من أسرار التضمين والحروف في اللغة العربية | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الخميس 16 شوال 1445 هـ الموافق لـ 25 أبريل 2024 م



من أسرار التضمين والحروف في اللغة العربية

قال الله تعالى: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: ٧].

وأمَّا تعدية الفعل هنا بنفسه دون حرف «إلى» فجوابها: أنَّ فعل الهداية يتعدَّى بنفسه تارةً، وبحرف «إلى» تارةً وباللام تارةً، والثلاثة في القرآن: فمن المعدَّى بنفسه هذه الآية وقوله: ﴿وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا[الفتح: ٢]، ومن المعدَّى ﺑ«إلى» قولُه: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[الشورى: ٥٢]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[الأنعام: ١٦١]، ومن المعدَّى باللام قولُ أهل الجنة: ﴿الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا[الأعراف: ٤٣]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ[الإسراء: ٩]، والفروق لهذه المواضع تدقُّ جدًّا عن أفهام العلماء، ولكن نذكر قاعدةً تشير إلى الفرق وهي: أنَّ الفعل المعدَّى بالحروف المتعدِّدة لا بدَّ أن يكون له مع كلِّ حرفٍ معنًى زائدٌ على معنى الحرف الآخر وهذا بحسب اختلاف معاني الحروف، فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرقُ نحو: «رغبت عنه، ورغبت فيه»، و«عدلت إليه، وعدلت عنه»، و«ملتُ إليه وعنه»، و«سعيت إليه وبه»، وإن تفاوت معنى الأدوات عَسُرَ الفرق نحو: «قصدت إليه وقصدت له»، و«هديته إلى كذا وهديته لكذا»، وظاهرية النحاة يجعلون أحدَ الحرفين بمعنى الآخر، وأمَّا فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة، بل يجعلون للفعل معنًى مع الحرف ومعنًى مع غيره، فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال، فيُشْرِبُونَ الفعل المتعدِّيَ به معناه، هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه رحمه الله تعالى وطريقة حذَّاق أصحابه يضمِّنون الفعلَ معنى الفعل لا يقيمون الحرف مقام الحرف، وهذه قاعدةٌ شريفةٌ جليلة المقدار تستدعي فطنةً ولطافةً في الذهن، وهذا نحو قوله تعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ[الإنسان: ٦]، فإنهم يضمِّنون ﺑ«شرب» معنى «يروي» فيُعَدُّونه ﺑ«الباء» التي تطلبها، فيكون في ذلك دليلٌ على الفعلين: أحدهما بالتصريح به، والثاني بالتضمُّن والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غاية الاختصار، وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها، ومنه قوله في السحاب: «شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ حَتَّى رَوِينَ، ثُمَّ تَرَفَّعْنَ وَصَعِدْنَ»، وهذا أحسن من أن يقال: يشرب منها، فإنه لا دلالة فيه على الريِّ، وأن يقال: يروى بها لأنه لا يدلُّ على الشرب بصريحه بل باللزوم، فإذا قال: يشرب بها دلَّ على الشرب بصريحه وعلى الريِّ بخلاف الباء فتأمَّلْه، ومن هذا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ[الحج: ٢٥]، وفعلُ الإرادة لا يتعدَّى بالباء، ولكن ضُمِّن معنى يهمُّ فيه بكذا وهو أبلغ من الإرادة، فكان في ذكر الباء إشارةٌ إلى استحقاق العذاب عند الإرادة وإن لم تكن جازمةً، وهذا بابٌ واسعٌ لو تتبَّعناه لطال الكلام فيه، ويكفي المثالان المذكوران، فإذا عرفت هذا ففعل الهداية متى عُدِّيَ ﺑ«إلى» تضمَّن الإيصالَ إلى الغاية المطلوبة فأتى بحرف الغاية، ومتى عُدِّيَ باللام تضمَّن التخصيصَ بالشيء المطلوب فأتى باللام الدالَّة على الاختصاص والتعيين، فإذا قلت: «هديته لكذا» فُهم معنى: ذكرته له وجعلته له وهيَّأته ونحو هذا، وإذا تعدَّى بنفسه تضمَّن المعنى الجامع لذلك كلِّه وهو التعريف والبيان والإلهام، فالقائل إذا قال: اهدنا الصراط المستقيم هو طالبٌ من الله أن يعرِّفه إيَّاه ويبيِّنه له ويلهمه إيَّاه ويقدِّره عليه، فيجعل في قلبه عِلْمَه وإرادته والقدرة عليه فجرَّد الفعل من الحرف وأتى به مجرَّدًا معدًّى بنفسه ليتضمَّن هذه المراتبَ كلَّها، ولو عُدِّيَ بحرفٍ تعيَّن معناه وتخصَّص بحسب معنى الحرف، فتأمَّلْه فإنه من دقائق اللغة وأسرارها.

[«بدائع الفوائد» لابن القيِّم (٢/ ٢٠)]