ في موضع الشاهد في قوله: «وبَنَى على قبرِه مسجدًا» فهي زيادةٌ مُنْكَرةٌ لعِلَّتين:

العلَّة الأولى: كونُها مُعْضَلةً فقَدْ صرَّح ابنُ عبد البرِّ بأنها مِنْ روايةِ موسى بنِ عقبة(١) وليس مِنْ مُرْسَلِ الزهريِّ ولا مِنْ روايةِ عبد الرزَّاق عن مَعْمَرٍ عنه، ولا نشكُّ في أنَّ موسى بنَ عقبةَ بنِ أبي عيَّاشٍ الأسديَّ ثِقَةٌ فقيهٌ إمامٌ في المَغازي، إلَّا أنَّه مِنْ صِغارِ التابعين ولم يَسْمَعْ أَحَدًا مِنَ الصحابة(٢)، وقد قال الإسماعيليُّ في كتاب «العتق» إنه لم يسمع موسى بنُ عقبة مِنَ الزُّهْرِيِّ شيئًا(٣).

العلَّة الثانية: أنَّ تلك الزيادةَ لم يَرْوِها الثِّقَاتُ؛ فقَدْ روى البخاريُّ في كتاب «الشروط» مِنْ صحيحه، باب الشروط في الجهاد والمُصالَحةِ مع أهل الحرب وكتابةِ الشروط (٥/ ٣٢٩)، وأحمد في «مسنده» (٤/ ٣٢٨)، وغيرُهما هذه القصَّةَ موصولةً مِنْ طريقِ عبد الرزَّاق عن مَعْمرٍ، قال: أخبرني عروةُ بنُ الزبير عن المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمة ومروانَ بها دون هذه الزيادة.

قال المُحدِّثُ محمَّد ناصر الدِّين الألبانيُّ ـ رحمه الله ـ: «وكذلك أَوْرَدَها ابنُ إسحاق في «السيرة» عن الزهريِّ مُرْسَلًا كما في «مختصر السيرة» لابن هشامٍ (٣/ ٣٣١ ـ ٣٣٩)، ووَصَلَهُ أحمد (٤/ ٣٢٣ ـ ٣٢٦) مِنْ طريقِ ابنِ إسحاق عن الزُّهْرِيِّ عن عروة به مِثْلَ روايةِ مَعْمَرٍ وأَتَمَّ، وليس فيها هذه الزيادةُ، وكذلك رواهُ ابنُ جريرٍ في «تاريخه» (٣/ ٢٧١ ـ ٢٨٥) مِنْ طريقِ مَعْمَرٍ وابنِ إسحاقَ وغيرِهما عن الزهريِّ به دون هذه الزيادة؛ فدلَّ ذلك كُلُّه على أنها زيادةٌ مُنْكَرَةٌ لإعضالها وعدَمِ رواية الثِّقَاتِ لها»(٤).

لذلك فالحديثُ ليس له إسنادٌ تقوم به الحُجَّةُ، ولم يَرْوِهِ أصحابُ «الصحاح» و«السنن» و«المَسانيد» وغيرُهم، وإنما أَوْرَدَهُ ابنُ عبد البرِّ في ترجمةِ أبي بصيرٍ رضي الله عنه مُرْسَلًا، والزيادةُ فيه مُنْكَرَةٌ ـ كما تَقدَّمَ ـ.

ـ الحيثية الثانية:

مِنْ حيث فرضُ صحَّةِ الزيادة موضعِ الشاهد في القصَّة المذكورة، والتي اسْتُدِلَّ بها على إقراره صلَّى الله عليه وسلَّم أبا جندلٍ رضي الله عنه على بناءِ مسجدٍ على قبرِ أبي بصيرٍ رضي الله عنه، فيمكن الجوابُ عنها مِنْ جهتين:

الجهة الأولى: عدَمُ التسليمِ بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَقَرَّ هذا البناءَ؛ لأنَّ الفعل ـ في ذاته ـ لم يكن واقعًا بين يَدَيْهِ، وإنما وَقَعَ في زمانه، وهو خفيٌّ غيرُ مشتهرٍ حتَّى يَعْلَمَ به؛ إذ مِنْ شرطِ الإقرارِ الذي هو حُجَّةٌ أَنْ يَعْلَمَ به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ويكونَ قادرًا على الإنكار، وأَنْ لا يكون قد بَيَّن حُكْمَه قبل ذلك بيانًا شافيًا يُسْقِطُ عنه وجوبَ الإنكار كما قرَّره أهلُ الأصول(٥).

قلت: فإِنْ لم يُعْلَمْ أنه بيَّن حُكْمَه قبل العلم به وسَكَتَ عنه ـ ابتداءً ـ فَقَدْ بيَّن صلَّى الله عليه وسلَّم حُكْمَه بعد ذلك بيانًا شافيًا في الأحاديثِ الصحيحةِ المُحْكَمَةِ التي تَقَدَّمَ ذِكْرُها في الشبهة المتعلِّقة بآيةِ سورة الكهف.

الجهة الثانية: في حالةِ التسليم ـ جدلًا ـ بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم عَلِمَ ببناءِ أبي جندلٍ رضي الله عنه المسجدَ على قبرِ أبي بصيرٍ رضي الله عنه وأَقَرَّه على ذلك؛ فإنه يَتعارَضُ ـ حتمًا ـ مع النصوص الحديثية الصريحة في تحريمِ البناء على القبور، والمعلومُ ـ حالَ التعارض ـ أنَّ مِنْ طُرُق دَفْعِه إذا تَعَذَّرَ وجودُ ناسخٍ بالنصِّ فإنَّ الناظر يَصيرُ إلى الجمع والتوفيق بين الدليلين المُتعارِضين؛ فإِنْ تَعَذَّرَ الجمعُ صارَ إلى النسخِ الاحتماليِّ، وإلَّا دَفَع التعارضَ بترجيحِ أقوى الدليلين(٦)؛ وفي هذا المَقامِ ـ وعلى فَرْضِ صِحَّةِ الزيادة موضعِ الشاهد ـ فإنه يظهر جليًّا قَبولُ مدلولها للنسخ الاحتماليِّ للعلم بتاريخهما وتَفاوُتِ المدَّة بينهما؛ إذ إنَّ الأحاديث الصريحة في تحريمِ البناء على القبور ثَبَتَتْ في آخِرِ حياتِه بخلافِ الزيادة المذكورة فكانَتْ مُتقدِّمةً عليها، ونَسْخُ المتقدِّمِ بالمتأخِّرِ مُتحقِّقٌ بمعرفةِ تاريخِ كُلٍّ منهما؛ وعليه فلا يَصِحُّ تركُ النصِّ المتأخِّر للمتقدِّم عند حصولِ التعارض بينهما على ما تَقرَّرَ أصوليًّا.

هذا، وعلى تقديرِ عَدَمِ معرفةِ التاريخ أو عَدَمِ الأخذ بمبدإ النسخ الاحتماليِّ فإنه يُصارُ إلى الترجيح بين الدليلين المُتعارِضين، وبغضِّ النظر عن مآلِ ترجيح الأحاديث الصحيحة والصريحة في النهي والحظر بقوَّةِ سَنَدِها، فإنها تُرجَّحُ أيضًا مِنْ جهةِ مدلولها ومَتْنِها، ويظهر ذلك مِنَ الزاويتين الأصوليَّتين الآتيتين:

١ ـ مِنْ زاوية المدلول:

إذا تَعارَضَ حاظرٌ ومُبيحٌ يُقدَّمُ الحاظرُ على المُبيح، والأحاديثُ الصحيحة والصريحةُ في بناءِ المساجد على القبور تُفيدُ التحريمَ والحظرَ، بينما زيادةُ «وبنى على قبرِه مسجدًا» يُفيدُ الإقرارُ عليه الجوازَ والإباحة، وقد تَقرَّرَ عند الأصوليِّين أنَّ الدليلَ الحاظرَ مُقدَّمٌ على المُبيح؛ لأنَّ في التحريمِ دَفْعَ مفسدةٍ مُلازِمةٍ للفعل أو تقليلَها، بخلافِ الجواز والإباحة فقَدْ تُحَصَّلُ بها مصلحةٌ أو تُكَمِّلها، ولا يخفى اهتمامُ الشريعة وعنايتُها بدرءِ المَفاسِدِ وآكديَّتها مِنْ جَلْبِ المَصالِح؛ ومِنْ جهةٍ أخرى إذا كان الوجوبُ مُقدَّمًا على الإباحة، والحظرُ مقدَّمًا على الوجوب على أَرْجَحِ الأقوال؛ فمِنْ بابٍ أَوْلى تقديمُ الحظر على الإباحة والجواز؛ إذ تركُ المُباحِ لاجتنابِ المحرَّم أَوْلى مِنَ العكس؛ ولأنَّ في التحريمِ مفسدةً وعقابًا بخلافِ الإباحة.

٢ ـ مِنْ زاوية المتن:

إذا تَعارَضَ القولُ مع الإقرارِ يُقدَّمُ القولُ عليه؛ لأنه أقوى وأَبْلَغُ في البيان مِنَ الإقرار والسكوت، ولأنه إذا كان قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم أَوْكَدَ مِنْ فِعْلِه ـ إِذْ طاعتُه صلَّى الله عليه وسلَّم في أَمْرِه أَوْلى مِنْ مُوافَقَتِه في فعلٍ لم يَأْمُرْنا بمُوافَقتِه فيه ـ؛ فتقريرُ هذا الحكمِ في تقديم القول على الفعل يقع ـ مِنْ بابٍ أَوْلى ـ على إقراره وسكوته.

فالحاصل: أنَّ التمسُّك بقصَّةِ بناءِ أبي جندلٍ رضي الله عنه على قبر أبي بصيرٍ رضي الله عنه مسجدًا شبهةٌ غايةٌ في الضعف والسقوط مِنَ الحيثيَّات السالفةِ البيانِ، والاستدلالُ بها إنما يستقيم على طريقةِ أهل الأهواء مِنَ الماضين والمُعاصِرين بردِّ النصوص المُحْكَمات بالمُتشابِهات، نعوذ بالله مِنَ الخذلان.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٢٠ صفر ١٤٣٠ﻫ
الموافق ﻟ: ١٥ فبراير ٢٠٠٩م

 



(١) انظر: «الاستيعاب» لابن عبد البرِّ (٤/ ١٦١٣).

(٢) انظر: «ميزان الاعتدال» للذهبي (٤/ ٢١٤)، «تهذيب التهذيب» (١٠/ ٣٦٢) و«تقريب التهذيب» (٢/ ٢٨٦) كلاهما لابن حجر.

(٣) انظر: «تهذيب التهذيب» لابن حجر (١٠/ ٣٦٢).

(٤) «تحذير الساجد» للألباني (١١٩).

(٥) انظر: «مفتاح الوصول» للشريف التلمساني (٦٣٩) بتحقيقي، ط٣.

(٦) انظر: «الإنارة شرح كتاب الإشارة» للمؤلِّف، تحت عنوان «طُرُق دَفْعِ التعارض» (ص: ١٠٣ ـ ١٣٢).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)