الفتوى رقم: ٥٠

الصنف: فتاوى الصلاة - المساجد

إلقاء السلام على المصلِّين في المسجد

السؤال:

هل يجوز إلقاءُ السلامِ على المُصَلِّين في المسجدِ وهم يُصَلُّون صلاةَ الجماعة؟ وهل هذا جائزٌ في صلاةِ النفل والفرض؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فإذا حُمِلَتْ روايةُ أبي هريرةَ رضي الله عنه عند أبي داود على بناءِ لفظةِ: «تسليمَ» للفتح في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا غِرَارَ فِي صَلَاةٍ وَلَا تَسْلِيم»(١)؛ يكون ذلك اللَّفظُ معطوفًا على لفظِ: «غِرَارَ»، ومعناه: لا نَقْصَ ولا تسليمَ في الصلاةِ لورودِ النهي عن الكلام في الصلاةِ بغيرِ كلامها، وذلك في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ اللهَ جَلَّ وَعَزَّ قَدْ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ»، قال ابنُ مسعودٍ ـ رحمه الله ـ: «فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ»(٢).

غيرَ أنَّ المعهودَ أُصوليًّا أنَّ «النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ تُفِيدُ الْعُمُومَ»، ويقتضي ذلك تَناوُلَ تسليمِ المُصَلِّي على المُصَلِّي، ورَدِّ المُصَلِّي على مَن سَلَّم عليه، كما يَشْمَلُ تسليمَ غيرِ المُصَلِّي على المُصَلِّي كما هو ظاهرٌ مِن تفسيرِ الإمامِ أحمدَ لهذا الحديثِ بقوله: «أَنْ لَا تُسَلِّمَ وَلَا يُسَلَّمَ عَلَيْكَ..»(٣).

لكنَّ هذا العمومَ غيرُ مرادٍ؛ لقيامِ دليلِ تخصيصِ صورةِ تسليمِ غيرِ المُصَلِّي على المُصَلِّي بالإقرار، ورَدِّ المُصَلِّي عليه بالإشارةِ مِن فِعْلِه صلَّى الله عليه وسلَّم، وذلك في عِدَّةِ أحاديثَ منها: حديثُ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال: «خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قُبَاءَ يُصَلِّي فِيهِ، قَالَ: فَجَاءَتْهُ الأَنْصَارُ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي، قَالَ: فَقُلْتُ لِبِلَالٍ: «كَيْفَ رَأَيْتَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ حِينَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي؟» قَالَ: «يَقُولُ هَكَذَا»، وَبَسَطَ كَفَّهُ»، وَبَسَطَ جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ كَفَّهُ وَجَعَلَ بَطْنَهُ أَسْفَلَ، وَجَعَلَ ظَهْرَهُ إِلَى فَوْقٍ(٤)، وفي حديثٍ آخَرَ عن صهيبٍ رضي الله عنه أنَّه قال: «مَرَرْتُ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ يُصَلِّي ـ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ إِشَارَةً»، قَالَ ـ أي: الراوي ـ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ: «إِشَارَةً بِأُصْبُعِهِ»(٥).

ففي هذه الأحاديثِ دليلٌ على جوازِ تسليمِ غيرِ المُصَلِّي على المُصَلِّي حيث إنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم سَلَّموا عليه مِن غيرِ نكيرٍ منه، بل وافَقَهم عليه بأَنْ ردَّ السلامَ بالإشارة، ولا يُقال عن هذه الأحاديثِ: إنها خاصَّةٌ بالنفل دون الفرض لورودِ العموم في لفظِ: «الصلاة» عند قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا»(٦)، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ»(٧)، وهو شاملٌ للنفل والفرض، وإلَّا فإنَّه يَلْزَمُ نسخُ الكلامِ في صلاة النفلِ دون الفرض، ولا شكَّ أنَّ اللَّازمَ باطلٌ والملزومُ مثلُه.

هذا ـ وإن كان السلامُ على المُشْتغِلِ بالصلاةِ جائزًا ويكفيه الرَّدُّ بالإشارة كما يجوز له أن يردَّ بعد فراغِه مِن صلاته، على نحوِ ما ثَبَتَ عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه ـ إلَّا أنَّه يُكْرَه الإكثارُ مِن السلام على المُصَلِّي وتَرْدادُه عليه مع كُلِّ داخلٍ إلى المسجد أو تَكرارُه عليه مع كُلِّ مارٍّ عليه؛ لأنَّ المُصَلِّيَ يُناجي ربَّه بالقرآن والذِّكر والدعاء؛ الأمرُ الذي يستدعي الاستغراقَ في خدمته؛ فلا يصحُّ الاشتغالُ بغيره لقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا»؛ لذلك لا تُقاسُ حالةُ غيرِ الصلاة على الصلاة للفارق بينهما. قال النَّوويُّ ـ رحمه الله ـ: «إنَّ وظيفةَ المُصَلِّي الاشتغالُ بصلاته وتَدَبُّرُ ما يقوله؛ فلا ينبغي له أن يُعَرِّجَ على غيرِها».

والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

 


(١) أخرجه أبو داود في «الصلاة» باب ردِّ السلام في الصلاة (٩٢٨)، والحاكم (٩٧٢)، وأحمد (٩٩٣٧)، والطحاويُّ في «مشكل الآثار» (١٥٩٧)، مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصحَّحه الشيخ الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٣١٨).

(٢) أخرجه أبو داود في «الصلاة» بابُ ردِّ السلامِ في الصلاة (٩٢٤)، والنسائيُّ في «السهو» بابُ الكلام في الصلاة (١٢٢١)، مِن حديث عبد الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه. وصحَّحه الشيخ الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (١٧٠٠)، وأورده البخاريُّ معلَّقًا في «التوحيد» بابُ قول الله تعالى: ﴿كُلَّ يَوۡمٍ هُوَ فِي شَأۡنٖ ٢٩[الرحمن].

(٣) ذَكَرَ هذا القولَ أبو داود في «سُنَنه» بعد حديثِ: «لَا غِرَارَ فِي صَلَاةٍ وَلَا تَسْلِيم» رقم: (٩٢٨).

(٤) أخرجه أبو داود في «الصلاة» بابُ رَدِّ السلامِ في الصلاة (٩٢٧) عن ابنِ عمر رضي الله عنهما. وانظر: «الصحيحة» (١/ ٢/ ٦٣٣) رقم: (١٨٥).

(٥) أخرجه أبو داود في «الصلاة» بابُ رَدِّ السلام في الصلاة (٩٢٥)، والنسائيُّ في «السهو» بابُ رَدِّ السلامِ بالإشارة في الصلاة (١١٨٦)، والترمذيُّ في «مواقيت الصلاة» بابُ ما جاء في الإشارة في الصلاة (٣٦٧)، مِن حديث صهيبٍ رضي الله عنه.وصحَّحه الشيخ الألبانيُّ في «صحيح أبي داود» (٨٥٨).

(٦) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الجمعة» باب: لا يَرُدُّ السلامَ في الصلاة (١٢١٦)، ومسلمٌ في «المساجد ومواضع الصلاة» (٥٣٨)، مِن حديث عبد الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه.

(٧) جزءٌ مِن الحديث السابق: «إِنَّ اللهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ»، انظر: الهامش رقم: (٢).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)