الفتوى رقم: ٤٠٧

الصنف: فتاوى المعاملات المالية - الميراث

في الوصية الإجبارية (مسألة التَّنْزِيل)

السـؤال:

لرجلٍ ثلاثة أولاد وست بنات، توفي أحد أولاده تاركًا ولدين وثلاث بنات، وتوفيت إحدى بناته تاركة بنتين، وتوفي بعدهم ذاك الرجل، فهل للأحفاد حقّ في ميراث جدِّهم؟ وما هي أنصبتهم؟ وهل القانون المعمول به يوافق الحكم الشرعي؟

الجـواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:

فإن أوصى الجد لأحفاده أو للأقارب الذين لا يرثون قبل وفاته فإنَّ الوصية تنفَّذ -وجوبًا- بشرطين:

الأول:أن لا تزيد الوصية على ثُلُث التركة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم لسعد بن أبي الوقاص رضي الله عنه: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ»(١)، وهذا الحديث قَيَّد إطلاقَ الآية في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة:١٨٠].

والثاني: أن يكون مال الموصي الذي تركه كثيرًا وافرًا لقوله تعالى: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ [البقرة: ١٨٠]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث سعد بن أبي الوقاص رضي الله عنه المتقدِّم: «إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ».

والعلماءُ يختلفون في حكم الوصية بناءً على اختلافهم في آية الوصية: هل هي منسوخة بآية المواريث أم محكمة؟

وما عليه جمهور أهل العلم انتفاء مستند الوصية الواجبة، ويظهر ذلك في أنَّ آية الوصية في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة:١٨٠] منسوخة بآية الميراث مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»(٢)، وبهذا قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم -أي بالنسخ- وذهب بعضهم إلى نسخ الوجوب ونفي الندب، وذهبت طائفة إلى القول بأنَّ آية الوصية محكمة، وهي وإن كانت عامَّة فمعناها الخصوص والمراد بها من الوالدين من لا يرث كالأبوين الكافرين، ومن الأقربين ما عدا الورثة منهم، فالوصية جائزة في حقِّهم، بل يرى بعض الفقهاء كابن حزم والطبري وأبي بكر بن عبد العزيز من الحنابلة أنَّ الوصية واجبة ديانةً وقضاءً للوالدين والأقربين الذين لا يرثون لحجبهم عن الميراث، أو لمانعٍ يمنعهم من الإرث كاختلاف الدين، فإن لم يوص الميت للأقارب شيئًا وجب على الورثة أو على الوصيّ إخراج شيء غيرِ محدَّد المقدار من مال الميت وإعطاؤه لغير الوارثين من الأقارب.

والمختار وجوب الوصية في حقِّهم بالشرطين السابقين؛ لأنَّ الأصل عدم النسخ، وليس بين آية الوصية وآية الميراث تعارض إذا ما حملت على الجمع، و«الجَمْعُ أَوْلَى مِنَ النَّسْخِ الاِحْتِمَالِي» على الراجح من أقوال الأصوليِّين، ووجه التوفيق أنَّه تحمل آية الوصية على من لا يرث كالأبوين الكافرين والأقربين ما عدا الورثة منهم، وآية الميراث مع ضميمة حديث: «لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» تُحْمَلان على الورثة من الوالدين والأقربين، وبذلك يتم إعمال الدليلين معًا، وهو أولى من إهمالهما أو إهمال أحدهما.

أمَّا إن لم يوصِ الجدُّ للأحفاد والأقارب شيئًا فلهم أن ينتفعوا عن طريق ورثة الجد من أعمامهم أو من غيرهم بهبة مقتطعة تمثِّل قدرًا غير معيَّنٍ ولا محدَّدٍ من أصل تركة الجد لفائدتهم على وجه الاستحباب.

علمًا أنَّ ما تقضي به عموم المحاكم الحالية في الوصية الإجبارية (التَّنْزيل) من أنَّ أولاد الابن أو البنت إذا تحقَّقت وفاتهما في حياة أبيهما فإنَّ أولاد الابن يُنَزَّلُونَ مَنْزِلةَ أبيهم في الإرث فَيُعْطَوْنَ نصيب أبيهم، وكذلك أولاد البنت فيُنَزَّلُونَ مَنْزِلة أُمِّهم، ويعطونهم نصيب أُمِّهم بشرط أن لا تزيد الوصية في حَقِّهم عن ثلث التركة ولو لم يُوصِ لهم الجد بشيءٍ من المال، فإنَّ هذا الحكم لم يشهد على صِحَّته دليلٌ شرعيٌّ، بل فيه اجتراءٌ على شرع الله بتحكيم شرع غيره واعتداءٌ صريحٌ على الحقوق المالية للورثة.

أمَّا الوصية بالتطوُّعات والقربات فحكمها الاستحباب لمن أراد كثرة الأجر والتطوُّع، عِلمًا بأنَّ الوصية قد تعتريها الأحكام الأخرى فقد تكون الوصية محرَّمة فيما إذا كان فيها إضرار، أو قد تكون مكروهة أو مباحة على نحو ما بيَّنه الصنعاني -رحمه الله- وغيره.

والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى الله على نبيّْنا محمَّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١ ربيع الثاني ١٤٢٧ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٩ أفريل ٢٠٠٦م


(١) أخرجه البخاري في «الوصايا» (٢/ ٢٣) باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكفَّفوا الناس، ومسلم (٢/ ٧٦٧) في «الوصية» رقم (١٦٢٨)، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

(٢) أخرجه الترمذي في «الوصايا» (٢٢٦٦)، وابن ماجه في «الوصايا» (٢٨١٨)، من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وحسَّنه ابن عبد البر في «التمهيد» (٢٤/ ٤٣٩)، وابن الملقن في «البدر المنير» (٧/ ٢٦٣)، وقال ابن حجر -رحمه الله- في «الدراية في تخريج أحاديث الهداية» (٢/ ٢٩٠): «إسناده قوي»، وحسَّنه في «التلخيص الحبير»: (٣/ ١٠٨٢)، وصحَّحه الألباني في «سنن أبي داود» برقم (٣٥٦٥).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)