Skip to Content
الجمعة 19 رمضان 1445 هـ الموافق لـ 29 مارس 2024 م

التحرير والبيان
في حكمِ مَنْ أفطر عمدًا في رمضان

أوَّلًا: نصُّ الحديث:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكْتُ»، قَالَ: «مَا لَكَ؟» قَالَ: «وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ»، [وفي روايةِ عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَصَبْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ(١)]، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟» قَالَ: «لَا»، قَالَ: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟» قَالَ: «لَا»، فَقَالَ: «فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟» قَالَ: «لَا»، قَالَ: فَمَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ ـ وَالعَرَقُ: المِكْتَلُ ـ قَالَ: «أَيْنَ السَّائِلُ؟» فَقَالَ: «أَنَا»، قَالَ: «خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ»، فَقَالَ الرَّجُلُ: «عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللهِ؟! فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا ـ يُرِيدُ الحَرَّتَيْنِ ـ أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي»، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: «أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» متَّفَقٌ عليه(٢).

ثانيًا: ترجمة راوي الحديث:

هو الصحابيُّ الجليل الحافظ المُكْثِرُ أبو هريرة رضي الله عنه، المعروفُ بكنيته، اخْتُلِفَ في اسْمِه على نحوِ ثلاثين قولًا، وأَشْهَرُها: عبد الرحمن بنُ صخرٍ الدَّوْسيُّ، مِن دَوْسِ بنِ عدنانَ بنِ عبد الله بنِ زهران، مِنَ اليمن، أَسْلَمَ عامَ خَيْبَرَ سنةَ سبعٍ مِنَ الهجرة، وقَدِمَ المدينةَ مُهاجِرًا وسَكَنَ الصُّفَّة، وكان قد شَهِدَ خَيْبَرَ مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ثمَّ لَزِمَه ووَاظَبَ عليه رغبةً في العلم، ويقول أبو هريرة رضي الله عنه مُحدِّثًا عن نَفْسِه: «لقد رأيتُني أُصْرَعُ بين منبرِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وحُجْرةِ عائشة، فيقال: مجنونٌ، وما بي جُنونٌ، وما بي إلَّا الجوعُ».

وقد كان رضي الله عنه أَكْثَرَ الصحابةِ روايةً وأوَّلَهم على الإطلاق، وله في كُتُبِ الحديث أربعةٌ وسبعون وثلاثُمائةٍ وخمسةُ آلافِ حديثٍ (٥٣٧٤)(٣)، وله فضائلُ ومَناقِبُ.

وقد استعمله عُمَرُ بنُ الخطَّاب رضي الله عنه على البحرين ثمَّ عَزَلَه، ثمَّ أرادَهُ على العمل فامتنع، وسَكَنَ المدينةَ ووَلِيَ إمرتَها ونابَ عن مروان في إمرتها، وبها كانَتْ وفاتُه سنةَ سبعٍ وخمسين مِنَ الهجرة (٥٧ﻫ)، وقِيلَ: مات بالعقيق وحُمِلَ إلى المدينة، وصلَّى عليه الوليدُ بنُ عتبة بنِ أبي سفيان، وكان أميرًا على المدينة لعمِّه مُعاوية بنِ أبي سفيان رضي الله عنهما(٤).

ثالثًا: الروايات ومُختلِفُ الحديث:

• جاء في رواية الحديث: «هَلَكْتُ» وفي بعضِ طُرُقه زيادةُ: «وَأَهْلَكْتُ»(٥)، أي: التي وَطِئْتُها، وفي بعضها: «مَا أُرَانِي إِلَّا قَدْ هَلَكْتُ»(٦).

وفي روايةِ عائشة رضي الله عنها في «الصحيحين» بلفظِ: «احْتَرَقْتُ»(٧)، وهذه الروايةُ تفسِّر الهلاكَ المتقدِّم في نصِّ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه، وكُلٌّ مِنَ العبارات مجازٌ عن الإثم الذي يؤدِّي إلى الهلاك والاحتراق، وكأنه لمَّا اعتقد أنَّ فاعِلَ الإثمِ ومُرتكِبَ المعصيةِ يُعذَّب بالنار أطلق على نفسه أنه احترق لذلك؛ فكان الهلاكُ أو الاحتراق أثرًا عن المعصية المُفْضِية إليه؛ فكأنه جَعَل المتوقَّع في المآل كالواقع في الحال، وبالَغَ في ذلك حيث عبَّر عنه بلفظ الماضي(٨).

• قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَا لَكَ؟»: وَقَع في بعضِ طُرُق الحديث: «وَمَا أَهْلَكَكَ؟»(٩)، وفي بعضها: «وَيْحَكَ مَا شَأْنُكَ؟»(١٠)، وفي بعضها: «وَيْحَكَ مَا صَنَعْتَ؟»(١١)؛ فهذه الروايات كُلُّها تُفيدُ معنَى الاستفهام عن حالِ الرجل السائل الخائف والتعرُّف على أمره، و«الويحُ»: كلمةُ رحمةٍ تُقالُ لمَنْ وَقَع في مهلكةٍ لا يَستحِقُّها فيترحَّم عليه ويرثي له، و«الويلُ»: كلمةُ عذابٍ تُقالُ لمَنْ يَستحِقُّها(١٢)، وقد رجَّح ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ كلمةَ: «ويحك» لأنها أنسبُ في المعنى وأليقُ بالمَقام(١٣).

• وروى مالكٌ ـ رحمه الله ـ الحديثَ عن ابنِ شهابٍ به نحوَه، إلَّا أنه قال: «أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ»، لم يذكر فيه الوطءَ أو الوِقاع، وقال: «فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُكَفِّرَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ، أَوْ صِيَامِ شَهْرَيْنِ [مُتَتَابِعَيْنِ]، أَوْ إِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا»(١٤)، هكذا على التخيير لا على الترتيب.

وقد ذَهَب الجمهورُ إلى أنَّ إفطارَ ذلك الرجلِ كان بجماعٍ؛ حملًا لمطلقِ «أفطر» على قيد الوِقاع الذي دلَّ عليه حديثُ الباب والرواياتُ الأخرى التي هي الأكثرُ عددًا.

وظاهرُ الحديثِ أنَّ وجوب الكفَّارة على الترتيب: الإعتاقُ أوَّلًا، فإِنْ عجز انتقل إلى الصيام ثانيًا، ثمَّ ـ أخيرًا ـ إِنْ عَجَز فإلى الإطعام، وروايةُ الحديث على التخيير بين الخِصال الثلاث لا تقوى على النهوض؛ لأنَّ أكثرَ مِنْ ثلاثين راويًا عن الزهريِّ اتَّفقوا على أنَّ الرواية على الترتيب، وأنَّ الإفطار كان بالجماع، وروايةُ الأكثر مقدَّمةٌ ـ كما تقرَّر في قواعد الترجيح ـ لأنَّ معهم زيادةَ علمٍ، ومَنْ عَلِم حجَّةٌ على مَنْ لم يعلم، فضلًا عمَّا في الترتيب مِنَ الأخذ بباب الاحتياط في الدِّين.

هذا، وقد رجَّح ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ روايةَ الترتيب بقوله: «بل روى الترتيبَ عن الزهريِّ كذلك تمامُ ثلاثين نفسًا أو أزيدُ، ورُجِّح الترتيب ـ أيضًا ـ بأنَّ راويَه حكى لفظَ القصَّةِ على وجهها؛ فمعه زيادةُ علمٍ مِنْ صورة الواقعة، وراوي التخيير حكى لفظَ راوي الحديث؛ فدلَّ على أنه مِنْ تصرُّفِ بعض الرُّواة، إمَّا لقصدِ الاختصار أو لغير ذلك، ويترجَّح الترتيبُ ـ أيضًا ـ بأنه أحوطُ؛ لأنَّ الأخذ به مجزئٌ، سواءٌ قلنا بالتخيير أو لا، بخلاف العكس»(١٥).

وقد حاول بعضُ العلماء الجمعَ بين رواية الترتيب والتخيير، بحمل الترتيب على الأولوية والتخييرِ على الجواز، وعَكَسه بعضُهم، وذَهَب آخَرون إلى الجمع بينهما بحملهما على تعدُّد الواقعة، وهو جمعٌ بعيدٌ؛ «لأنَّ القصَّة واحدةٌ والمَخْرَجَ متَّحِدٌ، والأصل عدمُ التعدُّد»(١٦)، علمًا أنَّ الطحاويَّ ـ رحمه الله ـ جَزَم بأنَّ التخيير في الحديث مِنْ كلام الزهريِّ(١٧)، قال ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ: «ذَكَر الطحاويُّ أنَّ سببَ إتيانِ بعضِ الرُّواة بالتخيير أنَّ الزهريَّ راويَ الحديث قال ـ في آخِرِ حديثه ـ: «فصارَتِ الكفَّارةُ إلى عِتقِ رقبةٍ أو صيامِ شهرين أو الإطعام»؛ قال: فرواهُ بعضُهم مُختصَرًا مُقتصِرًا على ما ذَكَر الزهريُّ أنه آلَ إليه الأمرُ»(١٨).

• قوله: «أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» على البناء للمجهول وهو جوابُ «بينا»، والرجلُ الآتي لم يُسمَّ، ووَقَع في روايةٍ للبخاريِّ: «فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ»(١٩)، وفي أخرى للدارقطنيِّ: «رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ»(٢٠)، قال ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ: «فإِنْ لم يُحْمَلْ على أنه كان حليفًا للأنصار أو إطلاقِ الأنصار بالمعنى الأعمِّ وإلَّا فروايةُ الصحيحِ أصحُّ»(٢١).

• وَقَع في بعضِ طُرُقِ حديثِ عائشة رضي الله عنها عند مسلمٍ: «فَجَاءَهُ عَرَقَانِ فِيهِمَا طَعَامٌ»(٢٢)، والمشهورُ في غيرها عَرَقٌ، وهو ما رجَّحه البيهقيُّ(٢٣)، وذَهَب غيرُه إلى الجمع بينهما بتعدُّد الواقعة وهو بعيدٌ ـ كما سبق بيانُه ـ لأنَّ القصَّةَ واحدةٌ ومَخْرَجَ الحديث متَّحِدٌ، والأصل عدمُ التعدُّد إلَّا بدليلٍ أو قرينةٍ صارفةٍ عن هذا الأصل وهي مُنتفِيَةٌ.

وقد وفَّق الحافظُ ـ رحمه الله ـ بينهما بقوله: «والذي يظهر أنَّ التمر كان قَدْرَ عَرَقٍ، لكنَّه كان في عَرَقين في حال التحميل على الدابَّة ليكون أسهلَ في الحمل فيحتمل أنَّ الآتيَ به ـ لمَّا وَصَل ـ أفرغ أحَدَهما في الآخَر، فمَنْ قال: «عَرَقان» أراد ابتداءَ الحال، ومَنْ قال: «عَرَق» أراد ما آلَ إليه»(٢٤).

 وَرَد تعيينُ مقدارِ ما في المِكْتَل مِنَ التمر في غير الصحيحين، غيرَ أنه وَقَع اختلافُ الروايات في تحديد المقدار، فجاء في بعضها أنَّ فيه «خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا»(٢٥)، وذلك ستُّون مُدًّا؛ لأنَّ الصاعَ أربعةُ أمدادٍ، وفي بعضها الجزمُ بعشرين صاعًا(٢٦)، وفي أخرى: «فيه خَمْسَةَ عَشَرَ أَوْ عِشْرُونَ»(٢٧)، كما وَقَع في مُرْسَلِ عطاء بنِ أبي رباحٍ: «فَأَمَرَ لَهُ بِبَعْضِهِ»(٢٨)، قال ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ: «وهذا يجمع الرواياتِ؛ فمَنْ قال: «إنه كان عشرين» أراد أصلَ ما كان فيه، ومَنْ قال: «خمسة عشر» أراد قَدْرَ ما تقع به الكفَّارةُ، ويبيِّن ذلك حديثُ عليٍّ رضي الله عنه عند الدارقطنيِّ: «تطعم ستِّين مسكينًا، لكُلِّ مسكينٍ مُدٌّ»، وفيه: «فأُتِيَ بخمسةَ عَشَرَ صاعًا فقال: أطعِمْه ستِّين مسكينًا»(٢٩)»(٣٠).

• وقوله : «حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ»، ووَقَع في بعض الروايات: «حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ»(٣١)، وفي بعضها: «حَتَّى بَدَتْ ثَنَايَاهُ»(٣٢)، قال عنها ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ: «ولعلَّها تصحيفٌ مِنْ أنيابه؛ فإنَّ الثنايا تَبِينُ بالتبسُّم غالبًا، وظاهِرُ السياق إرادةُ الزيادة على التبسُّم»(٣٣).

رابعًا: غريب الحديث ومُفْرَداته:

• رجل: كذا أُبْهِم في روايات الحديث، ولم تقع تسميتُه في شيءٍ منها، وذَكَر عبد الغنيِّ بنُ سعيدٍ ـ رحمه الله ـ أنه سلمانُ أو سَلَمة بنُ صخرٍ البياضيُّ رضي الله عنه(٣٤)، واعتمد ـ في تعيين التسمية ـ على ما أخرجه ابنُ أبي شيبة وغيرُه عن سلمة بنِ صخرٍ أنه ظاهَرَ مِنِ امرأته في رمضان وأنه وطِئَها، وجاءَتْ صفةُ الكفَّارة مماثِلةً لِمَا في حديث الباب، وجَزَم الفاكهانيُّ ـ رحمه الله ـ بأنَّ السائل هو سَلَمةُ بنُ صخرٍ البياضيُّ رضي الله عنه(٣٥).

ولا يخفى أنَّ واقعةَ مَنْ أفطر في رمضان بالجماع في حديث الباب غيرُ واقعةِ الرجل المُظاهِر؛ فهُما واقعتان مختلفتان؛ فإنَّ الأوَّل كان صائمًا وواقع أهلَه في نهارِ رمضان، بخلافِ سَلَمةَ بنِ صخرٍ فقَدْ واقع أهلَه ليلًا في ضوء القمر فاختلفا، ولا يَلْزَم ـ مِنِ اجتماعهما في بعض الوجوه: ككونهما مِنْ بني بياضة، أو في صفة الكفَّارة، أو مجيئِها مرتَّبةً، أو كونِ كُلٍّ منهما لا يستطيع شيئًا مِنْ خصالها ـ اتِّحادُ القصَّتين وتلاقي الواقعتين(٣٦).

• «بينما» و«بينا» مِنَ الظروف الزمانية لازمةِ الإضافة إلى جملةٍ اسميةٍ غالبًا، وتتلقَّى «بينما» ﺑ «إذ» تارةً وﺑ «إذا» تارةً أخرى اللَّتَيْن للمفاجأة، فإذا تجرَّدَتْ مِنْ «ما» وأصبحت «بينا» فلا تتلقَّى بواحدةٍ منهما، وقد جاءَتْ كُلٌّ منهما وَفْقَ هذه القاعدةِ في الحديث، حيث قال: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ»، ثمَّ قال: «فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، فتلقَّى «بينما» ﺑ «إذ» ولم يقل في «بينا»: «إذ»، وقِيلَ غيرُ ذلك(٣٧).

• «وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي»: أي: جامعتُها أو وَطِئْتُها مختارًا عالمًا ـ وأنا صائمٌ ـ(٣٨).

• «هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟»، وفي لفظٍ: «هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟»: العتقُ خلافُ الرِّقِّ، وهو الحرِّيَّة، والمعنى: تخليصُ الرقبة، سواءٌ عبدًا كانَتْ أو أمَةً مِنَ الرِّقِّ، فيصير حرًّا فيخرج عن المملوكية(٣٩)، وأُطْلِقَتِ الرقبةُ، ويراد بها النفسُ كاملةً، مِنْ باب إطلاق الجزء وإرادةِ الكُلِّ، وهو مِنْ قبيل المجاز المُرْسَل، وخُصَّتِ الرقبةُ دون سائر البدن لأنَّ الرِّقَّ كالغُلِّ في رقبتِه يمنعه مِنَ التصرُّف؛ فإذا عَتَق تحرَّرَتْ رقبتُه مِنْ ذلك الغُلِّ(٤٠).

• المسكين: مِنَ السكون، وهو مَنْ أسكنَتْه الحاجةُ والفقر، فلا يجد كفايةً عامَّةً مِنَ النفقة، وجديرٌ بالتنبيه: أنه ليس ثمَّةَ فرقٌ بين المسكين والفقير ـ مِنْ حيث الحاجةُ ـ في استحقاق الزكوات والصدقات والكفَّارات ونحوها؛ فالاسمان: المسكينُ والفقيرُ إذا أُفْرِد أحَدُهما دَخَل فيه الآخَرُ؛ لأنَّ كِلَيْهما مِنْ أهل الحاجة الذين يُشْرَع في حقِّهم التصدُّقُ عليهم وإخراجُ الكفَّارة لهم؛ أمَّا إذا اقترن أحَدُهما بالآخَرِ فإنه يدلُّ أحَدُ الاسمين على بعض أنواعِ ذوي الحاجات والآخَرُ على باقيها، مثل الإيمان والإسلام(٤١)، فإنهما إذا اجتمعا في اللفظ افترقا في المعنى، وإِنِ افترقا في اللفظ اجتمعا في المعنى(٤٢).

• «بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ»: والعَرَق المِكْتَلُ، وهو الزِّنبيل أو الزَّبيل، وأصلُه القُفَّةُ والسفيفةُ تُنْسَج مِنَ الخُوص، وسُمِّيَ عَرَقًا لأنه جمعُ عَرَقة، وهي الضفيرة الواسعة(٤٣).

والعَرَق يَسَعُ خمسةَ عَشَرَ صاعًا أو عشرين صاعًا ـ كما تقدَّم قريبًا ـ(٤٤).

• «لابتَيْها»: تثنيةُ «لابة»: الحَرَّة، وهي أرضٌ ذاتُ حجارةٍ سوداءَ بركانيةٍ، وتُجْمَع على لاباتٍ، والمدينةُ النبوية تقع بين لابتين: شرقيةٍ وتُسمَّى: حرَّةَ الوَبْرة، وغربيةٍ وتُسمَّى: حَرَّةَ واقِمٍ، والمعنى ما بين طَرَفَيِ المدينة وجانبَيْها(٤٥).

• «حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ»: والأنياب جمعُ نابٍ، وهي الأسنان الملاصقة للرَّباعِيَات، وسببُ ضحكِه صلَّى الله عليه وسلَّم كان مِنْ تغايرِ حال السائل؛ فقَدْ جاء ـ في الحال الأولى ـ خائفًا على نفسه مِنَ الهلاك، راغبًا في فدائها فيما وَسِعه وقَدَر عليه، فلمَّا وَجَد الرخصةَ ـ في الحال الثانية ـ طَمِع في أَنْ يأكل ما أُعطِيَه مِنَ الكفَّارة.

ويحتمل أنَّ سببَ ضحِكِه صلَّى الله عليه وسلَّم كان مِنْ عمومِ خطابه، وما كان عليه حُسْنُ بيانه عند مقاطع الكلام، وجميلِ تلطُّفه في ألفاظه وعباراته، وما توسَّل بمظاهر أحواله ليتوصَّل إلى مقصوده.

وظاهر السياق أنه وَقَع منه ضحكٌ يزيد على التبسُّم ويَستغرِقُه، والأَوْلى حملُ ما وَرَد في صِفَته صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ أنَّ ضحِكَه كان التبسُّمَ(٤٦)، إنما كان ذلك في غالب الأحوال(٤٧).

خامسًا: الفوائد والأحكام المُستنبَطة مِنَ الحديث:

الحديث أصلٌ عظيمٌ في حكمِ مَنْ يتعدَّى حدودَ الله في الصوم وينتهك حُرُماتِه فيه، تضمَّن جملةً كثيرةً مِنْ أحكامٍ ومسائلَ مُهِمَّةٍ، كما احتوى على فوائدَ تربويةٍ وتعليميةٍ عديدةٍ، نبيِّن أهمَّها فيما يلي:

١ ـ قوله: «نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»: فيه حُسْنُ أدبٍ باختيار الكلمة المناسبة للمَقام في التعبير؛ لأنَّ العندية تتضمَّن المعيَّةَ وتُشْعِر بالتعظيم والتشريف(٤٨).

٢ ـ وفيه: الجلوس في المسجد لغير الصلاة مِنَ المصالح الدينية كالتوجيه ونشر العلم والنصيحة(٤٩).

٣ ـ استُدِلَّ بقوله: «هَلَكْتُ» وفي الرواية الأخرى: «احْتَرَقْتُ» على أنَّ الوطء عمدًا في نهارِ رمضانَ حرامٌ شرعًا، ويُعَدُّ مِنِ انتهاك الشهر الكريم، ومِنَ الفواحش الكبار المُهْلِكات المُوجِبة للكفَّارة وللاحتراق(٥٠)؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أقرَّه على أنَّ فِعْلَه هذا مُهْلِكٌ، وأوجب عليه الكفَّارةَ المغلَّظة(٥١).

٤ ـ وفيه: الندمُ على المعصية، واستشعارُ الخوف، والْتِماسُ المَخْرَج، والمبادرةُ بفعل ما يُذْهِب الإثمَ مِنِ استغفارٍ وتوبةٍ وكفَّارةٍ وغيرِها، كما قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ ١٣٥[آل عمران](٥٢).

٥ ـ وفيه: جوازُ إخبارِ الرجل بما يقع منه مع أهله للحاجة.

٦ ـ قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَا لَكَ؟» وفي بعض الطُّرُقِ: «مَا الَّذِي أَهْلَكَكَ؟»: فيه ضرورةُ استفسارِ العالم عن حقيقةِ ما يُلْقيهِ السائلُ والمستفتي، كي تُطابِق الفتوى فحوى السؤال ولا تخرجَ عن حيثياته وقيودِه.

٧ ـ وفيه: أنه يجوز للإنسان أَنْ يشكوَ حالَه مِنْ غيرِ تسخُّطٍ، ويُلِحَّ في الطلب على أهل الفضل والعلم ممَّنْ يستطيع مساعدتَه في الخروج مِنْ مُصيبته وبلواهُ، وتداركِ خطئه ومعصيته، مِنْ غيرِ تعنيف التائب على ما وَقَع مِنْ ذنبِه وخطيئته(٥٣).

٨ ـ وفيه: الرفقُ بالمتعلِّم والتلطُّفُ في التعليم، والتأليف في الدين، وذلك ظاهرٌ مِنْ تصرُّف النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وحُسْنِ خُلُقه، حيث لم يعنِّف السائلَ لأنه جاء تائبًا، بل ترفَّق به وتدرَّج معه مِنْ خصلةٍ إلى أخرى حتَّى تألَّفه بإعطائه العَرَقَ(٥٤).

٩ ـ استُدِلَّ بالحديث «على أنَّ مَنِ ارتكب معصيةً لا حَدَّ فيها وجاء مُستفتِيًا: أنه لا يُعاقَبُ ولا يُعزَّر؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يعاقبه مع اعترافه بالمعصية»(٥٥)، وقد ترجم البخاريُّ لذلك بابًا وأشار إلى هذه القصَّةِ في الحدود بقوله: «باب: مَنْ أصاب ذنبًا دون الحدِّ فأخبر الإمامَ فلا عقوبةَ عليه بعد التوبة إذا جاء مُستفتِيًا»(٥٦)، قال ابنُ دقيق العيد ـ رحمه الله ـ في توجيهِ هذا الاستدلالِ مِنْ جهة المعنى: «إنَّ مجيئه مُستفتِيًا يقتضي الندمَ والتوبة، والتعزيرُ استصلاحٌ، ولا استصلاحَ مع الصلاح، ولأنَّ مُعاقبةَ المستفتي تكون سببًا لتركِ الاستفتاء مِنَ الناس عند وقوعهم في مثلِ ذلك، وهذه مفسدةٌ عظيمةٌ يجب دفعُها»(٥٧).

هذا، وما ذَهَب إليه بعضُهم مِنْ أنه يُعزَّر على سوءِ صنيعه(٥٨) ﻓ «هو محمولٌ على مَنْ لم يقع منه ما وَقَع مِنْ صاحبِ هذه القصَّةِ مِنَ الندم والتوبة»(٥٩).

١٠ ـ واستُدِلَّ بالحديث على وجوب الكفَّارة على الناسي، وهو منقولٌ عن أحمد وبعضِ المالكية(٦٠)، ووجهُ الاحتجاج بالحديث: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أوجبها عند السؤال مِنْ غيرِ استفصالٍ بين كون الجماع وَقَع عن عمدٍ أو نسيانٍ، و«تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي مَقَامِ الِاحْتِمَالِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ العُمُومِ فِي المَقَالِ وَيَحْسُنُ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ»، ومذهبُ الجمهور أنه لا تجب الكفَّارةُ على الناسي(٦١)، وأجابوا عن هذا الاستدلالِ بأنه قد تَبيَّن حالُه بقوله: «هَلَكْتُ» و«احْتَرَقْتُ»، فضلًا عن لطمِ وجهِه ونتفِ شعره(٦٢) وضربِ نحره وصدره كما جاء في رواياتٍ أخرى؛ فإنه يُشْعِر بتعمُّدِه ظاهرًا ومعرفتِه بالتحريم.

وأمَّا تركُ الاستفصال فإنما يَشْمَل تلك الأحوالَ المختلفة المقارِنةَ، لا لأنَّ الناسيَ كالعامد لقيام الفوارق بينهما؛ ذلك لأنَّ الناسيَ ليس له فعلٌ أو لا يصحُّ نسبةُ الفعل إليه لعدمِ وجودِ قصدٍ وإرادةٍ، وإنما يُنْسَبُ الفعلُ للفاعل إذا قَصَده، ويُلْحَقُ به الجاهلُ والمُكْرَهُ(٦٣)، هذا مِنْ جهةٍ.

ومِنْ جهةٍ أخرى: فإنَّ دخول النسيان في الجماع في نهارِ رمضانَ لا يُتصوَّر؛ لذلك كان طرحُه في غاية البعد(٦٤)؛ لأنَّ «حالة النسيان بالنسبة إلى الجماع، ومحاولةِ مقدِّماته، وطولِ زمانه، وعدم اعتباره في كُلِّ وقتٍ؛ ممَّا يبعِّد جريانَه في حالة النسيان، فلا يحتاج إلى الاستفصال بناءً على الظاهر»(٦٥).

١١ ـ واستُدِلَّ بالحديث على إيجاب الكفَّارة على مَنْ أفسد صيامَه مطلقًا بأيِّ شيءٍ كان، وهو قولُ المالكية؛ عملًا بروايةِ مالكٍ ـ رحمه الله ـ، وفيها أنه قال: «أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ»، ولم يُذْكَر فيه وطءٌ أو وِقاعٌ، وذلك بخلاف الجمهور الذين استندوا إلى الرواية الأخرى وهي قولُه: «وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي»؛ فحملوا مُطْلَقَ قوله: «أفطر» على مقيَّد الوطء فكأنه قال: أفطر بجماعٍ(٦٦). والمسألةُ تحتاج إلى تفصيلٍ أتناولُه في فقه الحديث لاحقًا.

١٢ ـ وفي الحديث أنَّ الوطء عمدًا يُوجِبُ كفَّارةً مغلَّظةً وهي مرتَّبةٌ في الحديث مثل الظِّهار: عتقُ رقبةٍ أوَّلًا، فإِنْ لم يجد وَجَب عليه صيامُ شهرين متتابِعَيْن ثانيًا، فإِنْ لم يستطع وَجَب عليه إطعامُ ستِّين مسكينًا ثالثًا، وعلى ذلك مذهبُ الجمهور، خلافًا لمالكٍ فهي ـ عنده ـ على التخيير، وقد تقدَّم ـ قريبًا ـ أنَّ رواية الترتيب أرجحُ مِنْ رواية التخيير(٦٧).

١٣ ـ الحديث دلَّ بظاهره أنَّ الكفَّارة لا تتحقَّق إلَّا بإحدى الخصال الواردة في النصِّ وهي: الإعتاقُ والصوم والإطعام، ولا مَدْخَلَ لغيرِ هذه الخصالِ في الكفَّارة.

وخالف بعضُهم فأدخل البَدَنةَ عند تعذُّرِ رقبةٍ يُعتقِها، وقد وَرَد ذلك في روايةِ عطاءٍ الخراسانيِّ عن سعيد بنِ المسيِّب، وهي روايةٌ ضعيفةٌ أنكرها سعيد بنُ المسيِّب نفسُه على عطاءٍ(٦٨).

١٤ ـ واستُدِلَّ بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟» على جوازِ إعتاقِ الرقبة الكافرة في الكفَّارة؛ لإطلاقِ لفظ الرقبة في الحديث مِنْ غيرِ تقييدٍ بالإيمان، وهو مذهبُ الحنفية(٦٩)، بخلاف الجمهور فاشترطوا في إجزاء الرقبة في الكفَّارةِ الإيمانَ لورودِ تقييدها في كفَّارة القتل، فيُحْمَل المطلقُ على المقيَّد(٧٠)؛ جريًا على ما تقرَّر أصوليًّا(٧١) مِنْ جهةٍ، ولأنَّ مقصود الشرع بالعتق ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ إنما هو فكُّ الرِّقاب مِنْ أغلال الرِّقِّ وتحريرُهم منها ليتفرَّغوا للعبادة وتعظيمِ شعائر الإسلام ومشاعره ونصرِ المسلمين، وهذا المعنى مفقودٌ في حقِّ الكافر(٧٢).

١٥ ـ في الحديث التنصيصُ على إيجاب التتابع في صيام الشهرين، خلافًا لمَنْ أجاز التفريقَ، والحديثُ حجَّةٌ عليه(٧٣).

١٦ ـ وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟»: نصٌّ صريحٌ في الدلالة على استيعابِ هذا العدد، أي: أنه لو أطعم أقلَّ منهم لا يُجْزِئه، وبه قال عامَّةُ الفقهاء.

وذَهَب الحنفيةُ إلى أنه لو أطعم مسكينًا واحدًا ستِّين يومًا صحَّتْ كفَّارتُه وبرِئَتْ ذِمَّتُه؛ لأنَّ الحاجة تتجدَّد مع الفرد وتتكرَّر مع الواحد كما لو أطعم ستِّين مسكينًا.

والحديث بنصِّه حجَّةٌ على الحنفية مِنْ وجوهٍ:

الأوَّل: أنَّ النصَّ صريحٌ في العدد بنفسه مِنْ غيرِ احتمالٍ، وحكمُه أَنْ يُصارَ إليه ولا يُعْدَل عنه إلَّا بنسخٍ.

الثاني: أنَّ التعليل بعلَّةِ الإطعام عملٌ بعلَّةٍ مُستنبَطةٍ يعود على ظاهر معنَى النصِّ وهو «الستِّين» بالرفع والإبطال، ولا يخفى أنَّ مِنْ شرط العلَّة المُستنبَطةِ أَنْ لا تُخالِفَ نصًّا ولا إجماعًا، أو تعود على أحَدِهما بالهدم والإبطال ـ كما تقرَّر ذلك أصوليًّا ـ(٧٤).

الثالث: ولأنَّ الحديث أضاف الإطعامَ إلى ستِّين مسكينًا، ولا يكون موجودًا في حقِّ مَنْ قال: يُطعِم عشرين مسكينًا ثلاثةَ أيَّامٍ؛ لِمَا فيه مِنْ جعل المعدوم في الحديث وهو طعامُ ستِّين مسكينًا بمثابة المذكور وهو إطعامُ ستِّين مسكينًا(٧٥).

١٧ ـ دلَّ الحديث بظاهره على أنَّ طعام الكفَّارة مُدٌّ لكُلِّ مسكينٍ، لا يجوز أقلُّ منه، ولا يجب أكثرُ؛ لأنَّ خمسةَ عَشَرَ صاعًا إذا قُسِمَتْ بين ستِّين مسكينًا كان لكُلِّ واحدٍ منهم مُدٌّ، وهو مذهبُ مالكٍ والشافعيِّ وأحمد(٧٦)؛ لأنَّ العَرَق وهو المِكْتَلُ يَسَعُ خمسةَ عَشَرَ صاعًا كما جاء في بعض الروايات وذلك ستُّون مُدًّا؛ لأنَّ الصاع أربعةُ أمدادٍ، ويبيِّن ذلك حديثُ عليٍّ رضي الله عنه عند الدارقطنيِّ: «فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا، لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا»، قَالَ: «مَا أَجِدُ»، فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، قَالَ: «أَطْعِمْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا»(٧٧).

وذَهَب الحنفيةُ وأهل الرأي إلى أنه يجب أَنْ يُطْعِم كُلَّ مسكينٍ نصفَ صاعٍ مِنَ البُرِّ أو صاعًا مِنْ غيره على اختلافٍ فيما بينهم، وذلك في جميع الكفَّارات(٧٨)؛ عملًا بخبرِ سَلَمة بنِ صخرٍ رضي الله عنه في كفَّارة الظِّهار، وروى سليمان بنُ يسارٍ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال لسَلَمة: «فَانْطَلِقْ إِلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْهَا إِلَيْكَ، فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ»(٧٩).

١٨ ـ استدلَّ الشافعيةُ والظاهرية بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أفرد الرجلَ بالخطاب في الأمر بالكفَّارة ولم يذكر له حُكْمَ المرأة، بل سَكَت عن إعلام المرأة بوجوب الكفَّارة عليها مع قيام الحاجة إلى ذلك؛ فدلَّ على عدمِ وجوب الكفَّارة على المرأة؛ لأنَّ «تَأْخِيرَ البَيَانِ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ لَا يَجُوزُ»(٨٠).

وذَهَب الجمهورُ إلى أنَّ على المرأة كفَّارةً ـ أيضًا ـ إِنْ طاوعَتْه؛ لأنها انتهكَتْ ـ بمُطاوعَتِها ـ حرمةَ الصيام؛ لذلك وجبَتْ عليها الكفَّارةُ بهذه الصفةِ فهُما في الحكم سواءٌ.

وقد أجاب الجمهورُ عن الحديث في عدمِ تناولِ المرأة بالذِّكر بأجوبةٍ منها:

ـ القول بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يُعْلِم المرأةَ بوجوب الكفَّارة عليها مع الحاجة إلى إعلامها غيرُ مسلَّمٍ؛ لأنَّ الحاجة إلى إعلامها تكون ماسَّةً إذا ثَبَت ـ في حقِّها ـ الوجوبُ، ولم يثبت؛ لأنها لم تعترف بسبب الكفَّارة، وإقرارُ الرجل عليها لا يُوجِبُ عليها حكمًا.

ـ ولأنَّ بيان الحكم للرجل هو ـ في حدِّ ذاته ـ بيانٌ في حقِّها؛ لاشتراكهما في تحريم الفطر وانتهاكِ حرمة الصيام ما لم يمنع مانعٌ؛ ذلك لأنَّ التنصيص على الحكم في حقِّ بعض المكلَّفين كافٍ عن ذِكْره لبقيَّتهم؛ لأنَّ الشريعة سوَّتْ بين الناس في الأحكام إلَّا في مواضعَ قام عليها دليلُ التخصيص، وهذا إذا كانَتْ مُطاوِعةً، فإِنْ كانَتْ مُكْرَهةً فصيامُها صحيحٌ ولا قضاءَ عليها؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»(٨١)، هذا مِنْ جهةٍ.

وعدمُ ذِكْر النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم للسائل حُكْمَ المرأة ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ أشبهُ بعدمِ أمرِه له بالغُسْل لرفعِ الجنابة مع وجوبه عليه.

ـ السكوت لا يدلُّ على عدم الكفَّارة؛ لاحتمالِ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم عَرَف مِنْ كلامِ زوجها بأنها كانَتْ مُكْرَهةً لا قدرةَ لها على شيءٍ، أو لاحتمالِ أَنْ تكون المرأةُ ممَّنْ لا تجب عليها الكفَّارةُ بهذا الوطء، إمَّا لعُذْرِ مرضها أو سفرها أو صِغَرها أو جنونها، أو لكونها ناسيةً لصومها، أو نائمةً فحكمها حكم المُحتلِمة، أو لعُذْرِ حيضها أو طهارتها مِنَ الحيض، وغيرها مِنَ الاحتمالات والأعذار الطارئة على المرأة، ولعلَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يبيِّنْ ذلك ـ في حقِّها ـ لعلمِه بأنَّ هذه الأعذارَ السابقة لا تُوجِبُ على المرأة كفَّارةً(٨٢).

١٩ ـ وفيه: أدبُ المفتي، ويتجَّلى في بيانه صلَّى الله عليه وسلَّم الجوابَ للسائل بيانًا مُزيلًا للإشكال، متضمِّنًا لفصل الخطاب، كافيًا في حصول المقصود، لا يُوقِعُ السائلَ في الإشكال والحيرة.

٢٠ ـ قوله: «خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ»: فيه تعاونٌ صادقٌ على العبادة، وهو داخلٌ في التعاون الأخويِّ المبنيِّ على البرِّ والتقوى المأمورِ به شرعًا في قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢[المائدة].

٢١ ـ وفيه: السعي إلى تخليص المسلم ممَّا هو فيه مِنَ الحاجة، وإسداء العطاء للواحد فوق حاجته الراهنة.

٢٢ ـ وفي قول الرجل: «عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي؟» قَبولُ قولِ المكلَّفِ وخبرِه ممَّا لا يُطَّلَعُ عليه إلَّا مِنْ قِبَله، مع احتمالِ وجود قرينةٍ أو شهادةٍ لصدقِه(٨٣).

٢٣ ـ وفيه: جوازُ الإخبار عمَّا لا يحيط به علمًا مِنْ باب غلبة الظنِّ، كما في قوله: «مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي»، وإلَّا فإنَّ اليقين الذي عُرِف بالاعتبار لا يَسَعُ إثباتُه إلَّا بالبحث والملاحظة، كأَنْ يدخل بيتًا بيتًا ليلاحظ حاجتَهم ويُقارِن بينها وبين حاجته(٨٤).

٢٤ ـ وفيه: جواز الضحك(٨٥) عند وجودِ أسبابه(٨٦)، وظاهرُ الحديث: إرادةُ الزيادة على التبسُّم ـ كما تقدَّم ـ(٨٧).

٢٥ ـ قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ»: فإنَّ ظاهر الحديث يُفيدُ أنَّ السائل لمَّا كان عاجزًا عن نفقةِ أهله جاز أَنْ يصرف الكفَّارةَ لهم، غير أنَّ المعنى الذي دلَّ عليه الحديثُ بظاهره ليس مَحَلَّ اتِّفاقٍ، بل تباينَتْ فيه مذاهبُ العلماء في تأويل الحديث فمنها:

ـ أنَّ الحديث دلَّ على سقوط الكفَّارة بالإعسار المقارِنِ لوجوبها؛ لأنَّ الكفَّارة لا تُصْرَفُ إلى النفس ولا إلى العيال، والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يبيِّن له استقرارَ الكفَّارة في ذِمَّته إلى حين اليسار، و«تَأْخِيرُ البَيَانِ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ لَا يَجُوزُ»؛ فلَزِمَ ـ مِنْ مجموعِ ذلك ـ سقوطُ الكفَّارة بالإعسار المقارِنِ لسببِ وجوبها.

وهذا أحَدُ قولَيِ الشافعيِّ، وأُيِّد ذلك بالاستشهاد بصدقة الفطر حيث تسقط بالإعسار المقارِنِ لسببِ وجوبها وهو استهلالُ هلالِ الفطر(٨٨).

ـ أنَّ الحديث لا يدلُّ على سقوط الكفَّارة بالإعسار المقارِنِ أو العجز عنها، وهو مذهبُ الجمهور، وهو الصحيح مِنْ مذهب الشافعيِّ؛ لأنَّ الأصل بقاءُ ذِمَّته مشغولةً بالكفَّارة، وما أُذِن له في التصرُّف فيه ليس على سبيل الكفَّارة.

وقد اختلف أهلُ هذا المذهبِ في توجيهِ أكلِ صاحب القصَّة مِنَ التمر اختلافًا كثيرًا، فمنهم مَنِ ادَّعى الخصوصيةَ بهذا الرجل لوحده، ومنهم مَنِ ادَّعى النسخَ، ومنهم مَنْ قال غيرَ ذلك(٨٩).

ولعلَّ أقرب الأجوبة إلى الصواب أنه لمَّا قال للرجل: «خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ» لم يقبض الرجلُ التمرَ، ثمَّ أخبر النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه أحوجُ الناسِ إليه فأَذِن له في أكله في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «كُلْهُ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ»(٩٠)؛ فاتَّضح أنَّ الإعطاء لم يكن على جهة الكفَّارة، بل كان الإعطاء على جهة التصدُّق عليه وعلى أهله لِمَا ظَهَر مِنْ حاجتهم، وبقِيَتِ الكفَّارةُ في ذِمَّته غيرَ ساقطةٍ لمَّا ثَبَت وجوبُها في أوَّل الحديث، وما ثَبَت في الذِّمَّة يجوز أَنْ يتأخَّر للإعسار والعجز عنها ولا يسقط.

أمَّا ما استظهروا به مِنْ قاعدةِ: «تأخيرِ البيان عن وقت الحاجة» فجوابُه مِنْ زاويتين:

الأولى: أنَّ سكوته صلَّى الله عليه وسلَّم عن بقاء الكفَّارة في ذِمَّته لتقدُّمِ علمه بوجوبها عليه في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟» وفي لفظٍ: «أَعْتِقْ رَقَبَةً»(٩١)، والأصلُ بقاءُ ما كان على ما كان، وهو أقوى مِنَ السكوت، ولم يَرِدْ في الحديث ـ أيضًا ـ ما يدلُّ على إسقاط الكفَّارة عنه، غايةُ ما في الأمر أنه لمَّا أخبر النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعجزه أمَره بإخراج العَرَق، وهو يؤكِّد بقاءَ الكفَّارة لا سقوطَها عن العاجز أو المُعْسِر.

الثانية: ولعلَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أخَّر البيانَ إلى وقت الحاجة وهو القدرة، ولا يخفى أنَّ تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائزٌ عند الجمهور وهو الصحيح، بخلافِ تأخير البيان عن وقت الحاجة فغيرُ جائزٍ؛ لأنه يؤدِّي إلى التكليف بما لا يُطاقُ، وهو ممتنِعٌ شرعًا(٩٢).

٢٦ ـ وفيه: جوازُ النيابة في الكفَّارة وتأديتِها مِنْ غير المطالَبِ بها، فتبرَأُ ذِمَّتُه ولو أدَّاها عنه أجنبيٌّ؛ لجواز النيابة في العبادات المالية، لكِنْ بشرطِ علم المكفَّر عنه لأنها عبادةٌ تحتاج إلى نيَّةٍ(٩٣).

٢٧ ـ قال البغويُّ ـ رحمه الله ـ: «وفيه دليلٌ على أنَّ العبرة في الكفَّارات بحالة الأداء، وهو قولُ أكثرِ العلماء وأظهرُ قولَيِ الشافعيِّ؛ لأنَّ الرجل ـ حالةَ ارتكاب المحظور ـ لم يكن له شيءٌ، فلمَّا تصدَّق عليه أمَره بأَنْ يكفِّر، فلمَّا ذَكَر حاجتَه أخَّرها عليه إلى الوجد»(٩٤).

٢٨ ـ لم يقع في «الصحيحين» الأمرُ بقضاء اليوم الذي أفسده المجامِعُ؛ فاستدلَّوا بذلك على سقوطِ قضائه، وهو محكيٌّ في مذهب الشافعية.

أمَّا مذهب الجمهور فعلى وجوبِ قضاءِ ذلك اليومِ الذي أَفْسَده، ولا يدخل في صيام الشهرين عن الكفَّارة، وقد استدلُّوا بقوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَ[البقرة: ١٨٤، ١٨٥]، ولورود الأمر بالقضاء ـ في هذا الحديث ـ في غير «الصحيحين» مِنْ أوجهٍ عديدةٍ يتبيَّن ـ مِنْ مجموعها ـ أنَّ لهذه الزيادةِ أصلًا، منها: قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «صُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ»(٩٥)، وقوله: «صُمْ يَوْمًا وَاسْتَغْفِرِ اللهَ»(٩٦)، ويُؤْخَذُ مِنْ قوله: «صُمْ يَوْمًا» عدمُ اشتراط الفورية للتنكير في قوله: «يومًا»، كما أنَّ فيه بيانًا أنَّ قضاء ذلك اليومِ لا يدخل في صيام الشهرين عن الكفَّارة(٩٧).

سادسًا: مواقف العلماء مِنَ الحديث:

اتَّفق العلماءُ: الأئمَّةُ الأربعةُ وغيرُهم على أنَّ مَنْ وَطِئَ في رمضانَ عامدًا ذاكرًا لصومه وهو مُقيمٌ فقَدْ عصى اللهَ تعالى، وتَلْزمُه التوبةُ ـ كما تقدَّم(٩٨) ـ ويُعزَّرُ على سوءِ صنيعِه، وإِنْ كان نَوَى مِنَ الليل فقَدْ فَسَد صومُه وعليه الكفَّارةُ(٩٩)، سواءٌ أنزلَ أو لم يُنْزِل(١٠٠).

كما «اتَّفَقوا على أنَّ مَنْ تَعمَّد الأكلَ والشرب صحيحًا مقيمًا في يومٍ مِنْ شهرِ رمضانَ أنه يجب عليه القضاءُ»(١٠١)، ولكنِ اختلفوا في حكمِ مَنْ أفطر فيه بأكلٍ أو شربٍ عامدًا طائعًا مُقيمًا مِنْ غيرِ خطإٍ ولا نسيانٍ ولا إكراهٍ ولا سفرٍ: هل تَلْزَمه الكفَّارةُ أم لا؟ على عدَّةِ أقوالٍ(١٠٢) أشهرُها مذهبان.

وسأتناول هذين المذهبين وأسوقُ أدلَّةَ الفريقين مع المناقشة والتفنيد، ثمَّ أختم المسألةَ ببيانِ سببِ الخلاف فيها، ثمَّ ترجيحِ المذهب المختار على الوجه التالي:

أ) مذاهب العلماء:

اختلف العلماء ـ في هذه المسألة ـ على مذهبين مشهورين هما:

الأوَّل: أنَّ المفطر في نهارِ رمضانَ بأكلٍ أو شربٍ عامدًا طائعًا تَلْزَمه الكفَّارةُ، وهو مذهبُ الحنفية(١٠٣) والمالكية(١٠٤).

فأمَّا الحنفية فيُوجِبون الكفَّارةَ في حقِّ مَنْ أَفْطر بأكلٍ أو شربٍ عامدًا، غذاءً أو دواءً(١٠٥).

وأمَّا المالكية فيُوجِبون الكفَّارةَ بكُلِّ فطرٍ على وجه الهتك سوى الرِّدَّة(١٠٦).

الثاني: أنَّ المفطر في نهارِ رمضانَ بأكلٍ أو شربٍ عامدًا مِنْ غيرِ جماعٍ لا تَلْزَمه الكفَّارةُ، وهو مذهبُ الشافعية(١٠٧) والحنابلة(١٠٨).

علمًا أنه يَلْزَمه القضاءُ ـ إجماعًا ـ عند الفريقين ـ كما تقدَّم(١٠٩) ـ.

ب) أدلَّة مذاهب العلماء:

أتناول أدلَّةَ القائلين بلزوم الكفَّارة على مَنْ أفطر في نهارِ رمضانَ بأكلٍ أو شربٍ عامدًا أوَّلًا، ثمَّ أَستتبِعُه ـ ثانيًا ـ بأدلَّةِ المانعين مِنَ الكفَّارة النافين لوجوبها على ما يأتي:

١) أدلَّة القائلين بلزوم الكفَّارة:

استدلَّ الحنفية والمالكية ومَنْ وافقهم على لزوم الكفَّارة على مَنْ أفطر في نهارِ رمضانَ بأكلٍ أو شربٍ عامدًا طائعًا مُقيمًا، بالسنَّة والأثر والقياس.

• أمَّا بالسنَّة: فاستدلُّوا بما يلي مِنَ الأحاديث:

ـ بما رُوِي عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ [مُتَعَمِّدًا] فَعَلَيْهِ مَا عَلَى المُظَاهِرِ»، والحديثُ غريبٌ بهذا اللفظ كما صرَّح به الزيلعيُّ ـ رحمه الله ـ(١١٠)، وأقربُ ألفاظِه ما أخرجه الدارقطنيُّ ـ بسنده ـ إلى أبي هريرة رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الَّذِي أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ»(١١١).

ووجه الاستدلال مِنَ الحديث: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم جَعَل المفطر في رمضانَ متعمِّدًا كالمُظاهِر في الحكم؛ فإنَّ المُظاهِر كما تترتَّب عليه الكفَّارةُ وجوبًا بنصِّ الكتاب في قوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مِّن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۚ ذَٰلِكُمۡ تُوعَظُونَ بِهِۦۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ ٣ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ مِن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۖ فَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ فَإِطۡعَامُ سِتِّينَ مِسۡكِينٗاۚ ذَٰلِكَ لِتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ[المجادلة: ٣ ـ ٤]، فكذلك تجب الكفَّارةُ على المفطر عمدًا بنصِّ هذا الحديث، وهو ـ عندهم ـ استدلالٌ بالنصِّ لا بالقياس(١١٢).

ـ وبما رواهُ مالكٌ عن ابنِ شهابٍ عن حُمَيْدِ بنِ عبد الرحمن بنِ عوفٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أَنَّ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ؛ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُكَفِّرَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ، أَوْ صِيَامِ شَهْرَيْنِ [مُتَتَابِعَيْنِ]، أَوْ إِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا»(١١٣).

وظاهِرُ لفظِ «أفطر» في هذا الحديث ليس فيه «فطرٌ مخصوصٌ بشيءٍ دون شيءٍ؛ فكُلُّ ما وَقَع عليه اسْمُ فطرٍ مُتعمِّدًا فالكفَّارةُ لازمةٌ لفاعِلِه على ظاهرِ هذا الحديث»(١١٤).

قال ابنُ العربي ـ رحمه الله ـ: «وهذا هو الإيماءُ الصريحُ الدالُّ على صحَّةِ علَّةِ الأصل كقوله: «زَنى فرُجِم»، وَ«سَهَا فَسَجَد»، و«سَرَق فقُطِع»، ولا يُحْصى ذلك كثرةً»(١١٥).

وعليه فإيجابُ الكفَّارةِ يقع على مَنْ أَفْسَد صيامَه مطلقًا بأيِّ شيءٍ كان، مأكولًا وغيرَه، فتتعلَّق الكفَّارة ـ إذَنْ ـ «بالإفساد لهتكِ حرمةِ الشهر على سبيل الكمال لا بالجماع؛ لأنَّ المحرَّم هو الإفساد دون الجماع؛ ولهذا تجب عليه بوطءِ منكوحتِه ومملوكتِه إذا كان بالنهار لوجود الإفساد، لا بالليل لعدمِه»(١١٦)؛ فبَطَل ـ حالتَئِذٍ ـ تخصيصُ الكفَّارة بالجماع.

ـ وبما رواه الطبرانيُّ وغيرُه ـ بسنده ـ إلى ابنِ عمر رضي الله عنهما قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنِّي أَفْطَرْتُ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ؟» قَالَ: «مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا سَفَرٍ ـ وفي لفظٍ: سُقْمٍ ـ؟» قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: «بِئْسَ مَا صَنَعْتَ!» قَالَ: «أَجَلْ، فَمَا تَأْمُرُنِي؟» قَالَ: «أَعْتِقْ رَقَبَةً»(١١٧).

وهذا نصٌّ ظاهرٌ في أنه أَمَره بالكفَّارة لمَّا أخبر أنه أَفْطر عامدًا، ولم يَستفصِلْ بأيِّ المُفطِّراتِ كان، وإنما استفصل عن حالِه بالعذر مِنْ مرضٍ أو سفرٍ؛ لاختلافِ الحكم فيه دون سبب الفطر؛ فدلَّ على استواءِ أسباب الفطر مِنَ الأكل والشرب والجماع في الحكم(١١٨).

والحديث ـ وإِنْ كان مُرْسَلًا ـ فإنَّ المشهور مِنْ مذهبِ أبي حنيفةَ ومالكٍ وأحمدَ الاحتجاجُ بالحديث المُرْسَل(١١٩).

ـ وممَّا يؤكِّدُ جريانَ المعنى المُطْلَق للفطر، وأنه لم يَرِدْ مُجْمَلًا مُبْهَمًا، ولا يصلح تقييدُه بالجماع، أنه قد جاء حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه نصًّا صريحًا معيَّنًا بالأكل فيما رواه الدارقطنيُّ: «أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ فِي رَمَضَانَ؛ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً، أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ، أَوْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا»(١٢٠).

ونصُّ الحديثِ صريحٌ في وجوب الكفَّارة على الذي أَفْسدَ صومَه بالأكل متعمِّدًا مُنتهِكًا لحرمة الشهر؛ فدلَّ ذلك على عدمِ اختلافِ حكمِ الكفَّارة في الأسباب المُوجِبة لها، مِنْ غيرِ تميُّزِ سبب الجماع عن سائرها في الحكم.

• وأمَّا الأثرُ: فاستدلُّوا بقولِ عليٍّ رضي الله عنه: «إنما الكفَّارةُ في الأكل والشرب والجماع»(١٢١).

ففي الأثر دليلٌ على تسويةِ أسباب الفطر في حكم الكفَّارة؛ فقَدْ جَعَل رضي الله عنه ما يتغذَّى به أو يتداوى به أو يشربه في معنى الجماع الثابت بالنصِّ؛ لِمَا في الفطر بالأكل والشرب مِنْ دعاء الطبع إلى تحصيلِ شهوة النفس بهما ـ مِنْ جهةٍ ـ ولِمَا فيه ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ مِنْ إفساد الصوم وانتهاكِ حرمة الشهر؛ فكان كالفطر بالجماع.

• وأمَّا القياس: فاستدلُّوا به مِنَ الحيثيات التالية:

الأولى: مِنْ حيث مساواةُ الفرع للأصل في الحكم:

ويظهر ذلك فيما يلي:

ـ أنَّ حكم المتعمِّد في الأكل والشرب ـ وهو الفرعُ المسكوتُ عنه ـ مُساوٍ لحكم المتعمِّد في الجماع وهو الأصل المنطوق به في النصِّ؛ فوجَبَتِ الكفَّارةُ على المتعمِّد للفطر بالأكل والشرب؛ إلحاقًا قياسيًّا بالفطر بالجماع؛ لاستوائهما في عموم العلَّة وهي: قصدُ الفطر في نهارِ رمضانَ وهتكُ حرمتِه(١٢٢).

ـ ولأنَّ الأكل يستوي مع الجماع في الهتك، فيُباحان ـ جميعًا ـ ليلًا ويَحْرُمان نهارًا إباحةً مستويةً وتحريمًا مستويًا(١٢٣).

الثانية: مِنْ حيث أولويةُ الفرعِ بالحكم مِنَ الأصل:

ويظهر ذلك فيما يلي:

ـ الفطر كما يحصل بالجماع يحصل بالأكل، غيرَ أنه في الأكل أَوْلى؛ «لأنَّ الكفَّارة أُوجِبَتْ زاجرةً، ودعاءُ الطبع في وقت الصوم إلى الأكل أكثرُ منه إلى الجماع، والصبرُ عنه أشَدُّ؛ فإيجابُ الكفَّارة فيه أَوْلى»(١٢٤).

ـ وفي تقريرِ أنَّ إيجاب الكفَّارة في الأكل والشرب أَوْلى مِنَ الجماع قال الكاسانيُّ(١٢٥) ـ رحمه الله ـ ما نصُّه: «وَجْه القياس على المُواقَعة فهو أنَّ الكفَّارة هناك وجَبَتْ للزَّجر عن إفسادِ صومِ رمضانَ صيانةً له في الوقت الشريف؛ لأنها تصلح زاجرةً، والحاجة مسَّتْ إلى الزاجر.

أمَّا الصلاحية فلأنَّ مَنْ تَأمَّل أنه لو أفطر يومًا مِنْ رمضانَ لَزِمَه إعتاقُ رقبةٍ، فإِنْ لم يجد فصيامُ شهرين مُتتابِعَيْن، فإِنْ لم يستطع فإطعامُ ستِّين مسكينًا؛ لَامْتنعَ منه.

وأمَّا الحاجة إلى الزجر فلِوُجود الداعي الطبيعيِّ إلى الأكل والشرب والجماع، وهو شهوة الأكل والشرب والجماع، وهذا في الأكل والشرب أكثرُ؛ لأنَّ الجوع والعطش يُقلِّل الشهوةَ؛ فكانَتِ الحاجةُ إلى الزجر عن الأكل والشربِ أكثرَ؛ فكان شرعُ الزاجر هناك شرعًا هاهنا مِنْ طريق الأَوْلى»(١٢٦).

ـ ولأنَّ حكم الكفَّارة مرتَّبٌ عَقِبَ وصفٍ مُناسِبٍ وهو إفسادُ الصوم بالجماع، وقصرُه على الجماع تضييقٌ لمجرى الحكم؛ ذلك لأنَّ تنقيح المَناط بإلغاءِ غيرِ المُناسِب مِنَ الأوصاف واعتبارِ الصالح له؛ فإنه كما يصلح تهذيبُ العلَّة بحذف الأوصاف غيرِ الصالحة للعِلِّيَّة ككونه أعرابيًّا ويضرب صَدْرَه وينتف شعرَه أو كونِ الموطوءةِ زوجتَه، وهذا تنقيحُ حذفِ الأوصاف وإلغاءِ ما لا يصلح للتعليل، فإنه يصلح تهذيبُ العلَّةِ وتنقيحُها بزيادةِ الأوصافِ الصالحة للتعليل، وهو ما يُعْرَف بتنقيح الزيادة، وذلك بإلغاءِ خصوص الوِقاع وإناطةِ الحكم بوصفِ إفساد الصوم وانتهاكِ حرمةِ شهرِ رمضان؛ فوَجَبَتِ الكفَّارةُ في الأكل والشرب؛ عملًا بتنقيح المَناط بزيادة الأوصاف المُناسِبة للتعليل(١٢٧).

الأمر الذي يُصيِّر التعليلَ بوصف الإفساد وهتكِ حرمةِ رمضانَ أعمَّ مِنْ خصوص الجماع، ولا يخفى أنَّ التعليل بالعلَّةِ العامَّةِ أَوْلى مِنَ العلَّةِ الخاصَّة لكثرةِ فروعها(١٢٨)؛ لأنَّ الكثرة تجري مجرى شهادة الأصول لها(١٢٩).

الثالثة: مِنْ حيث المعقول:

ومِنْ وجوه الاستدلال بالمعقول في استواءِ الأكل والجماع في حكم الكفَّارة ما يلي:

ـ «لأنَّ الكفَّارة إنما تجب زاجرةً عن المُعاوَدة وماحيةً للسيِّئة وجابرةً لِمَا دَخَل مِنَ النقص على العبادة، وهذا يستوي فيه الأكلُ والوطء»(١٣٠).

ـ «ولأنَّ الأكل ممَّا تدعو إليه الطباعُ وتشتهيهِ النفوسُ كالجماع، وما كان مِنَ المحرَّمات تشتهيهِ الطباعُ كالزِّنَى وشربِ الخمر فلا بُدَّ مِنْ زاجرٍ شرعيٍّ، والزواجرُ إمَّا حدودٌ وإمَّا كفَّاراتٌ؛ فلمَّا لم يكن في الأكل حدٌّ فلا بُدَّ فيه مِنْ كفَّارةٍ»(١٣١).

٢) أدلَّة المانعين مِنَ الكفَّارة:

استدلَّ الشافعيةُ والحنابلة ومَنْ وافَقَهم على عدمِ لزوم الكفَّارة على مَنْ أَفطرَ في نهارِ رمضان بأكلٍ أو شربٍ عامدًا بالسنَّة والإجماع والقياس والنظر.

• أمَّا مِنَ السنَّة: فاستدلُّوا بحديث الباب والرواياتِ الأخرى في قول الأعرابيِّ: «وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ»، وفي رواية: «أَصَبْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ»؛ فأمَره النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالكفَّارة عقيب ذلك؛ فثَبَت بهذه الرواياتِ الصحيحةِ وجوبُ الكفَّارة بالجماع نصًّا؛ فالأصلُ الاقتصارُ على مورد النصِّ، وإلحاقُ غيره به يحتاج إلى دليلٍ، ولم يَرِدْ دليلٌ مِنَ الشرع يُثْبِتُ وجوبَ الكفَّارة بالأكل والشرب في نهارِ رمضانَ عمدًا، ولا إجماعَ فيه، ولا يصحُّ قياسُه على الجماع(١٣٢)؛ لجوازِ أَنْ يكون الجماعُ قد تضمَّنَ وصفًا فارَقَ به غيرَه، ويظهر فيه الفارقُ مِنْ جهةِ أنَّ الجماع يتميَّزُ بقوَّةِ داعيهِ وشدَّةِ باعثِه؛ إذ ما عَدَا الجماع ليس في معناهُ لأنه أغلظُ وأشدُّ وأفحشُ؛ فإذا هاجَتْ شهوتُه لم يكد يَزَعُها وازعُ العقلِ ولم يمنعها حارسُ الدِّين؛ ولذلك كانَتِ الحاجةُ إلى الزجر عنه أمَسَّ وأبلغَ، والحكمُ في التعدِّي به آكَدَ(١٣٣).

ولمَّا لم يَرِدْ نصٌّ ثابتٌ في إيجاب الكفَّارة على مَنْ أَفْطرَ بغيرِ جماعٍ، ولا إجماعٌ مقبولٌ، ولا قياسٌ بيِّنٌ يُعوَّلُ عليه؛ بقي الحكمُ على الأصل المنفيِّ للكفَّارة إلَّا بدليلٍ موثوقٍ فيه، والقياسُ مُمتنِعٌ، ووجهُ امتناعه: أنَّ وجوب الكفَّارة ثَبَت معدولًا به عن القياس، و«مَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ القِيَاسِ فَغَيْرُهُ عَلَيْهِ لَا يُقَاسُ»، و«لأنَّ الكفَّارة مِنْ باب المقادير، والقياسُ لا يهتدي إلى تعيين المقادير، وإنما عُرِف وجوبُها بالنصِّ، والنصُّ وَرَد في الجماع، والأكلُ والشربُ ليسا في معناه؛ لأنَّ الجماع أشدُّ حرمةً منهما حتَّى يتعلَّقُ به وجوبُ الحدِّ دونهما»(١٣٤).

وإذا تقرَّر ذلك كانَتِ الذمَّةُ بريئةً مِنْ هذه الكفَّارة فلا يَثْبُت فيها شيءٌ إلَّا بيقينٍ؛ عملًا بقاعدةِ: «الأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةً»، وجريًا على قاعدةِ: «الأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ»، وذلك باستدامةِ إثباتِ ما كان ثابتًا وهو وجوبُ الكفَّارة بالجماع، ونفيِ ما كان منفيًّا وهو وجوبها بغيره مِنَ المفطِّرات؛ استصحابًا لحكم الإثبات والنفي حتَّى يقوم الدليلُ على تغيُّر الحال.

• وأمَّا الاستدلال بإجماع الصحابة رضي الله عنهم في عدمِ إلحاقِهم سائرَ المفطِّرات بالجماع في لزوم الكفَّارة فمُستنَدُه أثران:

ـ بما روى البيهقيُّ وغيرُه عن عبد الله بنِ أبي الهُذَيْل قال: «أُتِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِشَيْخٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ؛ فَجَلَدَهُ ثَمَانِينَ وَنَفَاهُ إِلَى الشَّامِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: لِلْمَنْخِرَيْنِ(١٣٥)، أَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَوِلْدَانُنَا صِيَامٌ، أَوْ صِبْيَانُنَا صِيَامٌ؟»(١٣٦).

ـ وما روى أحمد بسنده وغيرُه أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ سَكْرَانَ مِنَ الْخَمْرِ فِي رَمَضَانَ، فَتَرَكَهُ حَتَّى صَحَا، ثُمَّ ضَرَبَهُ ثَمَانِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ إِلَى السِّجْنِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنَ الْغَدِ فَضَرَبَهُ عِشْرِينَ، فَقَالَ: «ثَمَانِينَ لِلْخَمْرِ، وَعِشْرِينَ لِجُرْأَتِكَ عَلَى اللهِ فِي رَمَضَانَ»(١٣٧).

فلم يَرِدْ في كِلَا الأثرين المتعلِّقين بالإفطار بالشرب في رمضان سِوَى الحدِّ بالجَلْد، ولم يُخبِرَا رضي الله عنهما المحدودَ بوجوب الكفَّارة عليه لإفساده صيامَه بالشرب وانتهاكِ حرمة الشهر بالفطر بمحرَّمٍ؛ فلو كانَتِ الكفَّارةُ لازمةً وشاغلةً لذِمَّته لَبيَّناها له ولَأوجباها عليه(١٣٨).

وهاتان القضيَّتان مِثْلُهما يَشتهِرُ وينتشر، ولا يُعْلَمُ لهما مُخالِفٌ مِنَ الصحابة؛ فهُما ـ بهذا الاعتبار ـ إجماعٌ وحجَّةٌ عند جماهير العلماء(١٣٩).

• أمَّا بالقياس والنظر: فاستدلُّوا بوجوهٍ كثيرةٍ منها:

ـ أنَّ الصائم المُستقيءَ عمدًا يَلْزَمه القضاءُ دون الكفَّارة مع وجود العمدية؛ فلو كانَتِ الكفَّارةُ ثابتةً لغير الجماع مِنَ المفطِّرات لَوجبَتْ في حقِّ المستقيء وهو مفطرٌ عمدًا(١٤٠)، لكِنْ ليس عليه سوى القضاءِ لحديثِ أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «مَنْ ذَرَعَهُ القَيْءُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَمَنِ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ»(١٤١)، قال الخطَّابيُّ ـ رحمه الله ـ: «وفي إسقاطِ أكثرِ العلماءِ الكفَّارةَ عن المُستقيءِ عامدًا دليلٌ على أَنْ لا كفَّارةَ على مَنْ أَكَل عامدًا في نهارِ رمضانَ، إلَّا أنَّ المُستقيءَ عامدًا مشبَّهٌ بالآكل متعمِّدًا، ومَنْ ذَرَعه القيءُ مشبَّهٌ بالآكل ناسيًا»(١٤٢).

ـ وكذلك إذا بَلَع الصائمُ في رمضانَ الحَصَاةَ أو الترابَ عمدًا فليس الواجبُ في حقِّه سوى القضاء، وليس عليه كفَّارةٌ مع أنه مفطرٌ متعمِّدًا على ما تَقرَّر في مذهب الجمهور(١٤٣)، وكذلك الرِّدَّةُ عند مالكٍ ـ رحمه الله ـ(١٤٤).

ـ أنه لو كان مُوجِبُ الكفَّارةِ مجرَّدَ الإفطار لم يَجُزِ الإيجابُ بمجرَّدِ الظنِّ، ولَاسْتوى فيه جميعُ المفطِّرات كالقيء والحجامة لمَنْ يرى أنها تُفطِّر، ولا يخفى أنَّ تخصيص بعضها بالإفطار دون بعضٍ نوعُ تشريعٍ يَستوجِبُ دلالةَ الشرعِ عليه(١٤٥).

وغيرها مِنْ وجوه الاستدلال بالرأي والنظر.

ج) مناقشة الأدلَّة السابقة:

أتناوَلُ مناقشةَ أدلَّةِ القائلين بلزومِ الكفَّارةِ على مَنْ أَفطرَ في نهارِ رمضانَ بأكلٍ أو شربٍ عامدًا في الفقرة الأولى، ثمَّ أَستتبِعُه بمناقشةِ أدلَّةِ المانعين للكفَّارة في غير الجماع النافين لوجوبها في الفقرة الثانية على ما يأتي:

الفقرة الأولى: مناقشة أدلَّة القائلين بلزوم الكفَّارة:

يمكن مناقشةُ الحنفيةِ والمالكيةِ وتوجيهُ ما استدلُّوا به مِنْ جهةِ السنَّة والأثر والقياس بما يلي:

• أمَّا مِنْ جهةِ السنَّة: فإنَّ معظم الأحاديث التي استدلَّ بها الحنفيةُ والمالكية ـ في هذا المَقام ـ لا تصلح للاحتجاج لضعفِها، ولا تقوى على معارضةِ أدلَّةِ المُخالِفين، وما صَلَح منها فهو قابلٌ للتأويل ، وبيانُ ذلك على الوجه التالي:

ـ فحديثُ: «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ [مُتَعَمِّدًا] فَعَلَيْهِ مَا عَلَى المُظَاهِرِ» قد تناقلَتْه كُتُبُ الحنفية وغيرِهم بهذا اللفظ، ولا يُعْرَف له إسنادٌ أصلًا؛ فهو غريبٌ بهذا اللفظ ـ كما سَبَق(١٤٦) ـ وأقربُ ألفاظه ما أخرجه الدارقطنيُّ بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الَّذِي أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ»(١٤٧)، وفي سنده: يحيى بنُ عبد الحميد الحِمَّانيُّ: مُتَّهَمٌ بسرقة الحديث، قال عنه الذهبيُّ ـ رحمه الله ـ: «حافظٌ مُنْكَرُ الحديث، وقد وثَّقه ابنُ مَعينٍ وغيرُه، وقال أحمد بنُ حنبلٍ: كان يكذب جهارًا، وقال النسائيُّ: ضعيفٌ»(١٤٨)، وقال عنه ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ: «حافظٌ، إلَّا أنهم اتَّهموه بسرقة الحديث»(١٤٩)، والحديث ضعَّفه ابنُ الجوزيِّ وغيرُه(١٥٠).

ـ وأمَّا حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه: «أَنَّ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ؛ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُكَفِّرَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ، أَوْ صِيَامِ شَهْرَيْنِ [مُتَتَابِعَيْنِ]، أَوْ إِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا»(١٥١)، فهي روايةُ مالكٍ عن ابنِ شهابٍ عن حُمَيْدٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه، رُوِيَتْ بالمعنى بتصرُّفِ بعض الرُّوَاة، إمَّا لقصدِ الاختصار أو لغيره، والرواياتُ الأخرى التي هي أكثرُ عددًا مُقيِّدةٌ للإطلاق الوارد في لفظِ: «أَفْطَر»، مُفسِّرةٌ لمُجْمَله؛ لذلك حَمَل الجمهورُ إفطارَ الرجل على أنه كان بجماعٍ؛ حملًا للمُطْلَق على المقيَّد لاتِّحاد السبب والحكم أوَّلًا، ولأنَّ رُوَاة الأكثر مقدَّمةٌ عند التعارض ـ اتِّفاقًا ـ ثانيًا، قال الدارقطنيُّ ـ رحمه الله ـ: «ورواه عن الزُّهريِّ أكثرُ منهم عددًا بهذا الإسناد، وقالوا فيه: إنَّ فطره كان بجماعٍ ..»(١٥٢)، ولأنَّ القصَّةَ واحدةٌ ـ كما سَبَق بيانُه(١٥٣) ـ والمَخرَج مُتَّحِدٌ، والأصل عدمُ التعدُّد ثالثًا، ولأنَّ إلحاقَ كفَّارةِ الجماع في رمضانَ بكفَّارة الظِّهار هي مِنْ إلحاق الشبيه بشبيهه، وإعطاءِ النظيرِ حُكْمَ نظيرِه ـ رابعًا ـ فكان ذلك أقربَ شبهًا مِنْ غيره(١٥٤).

ـ وأمَّا حديثُ ابنِ عمر رضي الله عنهما قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنِّي أَفْطَرْتُ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ؟» قَالَ: «مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا سَفَرٍ ـ وفي لفظٍ: سُقْمٍ ـ؟» الحديث؛ فقَدْ أخرجه أبو يعلى والطبرانيُّ ـ كما تقدَّم(١٥٥) ـ، وقال الطبرانيُّ ـ رحمه الله ـ: «لم يَرْوِ هذا الحديثَ عن حبيبٍ إلَّا هارونُ، تَفرَّد به: الصبَّاح بنُ مُحارِبٍ»(١٥٦).

والحديث أعَلَّه أبو حاتمٍ الرازيُّ وأبو زُرْعةَ بالإرسال، قال عبد الرحمن بنُ أبي حاتمٍ ـ رحمه الله ـ: «سألتُ أبي وأبا زُرْعةَ عن حديثٍ رواهُ الصبَّاح بنُ محاربٍ، عن هارونَ بنِ عنترة، عن حبيب بنِ أبي ثابتٍ، عن ابنِ عمر» وذَكَر الحديثَ، «قالَا: هذا خطأٌ؛ إنما هو: حبيبٌ، عن طلقٍ، عن سعيد بنِ المسيِّب، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: مُرْسَلٌ»(١٥٧).

وأعَلَّه الدارقطنيُّ ـ رحمه الله ـ ـ أيضًا ـ بالإرسال فقال: «قدِ اختُلِف فيه على حبيب بنِ أبي ثابتٍ، عن ابنِ عمر، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: فرواهُ هارونُ بنُ عنترة، عن حبيب بنِ أبي ثابتٍ، عن ابنِ عمر، ووَهِم فيه. والصواب: عن حبيب بنِ أبي ثابتٍ، عن طلق بنِ حبيبٍ، عن سعيد بنِ المسيِّب مُرْسَلًا. وقال مهران بنُ أبي عمر: عن الثوريِّ، عن حبيبٍ، عن ابنِ المسيِّب، عن أبي هريرة. والصحيح مُرْسَلًا»(١٥٨)، وأقوى الأقوال في الحكم على الحديث المُرْسَل أنه ضعيفٌ مردودٌ، وهو مذهب المحدِّثين والأصوليِّين والفقهاء(١٥٩).

ـ وأمَّا حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ فِي رَمَضَانَ؛ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً، أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ، أَوْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا»(١٦٠) فقَدْ رواها الدارقطنيُّ وقال: «أبو مَعْشَرٍ هو نَجيحٌ، وليس بالقويِّ»(١٦١)، وهو ما أكَّده ابنُ الجوزيِّ ـ رحمه الله ـ بقوله: «وأمَّا اللفظ الذي فيه «أنَّ رجلًا أَكَل..» فيرويه أبو مَعْشَرٍ نجيحٌ: قال يحيى بنُ مَعينٍ: ليس بشيءٍ»(١٦٢)، وضعَّفه ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ فقال: «إسناده ضعيفٌ لضعفِ أبي مَعْشَرٍ راويه عن محمَّد بنِ كعبٍ»(١٦٣).

• ومِنْ جهة الأثر: فإنَّ الاستدلال بقول عليٍّ رضي الله عنه: «إنما الكفَّارة في الأكل والشرب والجماع» لا يصلح للاستدلال ولا للاستشهاد؛ لأنَّ الأثر ضعيفٌ؛ ففي سندِه: الحسنُ بنُ عُمارةَ البَجَليُّ، قال عنه الحافظ ـ رحمه الله ـ: «متروكٌ»(١٦٤)، وفيه يحيى بنُ الجزَّار العُرَنيُّ: «صدوقٌ رُمِيَ بالغلوِّ في التشيُّع»(١٦٥)، فضلًا عن أنَّ الأثر المنقول الصحيح عن عليٍّ رضي الله عنه يُخالِفه ـ كما تقدَّم في قصَّته مع السكران(١٦٦) ـ.

• ومِنْ جهةِ قياس الأكل والشرب على الجماع فهو قياسٌ ظاهرُ البطلان مِنْ عِدَّةِ وجوهٍ، منها:

ـ أنه قياسٌ مُعارِضٌ لأصلِ براءة الذِّمَّة التي لا يَثْبُت فيها شيءٌ إلَّا بدليلٍ بيِّنٍ ظاهرٍ، وهو غيرُ متحقِّقٍ؛ لجوازِ أَنْ يكون الجماعُ قد تضمَّن وصفًا فارَقَ به غيرَه ـ كما سَلَف بيانُه(١٦٧) ـ.

ـ ولأنَّ الكفَّارة تقرَّرَتْ مشروعيتُها مِنْ باب المقادير، فلا يهتدي القياسُ إلى تعيينها، وإنما يَثْبُتُ وجوبُ الكفَّارات بالنصِّ، وهو واردٌ في الجماع دون غيره مِنَ المفطِّرات.

ـ ولأنَّ القياس يتعذَّر توسيعُ مجرى الحكم أو الاستدلال به؛ لفسادِ اعتباره؛ إذ هو في مقابلةِ إجماع الصحابة رضي الله عنهم في إثبات الكفَّارة بالجماع ونفيِها عن سائر المفطِّرات.

ـ ولأنه يتعذَّر العملُ بالقياس ـ أيضًا ـ لمعارضته بأدلَّةٍ قياسيةٍ مثلِها أو أقوى منها.

ـ وأمَّا القول بأنَّ حكم الكفَّارة مرتَّبٌ عَقِبَ وصفٍ مُناسِبٍ وهو إفسادُ الصوم بالإفطار؛ بناءً على الاجتهاد في تنقيح المَناط بالزيادة؛ فجوابُه ما ذَكَره ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ بقوله: «وترتيبُ الحكم على الوصف ليس مِنْ كلام النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وإنما المحدِّث يقول: إنه أفطر فأمَرَ بكذا، وقد عُلِم أنَّ الإفطار كان بالجماع؛ فلو صرَّح المحدِّثُ بذلك وقال: «إنما أمَره بالكفَّارة لمجرَّد الإِفطار» لم يجب قَبولُ ذلك منه لأنه رأيٌ واجتهادٌ؛ فكيف إذا دلَّ عليه كلامُه مع إمكانِ أنه لم يُقْصَدْ بذلك؟!»(١٦٨).

الفقرة الثانية: مناقشة أدلَّة المانعين للكفَّارة بغير الجماع:

يمكن توجيهُ مناقشةِ الشافعية والحنابلة فيما استدلُّوا به على عدمِ لزوم الكفَّارة على مَنْ أفطر في نهارِ رمضانَ بأكلٍ أو شربٍ عامدًا، مِنْ جهة السنَّة والإجماع والقياس على النحو التالي:

• فمِنْ جهة السنَّة: استدلُّوا بأنَّ الحديث أَثْبَت وجوبَ الكفَّارة بالجماع نصًّا؛ فالأصلُ الاقتصارُ على مورد النصِّ و«بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ»، وإلحاقُ غيرِه به شَغْلٌ للذِّمَّة بغيرِ مسوِّغٍ شرعيٍّ، والأصلُ براءةُ الذِّمَّة، ولا نُثْبِت عَكْسَها إلَّا بدليلٍ بيِّنٍ، فجوابُه: أنَّ الحنفية والمالكية يُثْبِتون حُكْمَ الكفَّارة بأكلٍ أو شربٍ عمدًا بجملةٍ مِنَ الأدلَّة، منها: الأحاديثُ المُساقةُ لهذه المسألة(١٦٩)، وإِنْ كان بعضُها لا يقوى على النهوض والاحتجاجِ لضعفه، إلَّا أنه بمجموعها يثبت دليلًا بيِّنًا، فضلا عن الأثر والقياس؛ فيصلح المجموعُ أَنْ يكون ناقلًا للحكم عن النفي الأصليِّ؛ فيَثْبُت حكمُ الكفَّارة وتُشْغَل به الذِّمَّةُ.

• أمَّا مِنْ جهة الإجماع: فإنما هو دعوَى إجماعِ الصحابة رضي الله عنهم وهي غيرُ مسلَّمةٍ؛ وذلك لمُخالَفةِ بعض الصحابة في المسألة ـ أوَّلًا ـ وإذا اختلف الصحابةُ فلا إجماعَ، وإنما اجتهد في أرجح القولين بالدليل ـ ثانيًا ـ ولا يمكن أَنْ يقع الإجماعُ مُخالِفًا للنصوص الشرعية ـ ثالثًا ـ بله إِنْ كانَتِ المخالفةُ مِنْ مذهب الصحابيِّ واجتهادِه، فإنه لا يُقْبَلُ في المسائل الاجتهادية إذا خالَفَ النصَّ والقياس.

• وأمَّا مِنْ جهة القياس: فإنَّ الاستدلال بالقياس على الصائم المُستقيء عمدًا، أو بمَنْ بَلَع الحَصَاةَ والترابَ عمدًا ـ كما تقدَّم(١٧٠) ـ فإنما هي حالاتٌ استثنائيةٌ ثَبَت تخصيصُها خروجًا عن الأصل، إمَّا لوجود نصٍّ مخصِّصٍ دالٍّ عليها كما هو الشأنُ بالنسبة للقيء والحجامة وغيرِهما، وإمَّا لوجودِ اعتبارٍ قياسيٍّ للنوع المفطِّر، وهو ما عليه المذهبُ الحنفيُّ، فيخرج مِنِ اعتبارِ الغذاء والدواء: الترابُ والحَصَاةُ وغيرُهما.

ولا يخفى أنَّ هذه الصُّوَرَ والأحكام المُستثناةَ لا تُلْغي حُكْمَ الأصل المقرَّر بالسنَّة والأثرِ والقياس على وجوب الكفَّارة الذي بعضُه قياسيٌّ في معنى الأصل عند مَنْ يرى أنَّ المفهوم الأولويَّ والمُساوِيَ دلالتُه قياسيةٌ، وإلَّا فدلالتُه ـ على الصحيح ـ لفظيةٌ؛ لأنَّ إلحاق المسكوتِ عنه بالمنطوق به ليس مِنْ جهة الشَّبَه، وإنما هو مِنْ جهة التنبيه؛ فليس مِنَ القياس، بل هي مِنَ النصِّ.

د) سبب الاختلاف:

يرجع سببُ اختلاف العلماء في هذه المسألةِ إلى ما يأتي:

ـ الاختلاف في صلاحِيَةِ قياسِ المفطر بالأكل والشرب عمدًا على المفطر بالجماع، أي: هل يصلح القياسُ أَنْ يكون دليلًا موثوقًا به في إثباتِ حكم الكفَّارة المنفيِّ بالنصِّ وﺑ «أصل براءة الذِّمَّة»؟

ـ الاختلاف في اعتبارِ تنقيح المَناط بزيادةِ بعض الأوصاف غيرِ الواردة في النصِّ.

ـ الاختلاف في حجِّيَّةِ الحديث المُرْسَل والعملِ به.

• فمَنْ رأى صلاحِيَةَ قياسِ المفطر بالأكل والشرب عمدًا على المفطر بالجماع؛ لاستواءِ المسكوت عنه بالمنطوق به في الحكم؛ إذ الشَّبَهُ فيهما واحدٌ، وهو انتهاكُ حرمةِ الصوم(١٧١)، ورأى جوازَ تنقيح المَناط مرَّتين: إحداهما: بتهذيب العلَّة وإلغاءِ ما لا يصلح للتعليل واعتبارِ الصالح له، والثانية: بزيادةِ بعض الأوصاف الصالحة للتعليل(١٧٢)، واعتبر القياسَ دليلًا موثوقًا به، وعضَّد المعنى الذي تضمَّنه القياسُ بالحديث المُرْسَل باعتبارِه حجَّةً واجبةَ العمل عنده؛ قال بإلغاءِ خصوصِ الوِقاع وأناطَ الحكمَ بانتهاكِ حرمةِ رمضان، وأَوْجَب الكفَّارةَ في الأكل والشرب عمدًا.

• ومَنْ رأى عدمَ صلاحِيَةِ قياسِ المفطر بالأكل والشرب على المفطر بالجماع؛ إذ لا يُمثِّل دليلًا بيِّنًا؛ لجوازِ أَنْ يكون الجماعُ قد تَضمَّن وصفًا فارَقَ به غيرَه مِنَ المفطِّرات بقوَّةِ داعيهِ وشدَّةِ باعِثِه، ولا يشكِّل القياسُ دليلًا موثوقًا به؛ لأنه لو وجَبَتِ الكفَّارةُ لأجل الإفطار لَاسْتوى فيه جميعُ المفطِّرات كالقيء عمدًا والحجامة ـ عند مَنْ يقول بكونها مِنَ المفطِّرات ـ وغيرِهما، واعتبر أنَّ تخصيصَ بعضِها دون بعضٍ نوعُ تشريعٍ يحتاج إلى دلالة الشرع، ولم يَعتبِرْ فيه تنقيحَ الزيادة، بل جَعَل مَناطَ الحكمِ انتهاكَ حرمةِ صومِ رمضانَ بخصوص الجماع؛ لأنَّ الكفَّارة أشَدُّ مُناسَبةً للجماع مِنْ غيره، ورأى عدمَ جوازِ الاحتجاج بالحديث المُرْسَل والعملِ به في هذا المَقام؛ لأنَّ دليل الأصل ـ وهو براءةُ الذِّمَّةِ ـ أقوى؛ فلا إثباتَ لكفَّارةٍ تُشْغَلُ بها الذِّمَّةُ إلَّا بدليلٍ بيِّنٍ موثوقٍ به، والحديثُ المُرْسَل ليس كذلك؛ قال بنفيِ لزوم الكفَّارة عن الآكل والشارب عمدًا، ولم يرتِّب على المفطر سوى التوبةِ وقضاءِ ذلك اليوم ليس إلَّا.

ﻫ) ترجيح المذهب المختار:

فمِنْ خلالِ عرضِ أدلَّةِ أقوال العلماء ومُناقَشتِها فقَدْ ظَهَر لي راجحًا مذهبُ القائلين بأنَّ المفطر في نهار رمضانَ بأكلٍ أو شربٍ عامدًا مِنْ غيرِ جماعٍ لا تَلْزَمه الكفَّارةُ، وإنما تجب ـ في حقِّه ـ التوبةُ وقضاءُ اليومِ الذي أفطر فيه(١٧٣)، وذلك للاعتبارات التالية:

ـ لأنَّ أدلَّة هذا المذهبِ أقوى حجَّةً وأصحُّ نظرًا، لا تُقاوِمُها أدلَّةُ المُخالِفين: لا مِنْ جهة السنَّة؛ لأنَّ جملة الأحاديث التي استدلَّ بها المُوجِبون للكفَّارة ضعيفةٌ لا تصلح للاحتجاج ولا تقوى على تغيير حكم الأصل، وما ثَبَت منها فهو قابلٌ للتأويل؛ فروايةُ مالكٍ بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه «أَنَّ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ..» قَدْ رُوِي بالمعنى، وهو مُجْمَلٌ لم يُذْكَرْ فيه بماذا أَفْطرَ، والمُجْمَلُ ليس له عمومٌ، وقد فسَّرَتْه الروايةُ الأخرى بأنَّ فِطْرَه كان بجماعٍ؛ فتَعيَّن الأخذُ بها.

ـ ولأنَّ المُخالِفين لا يُعْلَم لهم أثرٌ عن الصحابة إلَّا أثرَ عليٍّ رضي الله عنه وهو ضعيفٌ لا يَثْبُت، والمنقول الصحيح عنه القولُ بخلافه، بل الصحابةُ رضي الله عنهم لم يُلْحِقوا سائرَ المفطِّرات بالجماع في لزوم الكفَّارة، ولم يُعْلَمْ لهم مُخالِفٌ؛ فكان إجماعًا وحجَّةً؛ وعليه فالقياسُ فاسدُ الاعتبار لمُقابَلته الإجماعَ.

ـ ولأنَّ قياس الأكل والشرب على الجماع لا يصحُّ؛ لأنه أغلظُ منهما وأشدُّ وأفحشُ، ولأنَّ الآكل أو الشاربَ عمدًا لا يُرْجَم ولا يُجْلَد ولا يجب عليه غُسْلٌ ففارَقَ المُجامِع(١٧٤)؛ «وذلك أنَّ العقاب المقصودُ به الردعُ، والعقابُ الأكبرُ قد يُوضَعُ لِمَا إليه النفسُ أميلُ وهو لها أغلبُ مِنَ الجنايات، وإِنْ كانَتِ الجنايةُ متقاربةً؛ إذ كان المقصودُ مِنْ ذلك الْتزامَ الناسِ الشرائعَ وأَنْ يكونوا أخيارًا عدولًا»(١٧٥).

ـ ولأنَّ الكفَّارة شُرِعَتْ مِنْ باب المقادير، فلا يهتدي القياسُ إلى تعيينها، إنما النصُّ هو الذي يُثْبِتها، وقد أَثْبَتَ الكفَّارةَ بالجماع دون سائر المفطِّرات الأخرى؛ فالأصلُ ـ إذن ـ الاقتصارُ على مورد النصِّ وبراءةُ الذمَّةِ مِنَ الكفَّارةِ بغير الجماع؛ عملًا بقاعدةِ: «الأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ».

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٢٧ جمادى الآخرة ١٤٣٨ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٦ مـــــــارس ٢٠١٧م



(١) أخرجه البخاريُّ في «الصوم» (٤/ ١٦١) باب: إذا جامع في رمضان.

(٢) أخرجه البخاريُّ في «الصوم» (٤/ ١٦٣) باب: إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيءٌ فتُصُدِّقَ عليه فلْيُكفِّر، وفي (٤/ ١٧٣) باب المجامع في رمضان: هل يُطْعِم أهلَه مِنَ الكفَّارة إذا كانوا محاويج؟ وفي «الهِبَة» (٥/ ٢٢٣) باب: إذا وَهَب هِبَةً فقبضها الآخَرُ ولم يقل: قبلتُ، وفي «النفقات» (٩/ ٥١٣ ـ ٥١٤) بابُ نفقة المُعْسِر على أهله، وفي «الأدب» (١٠/ ٥٠٣) باب التبسُّم والضحك، وفي (١٠/ ٥٥٢) بابُ ما جاء في قول الرجل: «ويلك»، وفي «كفَّارات الأيمان» (١١/ ٥٩٥) بابُ قولِه تعالى: ﴿قَدۡ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمۡ تَحِلَّةَ أَيۡمَٰنِكُمۡۚ وَٱللَّهُ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ ٢﴾ [التحريم] متى تجب الكفَّارةُ على الغنيِّ والفقير؟ وفي (١١/ ٥٩٦) بابُ مَنْ أعان المُعسِرَ في الكفَّارة، وفي (١١/ ٥٩٦) باب: يعطي في الكفَّارة عشرةَ مساكين، قريبًا كان أو بعيدًا، وفي «الحدود» (١٢/ ١٣١) باب: مَنْ أصاب ذنبًا دون الحدِّ فأخبر الإمامَ فلا عقوبةَ عليه بعد التوبة إذا جاء مستفتيًا، ومسلمٌ في «الصيام» (٧/ ٢٢٤ ـ ٢٢٧) بابُ تغليظِ تحريم الجماع في نهارِ رمضان على الصائم، وأبو داود في «الصوم» (٢/ ٧٨٣) بابُ كفَّارةِ مَنْ أتى أهلَه في رمضان، والترمذيُّ في «الصوم» (٣/ ١٠٢) بابُ ما جاء في كفَّارة الفطر في رمضان، وابنُ ماجه في «الصيام» (١/ ٥٣٤) بابُ ما جاء في كفَّارةِ مَنْ أفطر يومًا مِنْ رمضان، وأحمد في «مسنده» (٢/ ٢٠٨، ٢٤١، ٢٧٣، ٢٨١، ٥١٦)، وابنُ خزيمة في «صحيحه» (٣/ ٢١٧).

(٣) وسببُ ذلك لزومُه مجالسَ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم ومُواظَبتُه عليها، ودعاؤه صلَّى الله عليه وسلَّم له، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: «وَاللهُ المَوْعِدُ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا، أَصْحَبُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، وَكَانَ المُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وَكَانَتِ الأَنْصَارُ يَشْغَلُهُمُ القِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، فَحَضَرْتُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا فَقَالَ: «مَنْ يَبْسُطْ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي ثُمَّ يَقْبِضْهُ إِلَيْهِ فَلَنْ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي»، فَبَسَطْتُ بُرْدَةً عَلَيَّ حَتَّى قَضَى حَدِيثَه ثُمَّ قَبَضْتُهَا إِلَيَّ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ» [أخرجه أحمد ـ طبعة الرسالة ـ (١٢/ ٢١٩)].

أمَّا عن كُنيتِه رضي الله عنه فقَدْ أخرج الترمذيُّ (٥/ ٦٨٦) عن عبد الله بنِ رافعٍ قال: قُلْتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: «لِمَ كُنِّيتَ أَبَا هُرَيْرَةَ؟» قَالَ: «أَمَا تَفْرَقُ مِنِّي؟» قُلْتُ: «بَلَى ـ وَاللهِ ـ إِنِّي لَأَهَابُكَ»، قَالَ: «كُنْتُ أَرْعَى غَنَمَ أَهْلِي، فَكَانَتْ لِي هُرَيْرَةٌ صَغِيرَةٌ فَكُنْتُ أَضَعُهَا بِاللَّيْلِ فِي شَجَرَةٍ، فَإِذَا كَانَ النَّهَارُ ذَهَبْتُ بِهَا مَعِي فَلَعِبْتُ بِهَا؛ فَكَنَّوْنِي: أَبَا هُرَيْرَةَ».

(٤) انظر ترجمته وأحاديثه في: «مسند أحمد» (٢/ ٢٢٨، ٥/ ١١٤)، «الطبقات الكبرى» لابن سعد (٢/ ٣٦٢، ٤/ ٣٢٥)، «المَعارِف» لابن قتيبة (٢٧٧)، «الاستيعاب» لابن عبد البرِّ (٤/ ١٧٦٨)، «مستدرك الحاكم» (٣/ ٥٠٦)، «جامع الأصول» لأبي السعادات بنِ الأثير (٩/ ٩٥)، «الكامل» (٣/ ٥٢٦) و«أُسْد الغابة» (٥/ ٣١٥) كلاهما لأبي الحسن بنِ الأثير، «سِيَر أعلام النُّبلاء» (٢/ ٥٧٨) و«طبقات القُرَّاء» (١/ ٤٣) و«الكاشف» (٣/ ٣٨٥) و«دُوَل الإسلام» (١/ ٤٢) كُلُّها للذهبي، «البداية والنهاية» لابن كثير (٨/ ١٠٣)، «مَجْمَع الزوائد» للهيثمي (٩/ ٣٦١)، «وفيات ابنِ قنفذ» (٢١)، «الإصابة» (٤/ ٢٠٢) و«تهذيب التهذيب» (٢/ ٢٦٢) كلاهما لابن حجر، «طبقات الحُفَّاظ» للسيوطي (١٧)، «شذرات الذهب» لابن العماد (١/ ٦٣)، «الفكر السامي» للحجوي (١/ ٢/ ٢٤٧)، ومؤلَّفي: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» (١٩٨).

(٥) أخرجها الدارقطنيُّ في «سننه» (٢/ ١٨٨)، والبيهقيُّ في «سننه الكبرى» (٤/ ٣٨٣) رقم: (٨٠٦٣).

وانظر [حُكمَ هذه الزيادةِ مِنَ الحديث في (الهامشِ ٨٠)].

(٦) أخرجها أحمد في «مسنده» (٢/ ٥١٦). وصحَّحه محقِّقو طبعة الرسالة (١٦/ ٤٠٥).

(٧) أخرجه البخاريُّ (١٢/ ١٣٢)، ومسلمٌ (٧/ ٢٢٧)، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.

(٨) انظر: «معالم السنن» للخطَّابي (٢/ ٧٨٧)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٦٤)، «العدَّة» للصنعاني (٣/ ١٧١)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٥/ ٢٨٧).

(٩) أخرجه مسلمٌ (٧/ ٢٢٥).

(١٠) أخرجه ابنُ خزيمة (٣/ ٢٢١). قال الألبانيُّ في تعليقه على «صحيح ابن خزيمة»: «في إسناده ضعفٌ».

(١١) أخرجه البيهقي في «سننه الكبرى» (٥/ ٣٠٤) رقم: (٩٨٩٧).

(١٢) انظر: «مشارق الأنوار» لعياض (٢/ ٢٩٧)، «النظم المُستعذَب» لابن بطَّال (٢/ ٣٦٨)، «الزاهر» لابن الأنباري (١/ ١٣٩).

(١٣) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٦٥).

(١٤) أخرجه مالكٌ في «الموطَّإ» (١/ ٢٧٧)، ومِنْ طريقِ مالكٍ أخرجه أبو داود في «سننه» (٢/ ٧٨٥)، والدارميُّ في «سننه» (٢/ ١١)، وأحمد في «مسنده» (٢/ ٥١٦)، والدارقطنيُّ في «سننه» (٢/ ١٨٨)، والطحاويُّ في «شرح معاني الآثار» (٢/ ٦٠). وأخرجه مسلمٌ مِنْ طريقِ ابنِ جُرَيْجٍ عن الزهريِّ (٧/ ٢٢٧).

(١٥) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٦٧ ـ ١٦٨).

(١٦) المصدر السابق (٤/ ١٦٨).

(١٧) انظر: «شرح معاني الآثار» للطحاوي (٢/ ٦١).

(١٨) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٦٨).

(١٩) أخرجها البخاريُّ (٥/ ٢٢٣، ١١/ ٥٩٦).

(٢٠) انظر: «أنيس الساري» للبصارة (١٠/ ٧٠٠).

(٢١) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٦٨)، وانظر: «نيل الأوطار» للشوكاني (٥/ ٢٨٨).

(٢٢) أخرجه مسلمٌ في «الصيام» (٧/ ٢٢٧ ـ ٢٢٨).

(٢٣) انظر: «السنن الكبرى» للبيهقي (٤/ ٣٧٩) رقم: (٨٠٥٠).

(٢٤) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٦٩)، وانظر: «نيل الأوطار» للشوكاني (٥/ ٢٨٨).

(٢٥) انظر الحديثَ الذي أخرجه أبو داود (٢/ ٧٨٦)، والدارقطنيُّ في «سننه» (٢/ ١٧٠)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح أبي داود» (٢/ ٦٧)، وفي آخره أنه صلَّى الله عليه وسلَّم أُتِيَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ قَدْرُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، وَقَالَ فِيهِ: «كُلْهُ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ، وَصُمْ يَوْمًا وَاسْتَغْفِرِ اللهَ».

(٢٦) أخرجه أبو داود (٢/ ٧٨٨) مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها. قال الألبانيُّ في «ضعيف أبي داود» (١٨٤): «شاذٌّ أو مُنْكَرٌ».

(٢٧) أخرجه ابنُ خزيمة في «صحيحه» (٣/ ٢٢١)، قال الألبانيُّ: «إسناده ضعيفٌ».

(٢٨) أخرجه مسدَّدٌ في «مسنده». انظر: «المطالب العالية» لابن حجر (٦/ ٨٠)، قال في «أنيس الساري» (١٠/ ٧٠٧): «إسناده صحيحٌ».

(٢٩) أخرجه الدارقطنيُّ في «سننه» (٢/ ١٨٧)، ولفظُه: «فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا، لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا»، قَالَ: «مَا أَجِدُ»، فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، قَالَ: «أَطْعِمْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا».

(٣٠) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٦٩)، وانظر: «نيل الأوطار» للشوكاني (٥/ ٢٨٨).

(٣١) أخرجه مسدَّدٌ في «مسنده». انظر: «المطالب العالية» (٦/ ٨٠)، وقد سبق تخريجه.

(٣٢) أخرجه أبو داود (٢/ ٧٨٣ ـ ٧٨٥). والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «صحيح أبي داود» (٢/ ٦٦).

(٣٣) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٧١).

(٣٤) انظر: «الغوامض والمُبْهَمات» لعبد الغني (١٢١).

(٣٥) انظر: «رياض الأفهام» للفاكهاني (٣/ ٤٠٤)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٥/ ٢٨٦).

(٣٦) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٦٤)، ثمَّ قال: «ووَقَع في مباحث العامِّ مِنْ «شرح ابنِ الحاجب» ما يُوهِمُ أنَّ هذا الرجل هو أبو بُرْدة بنُ يسارٍ [كذا في الأصل، ولعلَّ الصواب: ابنُ نِيارٍ]، وهو وهمٌ يظهر مِنْ تأمُّلِ بقيَّةِ كلامه».

(٣٧) انظر: «النهاية» لابن الأثير (١/ ١٧٦)، «رياض الأفهام» للفاكهاني (٣/ ٤٠٤ ـ ٤٠٥)، «مغني اللبيب» لابن هشام (١/ ٨٨)، «العدَّة» للصنعاني (٣/ ١٧١).

(٣٨) انظر: «توضيح الأحكام» للبسَّام (٢/ ٧٠٥).

(٣٩) انظر: «النهاية» لابن الأثير (٣/ ١٧٩)، «لسان العرب» لابن منظور (٩/ ٣٦)، «التعريفات الفقهية» للبركتي (١٤٣).

(٤٠) انظر: «توضيح الأحكام» للبسَّام (٢/ ٧٠٥).

(٤١) والعلماء وإِنِ اتَّفقوا على أنَّ الفقير والمسكين تجمعهما الحاجةُ، إلَّا أنهم يختلفون فيمَنْ منهما هو أسوأُ حالًا مِنَ الآخَر، وما ذَهَب إليه الشافعيُّ وجمهورُ أهل الحديث والفقه: أنَّ الفقير أسوأُ حالًا مِنَ المسكين؛ فالمسكينُ يمتلك الشيءَ لكنَّه لا يكفيه، بخلاف الفقير فلا شيءَ له، ويؤيِّده قولُه تعالى: ﴿أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي ٱلۡبَحۡرِ﴾ [الكهف: ٧٩]؛ فسمَّاهم مساكينَ مع أنَّ لهم سفينةً يعملون فيها، [انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٣/ ٣٤٣)]؛ لذلك جَعَل بعضُهم بين الفقير والمسكين عمومًا وخصوصًا؛ فالفقيرُ أعمُّ مطلقًا والمسكينُ أخصُّ؛ وعليه فإنَّ كُلَّ فقيرٍ مسكينٌ، وليس كُلُّ مسكينٍ فقيرًا؛ فشأنُه كالإيمان والإسلام؛ فكُلُّ مؤمنٍ مسلمٌ، وليس كُلُّ مسلمٍ مؤمنًا.

(٤٢) انظر: «جامع العلوم والحِكَم» لابن رجب (٢٦).

(٤٣) انظر: «معالم السنن» للخطَّابي (٢/ ٧٨٧)، «شرح السنَّة» للبغوي (٦/ ٢٨٣)، «النهاية» لابن الأثير (٣/ ٢١٩)، «رياض الأفهام» للفاكهاني (٣/ ٤١٠ ـ ٤١١)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٦٨)، «سُبُل السلام» للصنعاني (٢/ ٣٣٣)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٥/ ٢٨٨).

(٤٥) انظر: «تهذيب اللغة» للأزهري (١٥/ ٢٧٥)، «الصِّحاح» للجوهري (١/ ٢٢٠)، «الاستذكار» لابن عبد البرِّ (٨/ ٢٣٣)، «رياض الأفهام» للفاكهاني (٣/ ٤١٥)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٥/ ٢٨٨)، «توضيح الأحكام» للبسَّام (٢/ ٧٠٥).

(٤٦) رواه البخاريُّ في «الأدب» (١٠/ ٥٠٤) باب التبسُّم والضحك، ومسلمٌ في «صلاة الاستسقاء» (٦/ ١٩٧) باب التعوُّذ عند رؤية الريح والغيم والفرحِ بالمطر، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها قالت: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَجْمِعًا قَطُّ ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ، إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ».

(٤٧) انظر: «رياض الأفهام» للفاكهاني (٣/ ٤١٧)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٧١)، «العدَّة» للصنعاني (٣/ ١٨٤)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٥/ ٢٨٩).

(٤٨) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٦٤).

(٤٩) المصدر السابق (٤/ ١٧٢).

(٥٠) قال البغويُّ ـ رحمه الله ـ في «شرح السنَّة» (٦/ ٢٨٤): «وحُكِي عن سعيد بنِ جبيرٍ وإبراهيمَ النَّخَعيِّ وقتادةَ أنهم قالوا: لا كفَّارةَ عليه، ويُشْبِه أَنْ يكون الحديثُ لم يبلغهم».

(٥١) انظر: «التعليقات على عمدة الأحكام» للسعدي (٢٨٦)، «توضيح الأحكام» للبسَّام (٢/ ٧٠٦).

والجماع المُوجِبُ للكفَّارة المغلَّظة إنما هو إيلاجُ الذَّكَر في الفَرْج قُبُلًا كان أو دُبُرًا، ولو لم يحصل مع الإيلاجِ إنزالٌ، فأمَّا الإنزالُ بالمباشرة دون الفَرْج فلا يُوجِبُ عليه الكفَّارة على الصحيح، وفي إفطار الصائم خلافٌ، انظر: «الكافي» لابن عبد البرِّ (١٢٤)، «تحفة الفقهاء» للسمرقندي (١/ ٥٤٨)، «المغني» لابن قدامة (٣/ ١٢٠)، «شرح الزركشي» على «مختصر الخِرَقي» (٢/ ٥٩١).

(٥٢) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٧٢)، «التعليقات على عمدة الأحكام» للسعدي (٢٨٧ ـ ٢٨٨).

(٥٣) انظر: «توضيح الأحكام» للبسَّام (٢/ ٧٠٧).

(٥٤) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٧٢)، «التعليقات على عمدة الأحكام» للسعدي (٢٨٧).

(٥٥) «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد (٣/ ١٧٣)، وانظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٦٤).

(٥٦) «صحيح البخاري» (١٢/ ١٣١).

(٥٧) «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد (٣/ ١٧٣)، وانظر المنقولَ عن ابنِ دقيق في: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٦٤ ـ ١٦٥).

(٥٨) وبه قال البغويُّ في «شرح السنَّة» (٦/ ٢٨٤).

(٥٩) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٦٥)، وانظر: «العمدة» للعيني (٥/ ٢٥٥).

(٦٠) وهو مِنْ روايةِ عبد الملك بنِ الماجشون، ولا كفَّارةَ عليه في المشهور عن مالكٍ ـ رحمه الله ـ، انظر: «الكافي» لابن عبد البرِّ (١٢٤)، «المغني» لابن قدامة (٣/ ١٢١)، «القوانين الفقهية» لابن جُزَيٍّ (١٢٥)، «شرح الزركشي» على «مختصر الخِرَقي» (٢/ ٥٩٢)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٦٤).

(٦١) انظر: المصادر السابقة، «تحفة الفقهاء» للسمرقندي (١/ ٥٥٦)، «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٠/ ٥٦٩، ٢٥/ ٢٢٨)، «تبيين الحقائق» للزيلعي (١/ ٣٢٢)، «الإنصاف» للمرداوي (٣/ ٣٨٠).

(٦٢) أخرجه أحمد في «مسنده» (٢/ ٢٠٨، ٥١٦).

(٦٣) انظر: «العدَّة» للصنعاني (٣/ ١٧٦)، والمصادر الفقهية السابقة.

(٦٤) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٦٤).

(٦٥) «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد (٣/ ١٧٦).

(٦٦) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٦٥).

(٦٧) انظر: [ترجيحَ الترتيب على التخيير]، «شرح السنَّة» للبغوي (٦/ ٢٨٥)، «إحكام الأحكام» لابن دقيق (٣/ ١٧٩).

(٦٨) انظر: «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد ومعه «العدَّة» للصنعاني (٣/ ١٩١)، «رياض الأفهام» للفاكهاني (٣/ ٤١٤)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٦٧).

(٦٩) انظر: «رياض الأفهام» للفاكهاني (٣/ ٤٠٧)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٦٥)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٥/ ٢٨٧).

(٧٠) انظر: المصادر السابقة، و«شرح السنَّة» للبغوي (٦/ ٢٨٥).

(٧١) هذه المسألة تتعلَّق بما إذا اختلف السببُ واتَّحد الحكمُ: فهل يُحْمَل المطلقُ على المقيَّد أم لا؟ وهل تقييدُه باللغة أم بالقياس؟ خلافٌ بين الأصوليِّين، والذي عليه أهلُ التحقيق: أنه يُحْمَل المطلقُ على المقيَّد، والأقربُ أنه بالقياس بجامعٍ بينهما؛ لجوازِ تخصيص العموم بالقياس، وبهذا قال الجمهورُ، انظر: «شرح اللُّمَع» للشيرازي (١/ ٤١٨)، «إحكام الفصول» للباجي (٢٨١)، «العدَّة» لأبي يعلى (٢/ ٦٣٧)، «الإحكام» للآمدي (٢/ ١٦٣)، «منتهى السول» لابن الحاجب (١٣٦)، «كشف الأسرار» للبخاري (٢/ ٢٨٧)، «مفتاح الوصول» للتلمساني (٥٩٦)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (١٦٥). ومَنَع الحنفيةُ حَمْلَ المطلقِ على المقيَّد في هذه الصورةِ لاختلاف السبب، انظر: «أصول السرخسي» (١/ ٢٦٧)، «فواتح الرحموت» للأنصاري (١/ ٣٦٥).

(٧٢) انظر: «رياض الأفهام» للفاكهاني (٣/ ٤٠٧).

(٧٣) انظر: «إحكام الأحكام» لابن دقيق (٣/ ١٩١).

(٧٤) انظر كونَ شرطِ العلَّةِ عدمَ مخالفتها للنصِّ والإجماع في: «المستصفى» للغزَّالي (٢/ ٣٤٨)، «تيسير التحرير» لباد شاه (٤/ ٣٢)، «شرح العضد» (٢/ ٢٢٩)، «المحلِّي على جمع الجوامع» و«حاشية البناني عليه» (٢/ ٢٥٠)، «فواتح الرحموت» للأنصاري (٢/ ٢٨٩)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (٤/ ٨٥)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (٢٠٨).

(٧٥) انظر: «رياض الأفهام» للفاكهاني (٣/ ٤١٠)، «إحكام الأحكام» لابن دقيق ومعه «العدَّة» للصنعاني (٣/ ١٨٣)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٦٦)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٥/ ٢٨٧).

(٧٦) انظر: «معالم السنن» للخطَّابي (٢/ ٧٨٣)، «شرح السنَّة» للبغوي (٦/ ٢٨٥)، «إحكام الأحكام» لابن دقيق (٣/ ١٨٣)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٦٩)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٥/ ٢٨٨).

مقدار ما يُخرَجُ ـ عند الجمهور ـ في جميع الكفَّارات مُدٌّ لكُلِّ مسكينٍ إلَّا فدية الأذى فيجب فيها لكُلِّ مسكينٍ مُدَّان؛ لحديثِ كعب بنِ عُجْرة رضي الله عنه قال: كَانَ بِي أَذًى مِنْ رَأْسِي، فَحُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ: «مَا كُنْتُ أُرَى أَنَّ الْجَهْدَ بَلَغَ مِنْكَ مَا أَرَى، أَتَجِدُ شَاةً؟» فَقُلْتُ: «لَا»، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿فَفِدۡيَةٞ مِّن صِيَامٍ أَوۡ صَدَقَةٍ أَوۡ نُسُكٖ﴾ [البقرة: ١٩٦]، قَالَ: «صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ نِصْفَ صَاعٍ، طَعَامًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ» [أخرجه البخاريُّ في «المُحْصَر» (٤/ ١٦) باب: الإطعامُ في الفدية نصفُ صاعٍ، ومسلمٌ في «الحجِّ» (٨/ ١٢٠) بابُ جوازِ حَلْق الرأس للمُحْرِم إذا كان به أذًى ووجوبِ الفدية لحَلْقِه وبيانِ قدرِها، واللفظُ له].

(٧٧) تقدَّم تخريجه، انظر: [الهامش ٢٩].

(٧٨) انظر: «شرح السنَّة» للبغوي (٦/ ٢٨٦).

(٧٩) قطعةٌ مِنْ حديثٍ طويلٍ أخرجه أبو داود في «الطلاق» (٢/ ٦٦٠) بابٌ في الظِّهار، والترمذيُّ في «تفسير القرآن» (٥/ ٤٠٥) باب: ومِنْ سورة المجادلة، وحسَّنه. والحديث حسَّنه الألبانيُّ في «صحيح أبي داود» (٢/ ١٤) برقم: (٢٢١٣).

(٨٠) اختلف العلماء القائلون بعدمِ وجوبِ الكفَّارة على المرأة: هل هي مِنِ اختصاص الزوج، أم هي كفَّارةٌ واحدةٌ تقوم عنهما جميعًا؟ [انظر: «إحكام الأحكام» لابن دقيق ومعه «العدَّة» للصنعاني (٣/ ١٨٨)، «رياض الأفهام» للفاكهاني (٣/ ٤١٣)].

هذا، وقد استدلَّ بعضُهم على وجوب الكفَّارة على المرأة بالزيادة في قول الأعرابيِّ الواردةِ في بعضِ طُرُق الحديث: «هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ» بأنَّ قوله: «أهلكتُ» تنبيهٌ على أنه أَكْرَهَها، ولولا ذلك لم يكن مُهْلِكًا لها؛ فلَزِم مِنْ ذلك تعدُّدُ الكفَّارة ووجوبُها على المرأة مطلقًا، سواءٌ كانَتْ مُطاوِعةً أو مُكْرَهةً.

وهذا الاستدلال غيرُ مُنتهِضٍ مِنْ جهتين:

الجهة الأولى: أنَّ الزيادة فيها مقالٌ لا تثبت كما بيَّنه الحافظ ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ في «الفتح» (٤/ ١٧٠)، وقال: «ذَكَر البيهقيُّ أنَّ للحاكم في بطلانها ثلاثةَ أجزاءٍ»، ثمَّ أطال الحافظ ـ رحمه الله ـ في بيانِ بطلانها.

الجهة الثانية: وفي حالةِ ثبوت الزيادة فيمكن توجيهُها مِنْ زاويتين:

الزاوية الأولى: ما ذَكَره ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ بقوله: «ولا يَلْزَم مِنْ ذلك تعدُّدُ الكفَّارة، بل لا يَلْزَم مِنْ قوله: «وأهلكتُ» إيجابُ الكفَّارة عليها، بل يحتمل أَنْ يريد بقوله: «هلكتُ» أثمتُ، و«أهلكتُ» أي: كنتُ سببًا في تأثيمِ مَنْ طاوَعَتْني فواقعتُها؛ إذ لا ريبَ في حصول الإثم على المطاوعة، ولا يلزم مِنْ ذلك إثباتُ الكفَّارةِ ولا نفيُها».

الزاوية الثانية: قد يكون «المعنى: «هلكتُ» أي: حيث وقعتُ في شيءٍ لا أقدر على كفَّارته، و«أهلكتُ» أي: نفسي بفعلي الذي جرَّ عليَّ الإثمَ» [«فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٧٠)].

وقد أكَّد هذا المعنى وقوَّاهُ الصنعانيُّ ـ رحمه الله ـ في «العدَّة» (٣/ ١٩٠) بقوله: «ولا يعزب عنك أنَّ الذي جعله [أي: ابنُ حجرٍ] احتمالًا متعيِّنٌ؛ وليس المرادُ سِواهُ؛ فإنَّ الأعرابيَّ حين جاء مُستفتِيًا وقال: «هلكتُ وأهلكتُ» لم يكن عنده علمٌ بما يَلْزَمه مِنَ الكفَّارة قطعًا؛ ولذا جاء يستفتي ولا علم بالكفَّارة إلَّا مِنْ جوابه صلَّى الله عليه وسلَّم عن سؤاله، وإنما قد عَلِم إثمَ إتيانِه أهلَه في نهارِ رمضان عمدًا لعلمه بأنَّ الجماع محرَّمٌ مفطِّرٌ في نهارِ رمضان».

(٨١) أخرجه ابنُ ماجه في «الطلاق» (١/ ٦٥٩) بابُ طلاق المُكْرَه والناسي، مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما. وصحَّحه الألبانيُّ في «الإرواء» (١/ ١٢٣).

(٨٢) انظر: «معالم السنن» للخطَّابي (٢/ ٧٨٤)، «شرح السنَّة» للبغوي (٦/ ٢٨٨)، «إحكام الأحكام» لابن دقيق (٣/ ١٨٧)، «رياض الأفهام» للفاكهاني (٣/ ٤٠٨)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٧٠)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٥/ ٢٨٨)، «توضيح الأحكام» للبسَّام (٢/ ٧٠٧).

(٨٣) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٧٣).

(٨٤) انظر: «توضيح الأحكام» للبسَّام (٢/ ٧٠٨).

(٨٥) انظر: «رياض الأفهام» للفاكهاني (٣/ ٤١٧)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٧٣)، وقال ـ رحمه الله ـ في (١٠/ ٥٠٤) في تعريف الضحك والفرقِ بينه وبين التبسُّم والقهقهة: «قال أهل اللغة: التبسُّمُ: مبادئُ الضحك، والضحك: انبساطُ الوجه حتَّى تظهر الأسنانُ مِنْ السرور، فإِنْ كان بصوتٍ وكان بحيث يُسمَعُ مِنْ بُعدٍ فهو القهقهة، وإلَّا فهو الضحك، وإِنْ كان بلا صوتٍ فهو التبسُّمُ، وتُسمَّى الأسنانُ في مقدَّمِ الفمِ: الضواحكَ، وهي الثنايا والأنيابُ وما يليها وتُسمَّى: النواجذَ».

(٨٦) أسباب الضحك مختلفةٌ؛ فتارةً تكون للإعجاب، وتارةً للملاطفة، وأكثرُها للتعجُّب، [«فتح الباري» لابن حجر (١٠/ ٥٠٥)].

(٨٧) انظر: الزيادة على التبسُّم في [الموضع الأوَّل]، [الموضع الثاني].

(٨٨) انظر: «إحكام الأحكام» لابن دقيق (٣/ ١٨٤)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٧١)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٥/ ٢٨٩).

(٨٩) انظر: «إحكام الأحكام» لابن دقيق (٣/ ١٨٥)، «رياض الأفهام» للفاكهاني (٣/ ٤١٧)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٧٢).

(٩٠) تقدَّم تخريجه، انظر: [الهامش ٢٥].

(٩١) أخرجه البخاريُّ (٩/ ٥١٣ ـ ٥١٤، ١٠/ ٥٠٣، ٥٥٢).

(٩٢) انظر تحقيقَ قاعدةِ: «عدمِ جوازِ تأخير البيان عن وقت الحاجة» في: «الفقيه والمتفقِّه» للخطيب البغدادي (١/ ١٢١)، «البرهان» للجُوَيْني (١/ ١٦٦)، «المستصفى» للغزَّالي (١/ ٣٦٨)، «فواتح الرحموت» للأنصاري (٢/ ٤٩)، «العدَّة» لأبي يعلى (٣/ ٧٢٤)، «كشف الأسرار» للبخاري (٣/ ١٠٨)، «تيسير التحرير» لبادشاه (٣/ ١٧٤)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (٣/ ٤٥١)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (١٧٣)، «مذكِّرة الشنقيطي في أصول الفقه» (١٨٥).

(٩٣) انظر: «توضيح الأحكام» للبسَّام (٢/ ٧٠٧).

(٩٤) «شرح السنَّة» للبغوي (٦/ ٢٨٧).

(٩٥) أخرجه ابنُ ماجه (١/ ٥٣٤)، قال الألبانيُّ في «إرواء الغليل» (٤/ ٩٣): «صحيحٌ بمجموعِ طُرُقه وشواهده».

(٩٦) تقدَّم تخريجه، انظر: [الهامش ٢٥].

(٩٧) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٧٢)، «شرح السنَّة» للبغوي (٦/ ٢٨٨)، «سُبُل السلام» للصنعاني (٢/ ٣٣٤).

(٩٩) حُكِيَ عن الشعبيِّ وسعيد بنِ جُبَيْرٍ والنَّخَعيِّ وقتادةَ أنهم قالوا: لا كفَّارةَ عليه؛ لأنَّ الصوم عبادةٌ، والكفَّارةُ لا تجب بإفسادِ قضائها فلا تجب عن أدائها؛ قياسًا على الصلاة بجامع العبادة.

ولا يخفى أنَّ حديث الباب في قصَّةِ الأعرابيِّ حجَّةٌ ظاهرةٌ لا ينتهض القياسُ في مُعارَضتِها، ولأنَّ إلحاق الأداء بالقضاء ظاهرٌ في الفرق؛ ذلك لأنَّ الأداء يتعلَّق بزمنٍ مخصوصٍ يتعيَّن به، والقضاء محلُّه الذمَّةُ فافترقا، ولأنَّ حديث الباب يخالف أَمْرَ الصلاة؛ إذ لا مدخلَ للمال في جُبْرانها بخلافِ موضوعِ هذه المسألة، [انظر: «المغني» لابن قدامة (٣/ ١٢٠)، «المجموع» للنووي (٦/ ٣٤٤)].

(١٠٠) انظر: «المسالك في شرح موطَّإ مالك» (٤/ ١٩٦) و«القَبَس» (٢/ ٤٩٨) كلاهما لابن العربي، «اختلاف الأئمَّة العلماء» لابن هبيرة (١/ ٢٤١)، «شرح السنَّة» للبغوي (٦/ ٢٨٤)، «المغني» لابن قدامة (٣/ ١٢٠)، «المجموع» للنووي (٦/ ٣٤٤).

(١٠١) «اختلاف الأئمَّة العلماء» لابن هبيرة (١/ ٢٣٨)، «المغني» لابن قدامة (٣/ ١١٥)، «الإنصاف» للمرداوي (٣/ ٢٨٠).

(١٠٢) نَقَل ابنُ المنذر ـ رحمه الله ـ في «الإشراف على مذاهب العلماء» (٣/ ١٢٧ ـ ١٢٨) عن الأئمَّة الأربعةِ وغيرِهم خمسةَ أقوالٍ وآراءً أخرى، رجَّح منها مذهبَ القائلين بلزوم القضاء دون الكفَّارة، فقال ـ رحمه الله ـ ما نصُّه: «واختلفوا فيما يجب على مَنْ أَكَل أو شَرِب في نهارِ شهرِ رمضانَ عامدًا: فقال سعيد بنُ جُبَيْرٍ والنَّخَعيُّ وابنُ سيرين وحمَّاد بنُ أبي سليمان والشافعيُّ وأحمد: عليه القضاء وليس عليه الكفَّارة، وقال الزُّهريُّ ومالكٌ والثوريُّ والأوزاعيُّ وإسحاقُ وأبو ثورٍ وأصحابُ الرأي: عليه ما على المُجامِع مِنَ الكفارة، وروينا ذلك عن عطاءٍ والحسن، وقال سعيد بنُ المسيِّب: عليه صومُ شهرٍ، وقد روينا عن عطاءٍ قولًا رابعًا وهو أنَّ عليه تحريرَ رقبةٍ، فإِنْ لم يجد فبَدَنةً أو بقرةً أو عشرين صاعًا مِنْ طعامٍ يُطْعِمه المساكينَ، فيمن أفطر يومًا مِنْ رمضانَ مِنْ غير علَّةٍ، وفيه قولٌ خامسٌ: وهو أنَّ عليه أَنْ يصوم اثنتَيْ عَشَرَ شهرًا؛ لأنَّ الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا[التوبة: ٣٦]، هذا قولُ ربيعةَ بنِ أبي عبد الرحمن وهذه حجة، وقد روينا عن النَّخَعيِّ أنه قال: عليه صومُ ثلاثةِ آلافِ يومٍ، وروينا عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّ عليه عِتْقَ رقبةٍ أو صومَ شهرٍ أو إطعامَ ثلاثين مسكينًا، وروينا عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ وعبد الله أنهما قالا: لا يَقْضِه أبدًا وإِنْ صام الدَّهْرَ كُلَّه. قال أبو بكرٍ: بالقول الأوَّل أقولُ».

(١٠٣) انظر: «تحفة الفقهاء» للسمرقندي (١/ ٥٥٣)، «المبسوط» للسرخسي (٢/ ٦٨)، «بدائع الصنائع» للكاساني (٢/ ١٤٧)، «تبيين الحقائق» للزيلعي (١/ ٣٢٧)، «الاختيار» لابن مودود (١/ ١٣١).

(١٠٤) انظر: «التمهيد» (٧/ ١٦٩) و«الكافي» (١٢٤) كلاهما لابن عبد البرِّ، «التفريع» لابن الجلَّاب (١/ ٣٠٥)، «المنتقى» للباجي (٢/ ٥٢)، «المسالك» لابن العربي (٤/ ١٩٦)، «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٣٠٢)، «الإشراف» للقاضي عبد الوهَّاب (١/ ٤٣٣).

(١٠٥) انظر: مَصادِرَ الحنفية السابقة.

(١٠٦) انظر: «الإشراف» للقاضي عبد الوهَّاب (١/ ٤٣٣)، «المسالك» لابن العربي (٤/ ١٩٦).

(١٠٧) انظر: «الأمَّ» للشافعي (٢/ ١٠٠)، «المهذَّب» للشيرازي (١/ ١٩٠)، «المجموع» (٦/ ٣٤١) و«روضة الطالبين» (٣٧) كلاهما للنووي، «مغني المحتاج» للشربيني (١/ ٤٤٣)، «نهاية المحتاج» للرملي (٣/ ٢٠١).

(١٠٨) انظر: «المغني» لابن قدامة (٣/ ١١٥)، «المحرَّر» للمجد بنِ تيمية (١/ ٢٢٩)، «رؤوس المسائل الخلافية» للعكبري (٢/ ٥١٢)، «العدَّة» للبهاء المقدسي (١٥٣)، «الإنصاف» للمرداوي (٣/ ٢٨٩).

(١١٠) الحديث لم أقِفْ عليه، قال الزيلعيُّ ـ رحمه الله ـ في «نصب الراية» (٢/ ٤٤٩ ـ ٤٥٠): «حديثٌ غريبٌ بهذا اللفظ، والمصنِّف ـ رحمه الله ـ استدلَّ به هنا على أنَّ الكفَّارة تجب على المرأة كما تجب على الرجل، يعني: في الجماع؛ لأنَّ «مَنْ» تُطْلَق على المذكَّر والمؤنَّث، خلافًا للشافعيِّ ـ رحمه الله ـ في أحَدِ قولَيْه، وبمذهبنا قال أحمدُ، والحديث لم أجِدْه».

(١١١) أخرجه الدارقطنيُّ في «الصيام» (٢/ ١٧٠) باب القُبْلة للصائم، وفي سنده: يحيى بنُ الحِمَّانيِّ، وهو ضعيفٌ، كما سيأتي بيانُه في مناقشة الأدلَّة، انظر: [حُكمَ المُحدِّثين على يحيى بنِ الحِمَّاني].

(١١٢) انظر: «بدائع الصنائع» للكاساني (٢/ ١٤٨)، «الاختيار لتعليل المختار» لابن مودود (١/ ١٣١).

(١١٣) تقدَّم تخريجه، انظر: [الهامش ١٤].

(١١٤) «التمهيد» لابن عبد البرِّ (٧/ ١٦٢).

(١١٥) «القَبَس» لابن العربي (٢/ ٥٠٣).

(١١٦) «تبيين الحقائق» للزيلعي (٦/ ٣٢٨).

(١١٧) أخرجه الطبرانيُّ في «المعجم الكبير» (١٣/ ١٤٦) و«المعجم الأوسط» (٨/ ١٣١)، وأبو يعلى في «مسنده» (١٠/ ٨٩). والحديث مُرْسَلٌ كما سيأتي، انظر: [مناقشة الحديث].

(١١٨) انظر: «شرح العمدة» [كتاب الصيام] لابن تيمية (٢٧٦).

(١١٩) انظر: «أصول السرخسي» (١/ ٣٦٠)، «المستصفى» للغزَّالي (٢/ ١٦٩)، «الإحكام» للآمدي (١/ ٢٩٩)، «مختصر المنتهى» لابن الحاجب (٢/ ٧٤)، «شرح مسلم» للنووي (١/ ١٣٢)، «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (٣٧٩)، «اختصار علوم الحديث» لابن كثير (٤٨)، «تدريب الراوي» للسيوطي (١/ ١٦٢)، «توضيح الأفكار» للصنعاني (٤/ ٢٨٧)، «فواتح الرحموت» للأنصاري (١/ ١٧٤)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (٦٤).

(١٢٠) أخرجه الدارقطنيُّ في «الصيام» (٢/ ١٧٠) باب القُبْلة للصائم. والحديث ضعيفٌ، انظر: [مناقشة الحديث].

(١٢١) رواها محمَّد بنُ الحسن الشيبانيُّ في «الأصل» [المبسوط] (٢/ ١٤٦).

(١٢٢) انظر: «الإشراف» للقاضي عبد الوهَّاب (١/ ٤٣٣)، «المنتقى» للباجي (٢/ ٥٢)، «المبسوط» للسرخسي (٢/ ٦٨)، «المسالك» لابن العربي (٤/ ١٩٦).

(١٢٣) انظر: «القَبَس» لابن العربي (٢/ ٥٠٣).

(١٢٤) «المبسوط» للسرخسي (٢/ ٦٨).

(١٢٥) هو أبو بكر بنُ مسعود بنِ أحمد، علاءُ الدِّين الكاسانيُّ الحنفيُّ، فقيهٌ أصوليٌّ، لُقِّب ـ في زمانه ـ بملك العلماء لبراعته في الفقه، وتَفقَّه على علاء الدين السمرقنديِّ صاحبِ «التحفة» وغيرِه، مِنْ آثاره: «السلطان المبين في أصول الدين» و«بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع»، تُوُفِّيَ بحلب سنة: (٥٨٧ﻫ).

انظر مصادر ترجمته في: «الجواهر المضيئة» للقُرَشي (٢/ ٢٤٤)، «بغية الطلب في أخبار حلب» لابن العديم (١٠/ ٤٣٤٧)، «تاج التراجم» لابن قطلوبغا (رقم: ٣٢٧)، «كشف الظنون» (٣٧١، ٩٩٦) و«سلَّم الوصول» (١/ ٨٩) كلاهما لحاجي خليفة، «الأعلام» للزركلي (٢/ ٧٠)، «معجم المؤلِّفين» لكحالة (١/ ٤٤٦).

(١٢٦) «بدائع الصنائع» للكاساني (٢/ ١٤٩).

(١٢٧) انظر: «الذخيرة» للقرافي (٢/ ٥١٨)، «مذكِّرة الشنقيطي في الأصول» (٢٤٤).

(١٢٨) انظر: «الذخيرة» للقرافي (٢/ ٥١٨).

(١٢٩) وهذه المسألة المتعلِّقة بترجيح العلَّة الأعمِّ فروعًا مُختلَفٌ فيها بين العلماء ـ أصوليًّا ـ. ويرجع سببُ الخلاف فيها إلى الاختلاف في ترجيح العلَّة المتعدِّية على العلَّة الواقفة (القاصرة)؛ فمَنْ رجَّح العلَّةَ المتعدِّيَةَ على القاصرة قال بالترجيح بكثرة الفروع، ومَنْ رجَّح العلَّةَ القاصرة على المتعدِّيَةِ أو سوَّى بينهما قال: لا يُرجَّحُ بكثرة الفروع. والصحيح: مذهبُ الجمهورِ مِنْ ترجيح العلَّة المتعدِّيَة على القاصرة؛ لأنَّ العلَّة المتعدِّيَةَ أتمُّ فائدةً مِنَ العلَّة القاصرة وأكثرُ منفعةً وأغزرُ فروعًا وأحكامًا، والفروعُ تجري مجرى شهادةِ الأصول لها بالصحَّة، [انظر: «الإنارة» للمؤلِّف (٥٣٥ ـ ٥٣٦)].

(١٣٠) «شرح العمدة» [كتاب الصيام] لابن تيمية (٢٧٧).

(١٣١) المصدر السابق، الصفحة نفسها.

(١٣٢) انظر: «المغني» لابن قدامة (٣/ ١١٥)، «شرح الزركشي» على «مختصر الخِرَقي» (٢/ ٥٨٧)، «المجموع» للنووي (٦/ ٣٤١).

(١٣٣) انظر: «المغني» لابن قدامة (٣/ ١١٦)، «شرح العمدة» [كتاب الصيام] لابن تيمية (٢٨٠).

(١٣٤) «بدائع الصنائع» للكاساني (٢/ ١٤٨).

(١٣٥) قال ابنُ الأثير في «النهاية» (٥/ ٣٢): «نُخْرَتَا الأنف: ثُقْباهُ، والنَّخَرةُ ـ بالتحريك ـ: مقدَّمُ الأنف، والمَنْخِر والمَنْخِران ـ أيضًا ـ: ثُقْبَا الأنف .. وحديثُ عمر ـ وقِيلَ: عليٍّ ـ: «أنه أُتِيَ بسكرانَ في شهرِ رمضانَ فقال: للمَنْخِرين» أي: كبَّه اللهُ لمَنْخِريه، ومثلُه قولُهُم في الدعاء: لليدين وللفم».

(١٣٦) ذَكَره البخاريُّ في «صحيحه» (٤/ ٢٠٠) تعليقًا بلفظ: «وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِنَشْوَانٍ فِي رَمَضَانَ: «وَيْلَكَ، وَصِبْيَانُنَا صِيَامٌ؟!»، فَضَرَبَهُ». والأثر أخرجه عبد الرزَّاق في «المصنَّف» (٧/ ٣٨٢، ٩/ ٢٣١)، والبيهقيُّ في «السنن الكبرى» (٨/ ٥٥٦)، وأبو القاسم البغويُّ في «الجعديات» (١/ ٤١٥)، وعزاه ابنُ حجرٍ لسعيد بنِ منصورٍ في «تغليق التعليق» (٣/ ١٩٦) و«الفتح» (٤/ ٢٠١).

(١٣٧) أخرجه أحمد في «المسائل» ـ روايةَ ابنِه أبي الفضل صالحٍ ـ (٢/ ٣٢٥، ٣٢٦)، وابنُ أبي شيبة في «المصنَّف» (٥/ ٥٢٤)، وعبد الرزَّاق في «المصنَّف» (٧/ ٣٨٢، ٩/ ٢٣١)، والبيهقيُّ في «السنن الكبرى» (٨/ ٥٥٨)، والطحاويُّ في «شرح معاني الآثار» (٣/ ١٥٣)، مِنْ حديثِ عطاء بنِ أبي مروان عن أبيه، قال الألبانيُّ في «إرواء الغليل» (٨/ ٥٧): «إسناده حسنٌ».

(١٣٨) انظر: «شرح العمدة» لابن تيمية [كتاب الصيام] (٢٧٩).

(١٣٩) انظر قولَ الصحابيِّ إذا انتشر ولم يُخالَفْ [الإجماع السكوتي] في: «شرح اللُّمَع» للشيرازي (٢/ ٦٩٠)، «إحكام الفصول» (٤٧٣) و«الإشارة» ـ بتحقيقي ـ (٢٨٤) كلاهما للباجي، «البرهان» للجويني (١/ ٦٩٨)، «المستصفى» للغزَّالي (١/ ١٦١)، «أصول السرخسي» (١/ ٣٠٣)، «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ٣٨١)، «الإحكام» للآمدي (١/ ١٨٦)، «المسوَّدة» لآل تيمية (٣٣٥)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (٨٤).

(١٤٠) انظر: «التمهيد» لابن عبد البرِّ (٧/ ١٧٢)، «رؤوس المسائل الخلافية» للعكبري (٢/ ٥١٢).

(١٤١) أخرجه أبو داود في «الصوم» (٢/ ٧٧٦) باب الصائم يستقيء عامدًا، والترمذيُّ في «الصوم» (٣/ ٩٨) بابُ ما جاء فيمَنِ استقاءَ عمدًا، وابنُ ماجه في «الصوم» (١/ ٥٣٦) بابُ ما جاء في الصائم يَقيءُ، وأحمد (٢/ ٤٦٨). وأعلَّه أحمد والبخاريُّ كما في «نصب الراية» للزيلعي (٢/ ٤٤٨)، وصحَّحه الألبانيُّ في «الإرواء» (٤/ ٥١) وفي «صحيح الجامع» (٥/ ٢٩١).

(١٤٢) «معالم السنن» للخطَّابي (٢/ ٧٧٧).

(١٤٣) انظر: «التمهيد» لابن عبد البرِّ (٧/ ١٧٢)، «رؤوس المسائل الخلافية» للعكبري (٢/ ٥١٢)، ونَقَل التلمسانيُّ ـ رحمه الله ـ عن المالكيَّة أنهم أَوْجَبوا الكفَّارةَ على الجناية على الصوم بتعمُّدِ الإفساد مُطلَقًا، فأوجبوا الكفَّارةَ بابتلاع الحصاة والنواة. «مفتاح الوصول» ـ بتحقيقي ـ (٧٦٢). وانظر: «المنتقى» للباجي (٢/ ٥٢)، «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٣٠٢).

(١٤٤) انظر: «المغني» لابن قدامة (٣/ ١١٥).

(١٤٥) انظر: «شرح العمدة» [كتاب الصيام] لابن تيمية (٢٨٠).

(١٤٧) تقدَّم تخريجه، انظر: [الهامش ١١١].

(١٤٨) «المغني في الضعفاء» للذهبي (٢/ ٧٣٩)، وانظر: «ميزان الاعتدال» للذهبي (٤/ ٣٩٢).

(١٤٩) «تقريب التهذيب» لابن حجر (٢/ ٣٥٢).

(١٥٠) انظر: «التحقيق» لابن الجوزي (٢/ ٨٧)، «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (٣/ ٢٢٩).

(١٥١) تقدَّم تخريجه، انظر: [الهامش ١٤].

(١٥٢) «العِلَل» للدارقطني (١٠/ ٢٢٥)، وانظر: «التحقيق» لابن الجوزي (٢/ ٨٧).

(١٥٤) انظر: «تهذيب السنن» [هامش «عون المعبود»] لابن القيِّم (٧/ ٢٤ ـ ٢٥).

(١٥٥) سبق تخريجه، انظر: [الهامش ١١٧].

(١٥٦) «المعجم الأوسط» للطبراني (٨/ ١٣١).

(١٥٧) «عِلَل الحديث» لابن أبي حاتم (١/ ٢٢٤).

(١٥٨) «العِلَل» للدارقطني (١٢/ ٤٣٠).

(١٥٩) انظر: «مقدِّمة ابنِ الصلاح» (٢٦)، «مقدِّمة النووي في شرح مسلم» (١/ ١٣٢)، «اختصار علوم الحديث» لابن كثير (٤٨)، «شرح نخبة الفِكَر» لابن حجر (٧٤)، والمراجع الأصولية السابقة المتعلِّقة بالحديث المُرْسَل في [الهامش ١١٩].

(١٦٠) سبق تخريجه، انظر: [الهامش ١٢٠].

(١٦١) «سنن الدارقطني» (٢/ ١٧٠).

(١٦٢) «التحقيق» لابن الجوزي (٢/ ٨٧).

(١٦٣) «التلخيص الحبير» لابن حجر (٢/ ٢٠٧ ـ ٢٠٨).

(١٦٤) «تقريب التهذيب» لابن حجر (١/ ١٦٩)، وانظر: «تهذيب التهذيب» له (٢/ ٣٠٤).

(١٦٥) «تقريب التهذيب» لابن حجر (٢/ ٢٤٤).

(١٦٦) انظر تخريجه: [الهامش ١٣٧].

(١٦٨) «شرح العمدة» [كتاب الصيام] لابن تيمية (٢٧٨)، وانظر هذا المعنى في: «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٣٠٣).

(١٧١) انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٣٠٢ ـ ٣٠٣).

(١٧٢) انظر: «مذكِّرة الشنقيطي» (٢٤٤ ـ ٢٤٥).

(١٧٣) تنبيه: يجدر التنبيه إلى أنه لا يَلْزَم ـ مِنَ القول بوجوب التوبة على المفطر في نهارِ رمضانَ عمدًا بأكلٍ أو شربٍ دون الكفَّارة ـ التساهلُ في أمر الدِّين، أو فتحُ بابٍ لانتهاكِ شهرِ رمضان، بل بالعكس فإنَّ المفطر عمدًا بأكلٍ أو شربٍ والذي يجب في حقِّه التوبةُ أعظمُ بلاءً وأشدُّ خطرًا ممَّنْ تجب في حقِّه الكفارةُ، فمثله مثل اليمين المُنعقِدة التي تجب ـ في حقِّ الحانث فيها ـ الكفَّارةُ بالنصِّ، دون اليمين الغموس أو الكاذبة التي تَلْزَم صاحبَها التوبةُ على الصحيح مِنْ قولَي أهل العلم؛ ذلك لأنَّ الكفَّارة زاجرةٌ مرتَّبةٌ على مُقترِفِ المعصية التي لا يتمُّ جبرُها إلَّا بإتيان الكفَّارة، وتبرأ ذِمَّتُه بأدائها، بخلافِ مَقامِ التوبة فأمرُها أشدُّ عند الله وأعظمُ مِنَ الكفَّارة المجرَّدة كالشرك والمُوبِقات والكبائر التي لم يُرتِّب الشارعُ عليها كفَّاراتٍ؛ للاحتمال الدائر بين قَبول التوبة وغفرانِه له، مِنْ عدمه واستحقاقِه للعقاب.

وممَّا يعكس خطورةَ انتهاكِ المفطر لصومه عمدًا: حديثُ أبي أمامة الباهليِّ رضي الله عنه قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلَانِ، فَأَخَذَا بِضَبْعَيَّ فَأَتَيَا بِي جَبَلًا وَعْرًا فَقَالَا: «اصْعَدْ» فَقُلْتُ: «إِنِّي لَا أُطِيقُهُ»، فَقَالَا: «إِنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ»، فَصَعِدْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي سَوَاءِ الْجَبَلِ إِذَا بِأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ، قُلْتُ: «مَا هَذِهِ الْأَصْوَاتُ؟» قَالُوا: «هَذَا عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ»، ثُمَّ انْطُلِقَ بِي فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ، مُشَقَّقَةٍ أَشْدَاقُهُمْ، تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا»، قَالَ: «قُلْتُ: «مَنْ هَؤُلَاءِ؟» قَالَ: «هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ»» [أخرجه ابنُ خزيمة (٣/ ٢٣٧)، وابنُ حبَّان (٢/ ١٩٨)، والحاكم (١/ ٤٣٠، ٢/ ٢٠٩ ـ ٢١٠). وصحَّحه الألبانيُّ «السلسلة الصحيحة» (٧/ ١٦٧١) رقم: (٣٩٥) وفي «صحيح موارد الظمآن» (٢/ ٢٠٠)].

والحديث دلَّ ـ بمفهومه الأَوْلويِّ ـ أنه إذا كانتِ العقوبةُ المرتَّبةُ في الحديث على مَنْ صام ثمَّ أفطر عمدًا قبل حلول وقت الإفطار فإنَّ حالَ مَنْ يفطر عمدًا أو لا يصوم أصلًا أشدُّ عقابًا وأنكى عذابًا، [انظر: تعليق الألبانيِّ على الحديث في «السلسلة الصحيحة» (٧/ ١٦٧١) رقم: (٣٩٥)]. وقد جاء عن سُفْيَان بنِ عُيَيْنة ـ رحمه الله ـ ما يُفيدُ هذا المعنى بقوله:  «كُلُّ ذَنْبٍ جُعِلَتْ فيه كفَّارةٌ فهو مِنْ أيسرِ الذنوب، وكُلُّ ذَنْبٍ لم يُجْعَلْ فيه الكفَّارةُ فهو أَشَدُّ الذنوب، والكذبُ لم يُجْعَلْ فيه كفَّارةٌ مِنْ عِظَمِه» [«جزءٌ فيه مجلسان مِنْ إملاء النسائي» (٣٧)].

(١٧٤) انظر: «التمهيد» لابن عبد البرِّ (٧/ ١٧٢).

(١٧٥) «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٣٠٣).