شرف البيت الحرام في آياتٍ من سورة آل عمران | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م



شرف البيت الحرام في آياتٍ من سورة آل عمران

قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[آل عمران: ٩٦ ـ ٩٧].

وفي الحجِّ أتى بهذا اللفظ الدالِّ على تأكُّد الوجوب من عشرة أوجهٍ:

أحدها: أنه قدَّم اسمَه تعالى وأدخل عليه لامَ الاستحقاق والاختصاص، ثمَّ ذكر من أوجبه عليهم بصيغة العموم الداخلة عليها حرف «على»، أبدل منه أهلَ الاستطاعة، ثمَّ نكَّر السبيلَ في سياق الشرط إيذانًا بأنه يجب الحجُّ على أيِّ سبيلٍ تيسَّرت من قوتٍ أو مالٍ، فعلَّق الوجوبَ بحصول ما يسمَّى سبيلًا، ثمَّ أتبع ذلك بأعظم التهديد بالكفر فقال: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ أي: لعدم التزامه هذا الواجبَ وتركه، ثمَّ عظَّم الشأنَ وأكَّد الوعيدَ بإخباره ما يُستغنى به عنه، والله تعالى هو الغنيُّ الحميد ولا حاجة به إلى حجِّ أحدٍ، وإنما في ذكر استغنائه عنه هنا من الإعلام بمقته له وسخطه عليه وإعراضه بوجهه عنه ما هو أعظم التهديد وأبلغُه، ثمَّ أكَّد ذلك بذكر اسم «العالمين» عمومًا، ولم يقل: «فإنَّ الله غنيٌّ عنه»، لأنه إذا كان غنيًّا عن العالمين كلِّهم فله الغنى الكامل التامُّ من كلِّ وجهٍ بكلِّ اعتبارٍ، فكان أدلَّ لعِظَمِ مقته لتارك حقِّه الذي أوجبه عليه، ثمَّ أكَّد هذا المعنى بأداة «إنَّ» الدالَّةِ على التأكيد، فهذه عشرة أوجهٍ تقتضي تأكُّدَ هذا الفرض العظيم.

وتأمَّلْ سرَّ البدل في الآية المقتضي لذكر الإسناد مرَّتين، مرَّةً بإسناده إلى عموم الناس، ومرَّةً بإسناده إلى خصوص المستطيعين، وهذا من فوائد البدل: تقوية المعنى وتأكيده بتكرُّر الإسناد، ولهذا كان في نيَّة تكرار العامل وإعادته.

ثمَّ تأمَّلْ ما في الآية من الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال، وكيف تضمَّن ذلك إيرادَ الكلام في صورتين وخلَّتين: اعتناءٍ به وتأكيدٍ لشأنه، ثمَّ تأمَّل كيف افتتح هذا الإيجابَ بذكر محاسن البيت وعِظَمِ شأنه بما تدعو النفوس إلى قصده وحجِّه وإن لم يُطلب ذلك منها، فقال: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ﴾ إلخ، فوصفه بخمس صفاتٍ: أحدها: كونه أسبق بيوت العالم وُضع في الأرض، الثاني: أنه مباركٌ، والبركة كثرة الخير ودوامه، وليس في بيوت العالم أبرك منه ولا أكثر خيرًا ولا أدوم ولا أنفع للخلائق، الثالث: أنه هدًى، ووصفه بالمصدر نفسه مبالغةً حتى كأنه نفس الهدى، الرابع: ما تضمَّن من الآيات البيِّنات التي تزيد على أربعين آيةً، الخامس: الأمن الحاصل لداخله، وفي وصفه بهذه الصفات دون إيجاب قصده ما يبعث النفوسَ على حجِّه وإن شطَّت بالزائرين الديار وتناءت بهم الأقطار، ثمَّ أتبع ذلك بصريح الوجوب المؤكَّد بتلك التأكيدات، وهذا يدلُّ على الاعتناء منه سبحانه لهذا البيت العظيم، والتنويهِ بذكره، والتعظيمِ لشأنه، والرفعةِ من قدره، ولو لم يكن له شرفٌ إلَّا إضافته إيَّاه إلى نفسه بقوله: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ لكفى بهذه الإضافة فضلًا وشرفًا، وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه، وسلبت نفوسَهم حبًّا له وشوقًا إلى رؤيته، فهذه المثابة للمحبِّين يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرًا أبدًا، كلَّما ازدادوا له زيارةً ازدادوا له حبًّا وإليه اشتياقًا، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسليهم، كما قيل:

أَطُوفُ بِهِ وَالنَّفْسُ بَعْدُ مَشُوقَةٌ   إِلَيْهِ وَهَلْ بَعْدَ الطَّوَافِ تَدَانِي

وَأَلْثِمُ مِنْهُ الرُّكْنَ أَطْلُبُ بَرْدَ مَا   بِقَلْبِيَ مِنْ شَوْقٍ وَمِنْ هَيَمَانِ

فَوَاللهِ مَا أَزْدَادُ إِلَّا صَبَابَةً وَلَا القَلْبُ إِلَّا كَثْرَةَ الخَفَقَانِ

فَيَا جَنَّةَ المَأْوَى وَيَا غَايَةَ المُنَى     وَيَا مُنْيَتِي مِنْ دُونِ كُلِّ أَمَانِ

أَبَتْ غَلَبَاتُ الشَّوْقِ إِلَّا تَقَرُّبًا     إِلَيْكَ فَمَا لِي بِالبِعَادِ يَدَانِ

وَمَا كَانَ صَدِّي عَنْكَ صَدَّ مَلَالَةٍ وَلِي شَاهِدٌ مِنْ مُقْلَتِي وَلِسَانِي

دَعَوْتُ اصْطِبَارِي عَنْكَ بَعْدَكَ وَالبُكَا     فَلَبَّى البُكَا وَالصَّبْرُ عَنْكَ عَصَانِي

وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ المُحِبَّ إِذَا نَأَى   سَيَبْلَى هَوَاهُ بَعْدَ طُولِ زَمَانِ

وَلَوْ كَانَ هَذَا الزَّعْمُ حَقًّا لَكَانَ ذَا       دَوَاءَ الهَوَى فِي النَّاسِ كُلَّ زَمَانِ

بَلَى إِنَّهُ يَبْلَى التَّصَبُّرُ وَالهَوَى      عَلَى حَالِهِ لَمْ يُبْلِهِ المَلَوَانِ

وَهَذَا مُحِبٌّ قَادَهُ الشَّوْقُ وَالهَوَى بِغَيْرِ زِمَامٍ قَائِدٍ وَعِنَانِ

أَتَاكَ عَلَى بُعْدِ المَزَارِ وَلَوْ وَنَتْ   مَطِيَّتُهُ جَاءَتْ بِهِ القَدَمَانِ

[«تفسير السعدي» (١٣٨)]