البراءة من المشركين (١) | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م



البراءة من المشركين (١)

﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ. وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[الكافرون: ١ ـ ٦].

وسيكون الحديث عن هذه الآية وبلاغتها في الأوجه الآتية:

المسألة الأولى: وهي فائدة تكرار الأفعال فقيل: فيه وجوهٌ: أحدها: أنَّ قوله: ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ[الكافرون: ٢] نفيٌ للحال والمستقبل. وقوله : ﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ[الكافرون: ٣] مقابله أي: لا تفعلون ذلك. وقوله: ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ[الكافرون: ٤] أي: لم يكن منِّي ذلك قطُّ قبل نزول الوحي. ولهذا أتى في عبادتهم بلفظ الماضي فقال: ﴿مَا عَبَدْتُمْ﴾ فكأنه قال: لم أعبد قطُّ ما عبدتم. وقوله: ﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ[الكافرون: ٥]، مقابله أي: لم تعبدوا قطُّ في الماضي ما أعبده أنا دائمًا. وعلى هذا فلا تكرار أصلًا، وقد استوفت الآياتُ أقسامَ النفي ماضيًا وحالًا ومستقبلًا عن عبادته وعبادتهم بأوجز لفظٍ وأخصره وأبينه. وهذا إن شاء الله أحسن ما قيل فيها فلنقتصر عليه ولا نتعدَّاه إلى غيره، فإنَّ الوجوه التي قيلت في مواضعها فعليك بها.

المسألة الثانية: وهي تكريره الأفعالَ بلفظ المستقبل حين أخبر عن نفسه وبلفظ الماضي حين أخبر عنهم ففي ذلك سرٌّ، وهو الإشارة والإيماء إلى عصمة الله تعالى له عن الزيغ والانحراف عن عبادة معبوده والاستبدال به غيرَه، وأنَّ معبوده واحدٌ في الحال والمآل على الدوام لا يرضى به بدلًا ولا يبغي عنه حولًا بخلاف الكافرين فإنهم يعبدون أهواءَهم ويتَّبعون شهواتِهم في الدين وأغراضَهم. فهم بصدد أن يعبدوا اليوم معبودًا وغدًا غيره فقال: ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ[الكافرون: ٢] يعني الآن، ﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ[الكافرون: ٣ ] أنا الآن أيضًا، ثمَّ قال: ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ[الكافرون: ٤] يعني: ولا أنا فيما يُستقبل يصدر منِّي عبادةٌ لِما عبدتم أيُّها الكافرون، وأشبهت «ما» هنا رائحةَ الشرط، فلذلك وقع بعدها الفعل بلفظ الماضي وهو مستقبلٌ في المعنى كما يجيء ذلك بعد حرف الشرط، كأنه يقول: مهما عبدتم من شيءٍ فلا أعبده أنا..

وأمَّا المسألة الثالثة: وهي أنه لم يأت النفي في حقِّهم إلَّا باسم الفاعل وفي جهته جاء بالفعل المستقبل تارةً، وباسم الفاعل أخرى، فذلك والله أعلم لحكمةٍ بديعةٍ وهي أنَّ المقصود الأعظم براءتُه من معبوديهم بكلِّ وجهٍ وفي كلِّ وقتٍ، فأتى أوَّلًا بصيغة الفعل الدالَّة على الحدوث والتجدُّد، ثمَّ أتى في هذا النفي بعينه بصيغة اسم الفاعل الدالَّة على الوصف والثبوت، فأفاد في النفي الأوَّل أنَّ هذا لا يقع منِّي، وأفاد في الثاني أنَّ هذا ليس وصفي ولا شأني، فكأنه قال: عبادة غير الله لا تكون فعلًا لي ولا وصفًا، فأتى بنفيين لمنفيَّين مقصودين بالنفي، وأمَّا في حقِّهم فإنما أتى بالاسم الدالِّ على الوصف والثبوب دون الفعل، أي: أنَّ الوصف الثابت اللازم العائد لله منتفٍ عنكم، فليس هذا الوصف ثابتًا لكم، وإنما ثبت لمن خصَّ اللهَ وحده بالعبادة لم يشرك معه فيها أحدًا، وأنتم لمَّا عبدتم غيره فلستم من عابديه وإن عبدوه في بعض الأحيان، فإنَّ المشرك يعبد الله ويعبد معه غيره، كما قال أهل الكهف: ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ[الكهف: ١٦] أي: اعتزلتم معبودهم إلَّا الله فإنكم لم تعتزلوه، وكذا قال المشركون عن معبودهم: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى[ الزمر: ٣ ] فهم كانوا يعبدون اللهَ ويعبدون معه غيره، فلم ينتفِ عنهم الفعلُ لوقوعه منهم، ونُفِيَ الوصف لأنَّ من عبد غير الله لم يكن ثابتًا على عبادة الله موصوفًا بها، فتأمَّل هذه النكتة البديعة كيف تجد في طيِّها أنه لا يوصف بأنه عابد الله، وعبده المستقيم على عبادته إلَّا من انقطع إليه بكلِّيَّته وتبتَّل إليه تبتيلًا: لم يلتفت إلى غيره ولم يشرك به أحدًا في عبادته، وأنه وإن عبده وأشرك به غيره فليس عابدًا لله ولا عبدًا له. وهذا من أسرار هذه السورة العظيمة الجليلة التي هي إحدى سورتي الإخلاص التي تعدل ربع القرآن كما جاء في بعض السنن وهذا لا يفهمه كلُّ أحدٍ، ولا يدركه إلَّا من منحه الله فهمًا من عنده فلله الحمد والمنَّة.

ـ يتبع ـ

[«بدائع الفوائد» لابن القيِّم (٢/ ١١٢)]