بلاغة القرآن في آياتٍ من «سورة الأنبياء» | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م



بلاغة القرآن في آياتٍ من «سورة الأنبياء»

قال الله تعالى: ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ. فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ. وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ. لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ. بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ. وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ [الأنبياء: ١٤ ـ ١٩].

اشتملت هذه الآيات على فنونٍ عديدةٍ من البلاغة نوجزها فيما يلي:

١ـ الاستعارة في قولهم: ﴿يَا وَيْلَنَا﴾ فقد خاطبوا الويل، وهو الهلاك، كأنه شخصٌ حيٌّ يدعونه لينقذهم ممَّا هم فيه.

٢ـ التشبيه البليغ في قوله: ﴿جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ﴾ فقد شبَّههم بعد حلول العذاب بهم بالحصيد أوَّلًا وهو الزرع المحصود، ووجه الشبه بين المشبَّه والمشبَّه به هو الاستئصال من المنابت، ثمَّ شبَّههم ثانيًا بالنار المنطفئة ولم يبق منها إلَّا جمرٌ منطفئٌ لا نَفْعَ فيه ولا قابلية لشيءٍ من النفع منه، فلا ترى إلَّا أشلاءً متناثرةً وأجزاءً متفرِّقةً قد تمدَّدت وقد ران عليها البلى.

٣ـ الاستعارة المكنيَّة في قوله: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾، فقد شبَّه الحقَّ والباطل ـ وهما معنويَّان ـ بشيئين مادِّيَّيْن محسوسين، يُقذفان ويُدفعان، ثمَّ حذف هذين الشيئين، واستعار ما هو من لوازمهما ـ وهما: القذف والدمغ ـ لتجسيد الإطاحة بالباطل واعتلاء الحقِّ عليه، وتصوير إبطاله وإهداره ومحقه، كأنه جرمٌ صلبٌ كصخرةٍ أو ما يماثلها في القوَّة والصلابة، قُذِف به على جرمٍ رخوٍ أجوفَ فدَمَغه، وهي من استعارة المحسوس للمعقول.

٤ـ قوَّة اللفظ لقوَّة المعنى، ونعني به: نقل اللفظ من وزنٍ إلى وزنٍ آخر أكثر منه ليتضمَّن من المعنى الدالِّ عليه أكثر ممَّا تضمَّنه أوَّلًا، لأنَّ الألفاظ أدلَّةٌ على المعاني، وأمثلةٌ للإبانة عنها، فإذا زِيد في الألفاظ أوجبت القسمة زيادةَ المعنى، وهذا الضرب لا يُستعمل إلَّا في مقام المبالغة، وهو هنا في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ فقَدْ عدل عن الثلاثيِّ ـ وهو «حسر» ـ إلى السداسيِّ ـ وهو استحسر ـ وقد كان ظاهر الكلام أن يقال: يحسرون، أي: يَكِلُّون ويتعبون، لأنَّ أقلَّ مللٍ منهم أو كلالٍ إزاءَ الملائكة وإزاء عبادتهم لله تعالى لا يُتصوَّر منهم، ولكنَّه عَدَل عن ذلك لسرٍّ يخفى على النظرة السطحية الأولى، وهو: أنَّ ما هم فيه من انهماكٍ بالعبادة وانصرافٍ بالكلِّيَّة لها يوجب غايةَ الحسور وأقصاه.

[«إعراب القرآن وبيانه» للدرويش (٥/ ١٩)]