البراءة من المشركين (٢) | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م



البراءة من المشركين (٢)

﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ. وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[الكافرون: ١ ـ ٦].

اشتملت هذه السورة على فنونٍ عديدةٍ من البلاغة والبيان منها:

١ـ «وهي أنَّ النفي في هذه السورة أتى بأداة «لا» دون «لن»، وذلك لأنَّ النفي ﺑ«لا» أبلغ منه ﺑ«لن»، وأنَّ «لا» أدلُّ على دوام النفي وطوله مِن «لن»، وأنها للطول والمدِّ الذي في لفظها طال النفي بها وامتدَّ، وأنَّ هذا ضدُّ ما فهمته الجهمية والمعتزلة وأنَّ «لن» إنما تنفي المستقبل، و«لا» تنفي الحالَ المستمرَّ النفيِ في الاستقبال، وقد تقدَّم تقرير ذلك بما لا تكاد تجده في غير هذا التعليق. فالإتيان ﺑ«لا» متعيِّنٌ هنا والله أعلم.

٢ـ اشتمال هذه السورة على النفي المحض، فهذا هو خاصَّة هذه السورة العظيمة، فإنها سورة براءةٍ من الشرك كما جاء في وصفُها «أنَّها براءةٌ من الشرك»، فمقصودها الأعظم هو البراءة المطلوبة بين الموحِّدين والمشركين، ولهذا أتى بالنفي في الجانبين تحقيقًا للبراءة المطلوبة، مع أنها متضمِّنةٌ للإثبات صريحًا فقوله: ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ براءةٌ محضةٌ، ﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ إثباتُ أنَّ له معبودًا يعبده وأنهم بريئون من عبادته، فتضمَّنت النفيَ والإثبات، وطابقت قولَ إمام الحنفاء: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي[الزخرف: ٢٦ ـ ٢٧]، وطابقت قولَ الفتية الموحِّدين: ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ[الكهف: ١٦]، فانتظمت حقيقةَ: «لا إله إلا الله تعالى»، ولهذا كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقرنها بسورة: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ في سنَّة الفجر وسنَّة المغرب، فإنَّ هاتين السورتين سورتا الإخلاص، وقد اشتملتا على نوعَيِ التوحيد الذي لا نجاة للعبد ولا فلاح إلَّا بهما، وهما توحيد العلم والاعتقاد المتضمِّن تنزيهَ الله عمَّا لا يليق به من الشرك والكفر والولد والوالد، وأنه إلهٌ أحدٌ صمدٌ، لم يلد فيكونَ له فرعٌ، ولم يولد فيكونَ له أصلٌ، ولم يكن له كفوًا أحدٌ فيكونَ له نظيرٌ، ومع هذا فهو الصمد الذي اجتمعت له صفاتُ الكمال كلُّها، فتضمَّنت السورة إثباتَ ما يليق بجلاله من صفات الكمال ونفيَ ما لا يليق به من الشريك أصلًا وفرعًا ونظيرًا، فهذا توحيد العلم والاعتقاد.

والثاني: توحيد القصد والإرادة، وهو أن لا يُعبد إلَّا إيَّاه فلا يُشركَ به في عبادته سواه، بل يكون وحده هو المعبود، وسورة: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ[الكافرون: ١] مشتملةٌ على هذا التوحيد، فانتظمت السورتان نَوْعَيِ التوحيد وأُخْلِصَتَا له، فكان صلَّى الله عليه وسلَّم يفتتح بهما النهارَ في سنَّة الفجر ويختم بهما في سنَّة المغرب، وفي «السنن» أنه كان يوتر بهما فيكونان خاتمةَ عمل الليل كما كانا خاتمةَ عمل النهار.

ومن هنا تخريج جواب المسألة.

٣ـ تقديم براءته من معبودهم، ثمَّ أتبعها ببراءتهم من معبوده، فتأمَّلْه فإنه واضحٌ.

٤ـ إثباته هنا بلفظ ﴿يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ﴾، دون «يا أيُّها الذين كفروا» ، فَسِرُّه ـ والله أعلم ـ: إرادة الدلالة على أنَّ من كان الكفر وصفًا ثابتًا له لازمًا لا يفارقه فهو حقيقٌ أن يتبرَّأ الله منه ويكونَ هو أيضًا بريئًا من الله، فحقيقٌ بالموحِّد البراءةُ منه، فكان ذكرُه في معرض البراءة التي هي غاية البعد والمجانبة بحقيقة حاله التي هي غاية الكفر وهو الكفر الثابت اللازم في غاية المناسبة، فكأنه يقول: كما أنَّ الكفر لازمٌ لكم ثابتٌ لا تنتقلون عنه فمجانبتكم والبراءة منكم ثابتةٌ دائمًا أبدًا. ولهذا أتى فيها بالنفي الدالِّ على الاستمرار في مقابلة الكفر الثابت المستمرِّ، وهذا واضحٌ.

[«بدائع الفوائد» لابن القيِّم (٢/ ١١٢)]