الفتوى رقم: ٣٢٤

الصنف: فتاوى اللِّباس والزِّينة

في حكم تحلِّي الرجال بالفضَّة

السؤال:

ما حكمُ لُبْسِ القلائد والأَسْوِرةِ للرجال مِنْ غير الذهب، وخاصَّةً إِنْ كانَتْ مِنْ فضَّةٍ؟ فإِنْ كان ـ يا شيخَنا ـ جوابُكم بعدم الجواز لعلَّةِ التشبُّه بالنساء فهنا يمكن أَنْ تقع شُبْهةٌ وهي: عدَمُ وجودِ دليلٍ على أنَّ الأسورة والقلائد خاصَّةٌ بالنساء فقط، وكذلك يمكن أَنْ يقول القائلُ: كيف يَحْرُم ذلك على الرجال وقد وَعَدَ النبيُّ عليه السلامُ سُرَاقَةَ رضي الله عنه بأَسْوِرَةِ كسرى؟ فلو كان الحكمُ المنعَ لَقالَ النبيُّ عليه السلامُ ذلك، والمعلومُ أنَّ النبيَّ عليه الصلاة والسلام لا يمكن أَنْ يؤخِّر البيانَ عن وقت الحاجة، وقد جاء في السيرة أنَّ عمر بنَ الخطَّاب رضي الله عنه لمَّا فَتَحَ المدائنَ وَفَى بعهد النبيِّ لسُراقةَ رضي الله عنه وأعطاهُ الأَسْوِرة. وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فلم يَرِدْ في حِلْيةِ الفضَّة ما يمنع جوازَها عند الرجال، بل الأصولُ العامَّةُ تقضي بالإباحة والجواز، ومِنْ عموماتِ هذه الأصولِ: قولُه تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا[البقرة: ٢٩]، وقولُه تعالى: ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ﴾ [الأنعام: ١١٩]، وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُحَلِّقَ حَبِيبَهُ حَلْقَةً مِنْ نَارٍ فَلْيُحَلِّقْهُ حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَوِّقَ حَبِيبَهُ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَلْيُطَوِّقْهُ طَوْقًا مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُسَوِّرَ حَبِيبَهُ سِوَارًا مِنْ نَارٍ فَلْيُسَوِّرْهُ سِوَارًا مِنْ ذَهَبٍ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِالْفِضَّةِ فَالْعَبُوا بِهَا»(١)، والحديث يُفيدُ الجوازَ مِنْ حيث النهيُ عن الذهب بالدليل الناقل عن الأصل الأوَّل، ومِنْ حيثُ إباحةُ الفضَّةِ بالدليل المقرِّر لها، فضلًا عن أنَّ لفظة: «عليكم بالفضَّة» موجَّهٌ ـ ابتداءً ـ للرجال فلا يُمْنَعُ إلَّا ما دلَّ الدليلُ على المنع، ولم يَثْبُتْ هذا المنعُ سوى في الأكل والشرب في آنية الذهب والفضَّة، أمَّا استعمالُهُما في غيرِ هذين الموضعين فيَفتقِرُ القولُ بالتحريم إلى دليلٍ، غير أنَّ التحلِّيَ بالذهب يخصِّصُ الذكورَ بالتحريم؛ لحديثِ أبي هريرة رضي الله عنه السابق، ولحديثِ عليٍّ رضي الله عنه قال: «أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرِيرًا بِشِمَالِهِ وَذَهَبًا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ رَفَعَ بِهِمَا يَدَيْهِ فَقَالَ: «إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، حِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ»»(٢)، وتبقى الفضَّةُ على الأصل السابق.

غير أنه حريٌّ التنبيهُ والإشارة إلى وجوب التفريق ـ في هذه المسألة ـ بين مُطْلَقِ التحلِّي وخصوصِ التحلِّي، والقولُ بالتشبُّه بالنساء في مُطْلَقِ التحلِّي مُصادَرةٌ على المطلوب؛ إذ يقتضي المُطْلَقُ عَدَمَ تَناوُلِ النساء بالتخصيص، بل الرجال والنساء فيه سواءٌ مطلقًا، سواءٌ كان عينُ الحِلْية فضَّةً أو لؤلؤًا أو ياقوتًا أو زُمُرُّدًا؛ لقوله تعالى: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلۡبَحۡرَ لِتَأۡكُلُواْ مِنۡهُ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَا﴾ الآية [النحل: ١٤]، والمعلومُ أنَّ المستخرَجَ مِنَ البحر جملةٌ مِنَ الحُلِيِّ المعدنية منها: اللؤلؤ والمرجان وغيرُهما، فلا يَمتنِعُ ـ شرعًا ـ أَنْ يتحلَّى بما لم تَجْرِ عادةُ النساء بلُبْسِه كالمِنْطَقة وطوق الدرع والسيف مِنَ الفضَّة وغيرِها؛ فهذا مِنْ خصوصِ لباس الرجال يَمتنِعُ على المرأةِ لُبْسُه، أمَّا ما جَرَتْ عادةُ النساء بلُبْسِه في أعناقهنَّ وأيديهنَّ وأرجلهنَّ وآذانهنَّ ونحوِ ذلك كالخلخال والسِّوار والقُرْط والسلسلة ونحوِ ذلك؛ فيُعَدُّ هذا مِنْ خصوصِ تحلِّي النساء؛ فهو ممنوعٌ على الرجال، ويُستثنى منه الخاتمُ لورودِ دليل الاستثناء، وعلَّةُ المنعِ التشبُّهُ؛ فقَدْ «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ»(٣)، و«لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلَ يَلْبَسُ لِبْسَةَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لِبْسَةَ الرَّجُلِ»(٤)، ومِنْ هنا يظهر جليًّا عدمُ المنافاة بين إباحة مُطْلَقِ التحلِّي وتحريمِ خصوصه.

أمَّا الشبهةُ المذكورةُ في سؤالكم مِنْ عدمِ وجودِ دليلٍ على أنَّ الأَسْوِرَة والقلائد خاصَّةٌ بالنساء مع العلم أنَّ الطوق والسِّوارَ وغيرَهما كانَتْ معروفةً عند العرب وغيرِ العرب مِنَ الأُمَمِ السابقة؛ لقوله تعالى: ﴿وَٱتَّخَذَ قَوۡمُ مُوسَىٰ مِنۢ بَعۡدِهِۦ مِنۡ حُلِيِّهِمۡ عِجۡلٗا جَسَدٗا لَّهُۥ خُوَارٌ[الأعراف: ١٤٨]، وقولِه تعالى: ﴿فَلَوۡلَآ أُلۡقِيَ عَلَيۡهِ أَسۡوِرَةٞ مِّن ذَهَبٍ أَوۡ جَآءَ مَعَهُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ مُقۡتَرِنِينَ ٥٣[الزخرف]؛ فجوابُه مِنْ وجوهٍ:

١. أنَّ العرب كانَتْ ترى المرأةَ ناقصةً يَكْمُلُ نَقْصُها بِلُبْسِ الحُلِيِّ منذ أَنْ تكون صبيَّةً ليَجْبُرَ ما فيها مِنْ نَقْصٍ؛ لذلك قال تعالى مُنْكِرًا على المشركين ما افترَوْهُ وكَذَبُوه ونسبوه إلى جنابِ الله العظيم غايةَ الإنكار: ﴿أَوَمَن يُنَشَّؤُاْ فِي ٱلۡحِلۡيَةِ وَهُوَ فِي ٱلۡخِصَامِ غَيۡرُ مُبِينٖ ١٨[الزخرف]، والذي يُكْسَى بالحِلْية منذ الصغر إنَّما هنَّ الإناثُ للعلَّة السابقة.

٢. وأنَّ العرب كانَتْ ترى أنَّ إكمال المظهر والصورة بلُبْسِ الحُلِيِّ تزويرٌ للحسن، وهو جديرٌ بالمرأة لِمَا يعتريها مِنْ نقصٍ، كما قال بعضُ شُعَراءِ العرب:

وَمَا الحِلْيُ إِلَّا زِينَةٌ مِنْ نَقِيصَةٍ *** يُتَمِّمُ مِنْ حُسْنٍ إِذَا الحُسْنُ قَصَّرَا

وَأَمَّا إِذَا كَانَ الجَمَالُ مُوَفَّرًا *** كَحُسْنِكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يُزَوَّرَا

٣. وممَّا يؤكِّدُ أنَّ التظاهر بالتحلِّي والحُلِيِّ خروجٌ عن عهدة الرجالِ وتشبُّهٌ بالنساء، ولا يحصل به إرهابُ عدوٍّ حالَ القتال: قولُ أبي العتاهية في ابنِ مَعْنِ بنِ زائدة:

فَمَا تَصْنَعُ بِالسَّيْفِ * إِذَا لَمْ تَكُ قَتَّالَا

فَكَسِّرْ حِلْيَةَ السَّيْفِ * وَصُغْ مِنْ ذَاكَ خَلْخَالَا

٤. أنَّه لم يَثبتِ التزيُّنُ بالحُلِيِّ ـ فيما جَرَتْ عادةُ النساء بلُبْسِه ـ في زمن الوحي أو بعده سوى ما قدَّمْنا؛ إذ لو ثَبَتَ لَنُقِلَ إلينا.

أمَّا القصَّةُ المذكورة عن سراقة رضي الله عنه ـ على نحوِ ما أوردتموهُ في السؤال ـ فلو صحَّ هذا لَكان تحصيلُه للأَسْوِرة على سبيل الغنيمة والتملُّك، ولا يَلْزَمُ منه التحلِّي؛ لاحتمالٍ قويٍّ أَنْ تكون هذه الأَسْوِرةُ مِنْ ذهبٍ؛ لأنَّ الموعود به ينبغي أَنْ يكون عظيمَ الفائدةِ وثمينَ القيمة يتجسَّدُ في أغلى مَعْدَنٍ، وإذا تَقرَّرَ ذلك فلا يخفى تحريمُ تحلِّي الرجال بالذهب بالنصوص الناهية عنه.

ولو فرَضْنا كونَ الموعودِ به يمثِّلُ الذهبَ والفضَّةَ فلا يَلْزَمُ منه التحلِّي به، وهذا لا يُنافي التملُّكَ كما تَقدَّمَ، أرأيتَ أنَّ الرجل يَرِثُ تَرِكةَ زوجتِه المتمثِّلة في الأَسْوِرة والخلخال وغيرِها مع أنه لا يتحلَّى بها؟ ذلك لأنَّ الإرث سببُ التملُّك؛ الشأنُ في ذلك كمَنْ يشتري حِلْيةً مِنْ ذهب يصحُّ بيعُه وتنتقل الملكيةُ إليه، ولا يَلْزَمُ مِنْ تملُّكِه جوازُ التحلِّي به.

هذا، وفي حديثِ عليٍّ رضي الله عنه قال: أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلَّةٌ سِيَرَاءُ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَيَّ فَلَبِسْتُهَا؛ فَعَرَفْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: «إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ بِهَا إِلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا، إِنَّمَا بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ لِتُشَقِّقَهَا خُمُرًا بَيْنَ النِّسَاءِ»(٥)، وكذلك حَصَلَ مع عمر بنِ الخطَّاب رضي الله عنه عندما «لَبِسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا قَبَاءً مِنْ دِيبَاجٍ أُهْدِيَ لَهُ ثُمَّ أَوْشَكَ أَنْ نَزَعَهُ، فَأَرْسَلَ بِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقِيلَ لَهُ: «قَدْ أَوْشَكَ مَا نَزَعْتَهُ يَا رَسُولَ اللهِ»، فَقَالَ: «نَهَانِي عَنْهُ جِبْرِيلُ»؛ فَجَاءَهُ عُمَرُ يَبْكِي فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، كَرِهْتَ أَمْرًا وَأَعْطَيْتَنِيهِ؛ فَمَا لِي؟» قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُعْطِكَهُ لِتَلْبَسَهُ، إِنَّمَا أَعْطَيْتُكَهُ تَبِيعُهُ»، فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ» الحديث(٦)، ووجهُ الدلالة مِنَ الحديثين السابقين: أنَّ مع وجود الهديَّةِ المقدَّمة إليهما فلا يَلْزَمُ مِنْ ذلك الإذنُ في لُبْسِها، وعليه فمثلُ الأمرِ الحاصلِ لسُراقةَ رضي الله عنه لا يحتاج إلى بيانٍ؛ للعلم به ولأنه لم يُنْقَلْ عنهم ـ ألبتَّةَ ـ التحلِّي بما هو مِنْ خصوصيَّات النساء.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

 



(١) أخرجه أبو داود في «الخاتم» بابُ ما جاء في الذهب للنساء (٤٢٣٦) مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «آداب الزفاف» (ص ٢١٧).

(٢) أخرجه ابنُ ماجه في «اللباس» بابُ لُبْسِ الحرير والذهب للنساء (٣٥٩٥، ٣٥٩٧)، وأخرج أوَّلَه أبو داود في «اللباس» بابٌ في الحرير للنساء (٤٠٥٧)، والنسائيُّ في «الزينة» بابُ تحريمِ الذهب على الرجال (٥١٤٤، ٥١٤٥، ٥١٤٦، ٥١٤٧)، مِنْ حديثِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٢٢٧٤).

(٣) أخرجه البخاريُّ في «اللباس» باب: المتشبِّهون بالنساء، والمتشبِّهات بالرجال (٥٨٨٥) مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما.

(٤) أخرجه أبو داود في «اللباس» بابٌ في لباس النساء (٤٠٩٨) مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٥٠٩٥).

(٥) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الهِبَة» بابُ هديةِ ما يُكْرَهُ لُبْسُها (٢٦١٤)، ومسلمٌ في «اللباس والزينة» (٢٠٧١)، مِنْ حديثِ عليٍّ رضي الله عنه.

(٦) أخرجه مسلمٌ في «اللباس والزينة» (٢٠٧٠) مِنْ حديثِ جابرٍ رضي الله عنه.

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)