Skip to Content
الجمعة 19 رمضان 1445 هـ الموافق لـ 29 مارس 2024 م

تذكير واستنكار
على قرارِ منعِ الجمع في الحَضَر بسببِ عُذر المطر

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فقَدْ جاء في التنزيلِ المُحكَم قولُه تعالى: ﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا ٢١[الأحزاب]، ففي الآيةِ أصلٌ كبيرٌ في التأسِّي برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والاقتداءِ به ومتابعتِه في أقواله وأفعاله وأحواله؛ وممَّا جرَتْ عليه سنَّةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: العملُ بالرخصة المشرَّعة بفعله صلَّى الله عليه وسلَّم عند وجود الحرج؛ إذ دِينُ اللهِ تعالى قائمٌ على التيسير ورفعِ الحرج ودفعِ المَشقَّة؛ والأدلَّةُ على ذلك متضافرةٌ بلغَتْ درجةَ القطع، فمنها: قولُه تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ[الحج: ٧٨]، وقولُه تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ﴾  [المائدة: ٦]، وقولُه تعالى: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ[البقرة: ١٨٥]، وغيرُها مِنَ الآيات، ومِنَ السنَّة: قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ» [رواه البخاريُّ معلَّقًا (١/ ٩٣)]، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» [أخرجه البيهقيُّ في «السنن الكبرى » (٥٤١٥). وصحَّحه الألبانيُّ في «إرواء الغليل» (٣/ ٩)].

ومِنْ الرُّخَص المبنيَّة على أعذار العباد: رخصةُ الجمع بين الصلاتين في الحضر بسبب المطر؛ ففي حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ، فِي غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا مَطَرٍ» [أخرجه مسلمٌ (٧٠٥)]، وعن نافعٍ «أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ ـ إِذَا جَمَعَ الْأُمَرَاءُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي الْمَطَرِ ـ جَمَعَ مَعَهُمْ» [أخرجه مالكٌ في «الموطَّإ» (٢/ ١٩٩)]، وعن موسى بن عقبة «أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ إِذَا كَانَ الْمَطَرُ، وَأَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَأَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَشْيَخَةَ ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَهُمْ وَلَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ» [أخرجه البيهقيُّ في «السنن الكبرى» (٥٥٥٨)]، وقد تتابعَتْ مذاهبُ أمَّة الإسلام على العمل بهذه السنَّة جيلًا بعد جيلٍ، وقرَّروها في مصنَّفاتهم، ومِنْ ذلك أئمَّةُ المالكية، قال ابنُ العربيِّ المالكيُّ ـ رحمه الله ـ في [«القَبَس في شرح موطَّإ مالك بنِ أنس» (٣٢٧)]: «ولا يَطمئِنُّ إلى الجمع ولا يفعله إلَّا جماعةٌ مُطمئِنَّةُ النفوس بالسنَّة، كما أنه لا يكع [أي: يجبن ويضعف] عنه إلَّا أهلُ الجفاء والبداوة».

هذا، وإنَّ أبا عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ وإدارةَ موقعه لَيَستنكِرُون مِنَ البيان الصادر مِنْ وزارة الشؤون الدِّينية والأوقاف، والقاضي بمنع الجمع بين الصلوات في حالِ نزول المطر أو وقوع الثلج، والمُصادِم للسنَّة الفعلية، والمُنافي لِمَا عليه عملُ الأمَّة الإسلامية، ويتعجَّبون مِنْ حظرِ إقامةِ سنَّةٍ مِنْ سُنَنه صلَّى الله عليه وسلَّم في بيوت الله بإحداثِ قولٍ خارجٍ عن المذهب الفقهيِّ الذي تعتمده الجهةُ الوصيَّةُ مرجعًا لها دون غيره، وهو مذهب مالك الذي ـ كثيرًا ـ ما تُدندِنُ الوزارةُ حوله.

وإنَّ مِنْ واجب التواصي بالخير: تذكيرَ أصحابِ القرار ـ وفَّقهم الله ـ أنَّ مِنْ نِعَم الله الجليلةِ على المسلم أَنْ يوفِّقه للعمل في حراسةِ دِينه الحنيف، والذبِّ عن سنَّةِ نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، والعملِ على إحيائها، وأَنْ يُقيمَه في مَنْصِبٍ يحصل له به شرفُ خدمةِ هذا الدِّينِ العظيم، ورعايةِ مصالحه القائمة على الخير والنفع الدنيويِّ والأخرويِّ.

علمًا أنه لا تعارضَ بين إعمالِ سنَّة الجمع لعذرِ المطر رفعًا للحرج، وبين استبقاءِ المسجد مفتوحًا ـ لزومًا ـ إلى وقت صلاة العشاء الأصليِّ لمَنْ أراد العملَ بالعزيمة؛ فيتحقَّق ـ بذلك كما لا يخفى ـ التوفيقُ والجمع بين المصلحتين، وفي كِلَيْهما خيرٌ، سواءٌ لمَنْ فضَّل العزيمةَ أو لمَنْ أخَذ بالرخصة.

وفَّق اللهُ المسؤولين في وزارة الشؤون الدِّينية والأوقاف ـ القائمين على التوجيه والقرار ـ لِمَا فيه عزُّ الإسلام والمسلمين، ونصرُ السنَّة وإحياؤها، والدعوةُ إليها على بصيرةٍ وهُدًى، لا مبدِّلين لدِين الله ولا مغيِّرين لشرعِه، ﴿رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا ٢٣[الأحزاب].

وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٢٢ جمادى الأولى ١٤٣٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٠٨ فيفري ٢٠١٨م