Skip to Content
الخميس 18 رمضان 1445 هـ الموافق لـ 28 مارس 2024 م

[ الحلقة الأخيرة ]

سادسًا: مواقف العلماء مِنَ الحديث [فقه الحديث]:

  نصُّ الحديث:

عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه أنه قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ؟»، وَهِيَ بِئْرٌ يُطْرَحُ فِيهَا الْحِيَضُ وَلَحْمُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»(١).

  تحرير محلِّ النزاع:

اتَّفق العلماءُ على أنَّ الماءَ القليلَ والكثيرَ إذا حلَّتْ فيه النجاسةُ فغيَّرَتِ النجاسةُ الماءَ في طعمِه أو لونه أو رِيحِه: أنه نجسٌ لا يصلح للطهارة(٢).

كما اتَّفقوا على أنَّ الماء الكثير إذا وقعَتْ فيه نجاسةٌ ولم تُغيِّرْ أحَدَ أوصافِه الثلاثة: أنه باقٍ على طهارَتِه، بناءً على أنَّ «الأَصْلَ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ»(٣).

غير أنهم يختلفون في الماء القليل إذا لاقَتْه نجاسةٌ ولم تُغيِّرِ النجاسةُ الماءَ في لونه ولا طعمِه ولا رِيحه: فهل يخرج الماءُ عن طهوريَّتِه أم هو باقٍ على أصلِ خِلقَتِه؟

أ/  مذاهب العلماء في المسألة:

اختلف العلماءُ في حكم الماء القليل إذا حلَّتْ فيه نجاسةٌ ولم تُغيِّرْ أحَدَ أوصافِه الثلاثة إلى مذهبَيْن مشهورَيْن(٤):

الأوَّل: مذهب الجمهور، وهو: أنَّ قليلَ الماءِ وكثيرَه إذا حلَّتْ فيه نجاسةٌ ولم تغلب عليه بطعمٍ أو لونٍ أو ريحٍ فإنه لا ينجِّسُه شيءٌ، وهو قولُ أبي هريرة وابنِ عبَّاسٍ وحُذَيْفةَ وغيرِهم مِنَ الصحابة رضي الله عنهم، وبه قال ابنُ أبي ليلى وابنُ المسيِّبِ وسعيد بنُ جُبَيْرٍ، وهو قولُ المدنيِّين وروايةُ المدنيِّين عن مالكٍ، وبهذا أخَذَ المَالكيُّون البغداديُّون كالقاضي إسماعيلَ والأبهريِّ وابنِ القصَّار وغيرِهم(٥)، وهي روايةٌ عن أحمدَ اختارها طائفةٌ مِنْ أصحابه(٦)، ورجَّحه الرويانيُّ مِنْ أتباع الشافعيِّ(٧).

الثاني: مذهب المفصِّلين: وفرَّق عُلَماءُ آخَرُون بين القليل والكثير، فهؤلاء يرَوْن أنَّ الماءَ القليل إذا حلَّتْ به نجاسةٌ كان نجسًا، وإِنْ كان كثيرًا بقي على طهوريَّتِه، غير أنهم يختلفون في الحدِّ بين القليل والكثير:

·  فمذهب الشافعيِّ وأحمدَ في المشهور عنه ورواية عن مالكٍ ـ رحمهم الله ـ أنَّ حدَّ القليلِ والكثير هو قُلَّتان مِنْ قِلالِ هَجَرَ(٨) يكون نحوًا مِنْ خمسِ قِرَبٍ(٩)؛ وعليه فإنَّ حديثَ القُلَّتَيْن ـ الذي سيأتي قريبًا(١٠) ـ يفرِّق بين القُلَّتَيْن وما فوق، وبين ما كان دون القُلَّتَيْن:

ـ   فلا يحمل الخَبَثَ إذا كان الماءُ قُلَّتَيْن وحلَّتْ فيه نجاسةٌ ولم تُغيِّرْ مِنْ أوصافه شيئًا، ويبقى على طهوريَّتِه؛ ويأخذ هذا الحكمَ بالأَوْلى إذا كان الماءُ فوق القُلَّتَيْن.

ـ   أمَّا إذا كان الماءُ دون القُلَّتَيْن ولاقَتْه نجاسةٌ فإنه يحمل الخَبَثَ وإِنْ لم تُغيِّرِ النجاسةُ وصفًا مِنْ أوصافه الثلاثة(١١).

·  أمَّا مذهبُ أبي حنيفة وأصحابِه فإنَّ حدَّ الكثير الذي لا تنجِّسه النجاسةُ هو أَنْ يكون الماءُ بكثرةٍ بحيث إذا حرَّكه آدَميٌّ مِنْ أحَدِ طَرَفَيْه لم تَسْرِ الحركةُ إلى الطَّرَف الثاني منه؛ وبعبارةٍ أخرى: «إِنْ كان بحالٍ يَخْلُصُ بعضُه إلى بعضٍ فهو قليلٌ، وإِنْ كان لا يَخْلُصُ فهو كثيرٌ»(١٢)؛ لأنَّ الظاهر أنَّ النجاسة لا تَصِلُ إليه؛ وقِيلَ غيرُ ذلك.

وعليه، فعند الحنفيَّة أنَّ الماء ينجس بملاقاة النجاسة، سواءٌ كان الماءُ قليلًا أو كثيرًا إذا أَمكنَ أَنْ يَصِل إليه ما ينجِّسُه، وهذا رأيُ الإمام أبي حنيفة، غير أنَّ الحنفيَّةَ اختلفوا في هذا التقدير(١٣).

·  وفي المسألة تفصيلٌ آخَرُ لمالكٍ ـ رحمه الله ـ رجَّحه ابنُ رشدٍ ـ رحمه الله ـ، وهو أنَّ الماء القليلَ إذا حلَّتْ فيه النجاسةُ فهو مكروهٌ إذا لم تُغيِّرْ أحَدَ أوصافه، والماءَ الكثير جائزٌ ولا يكون نجسًا إلَّا إذا غيَّرَتْ أحَدَ أوصافِه(١٤).

ب/  أدلَّة المذاهب السابقة

أتناول ـ ابتداءً ـ أدلَّةَ الجمهور القائلين بأنَّ الماء إذا لاقَتْه نجاسةٌ ولم تغيِّرْ أحَدَ أوصافِه الثلاثةِ لا يتنجَّس، سواءٌ كان الماءُ كثيرًا أو قليلًا، هذا أوَّلًا، ثمَّ أستتبعه بأدلَّةِ المفصِّلين بين الماء القليل والكثير في ملاقاته النجاسةَ ثانيًا.

١/  أدلَّة الجمهور:

استدلَّ الجمهورُ بالكتاب والسُّنَّة:

·  أمَّا مِنَ الكتاب فبقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ طَهُورٗا ٤٨[الفرقان]، وبقوله تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ[الأنفال: ١١].

فظاهرُ الآيتين يفيد أنَّ كُلَّ ما يقع اسْمُ الماء عليه ـ لغةً ـ دون شرطٍ ولا قيدٍ فهو ماءٌ طَهورٌ باقٍ على خِلْقَتِه يصلح التطهُّرُ به، سواءٌ كان قليلًا أو كثيرًا، لا ينجِّسُه شيءٌ إلَّا أَنْ تغلب عليه النجاسةُ بلونٍ أو طعمٍ أو ريحٍ(١٥).

وفي الآيتين ـ أيضًا ـ وإِنْ كان لفظُ «ماء» فيهما نكرةً في سياق الإثبات والتي تفيد ـ في الأصل ـ الإطلاقَ، إلَّا أنه وَرَد في مَعرِض الامتنان، فيعمُّ كُلَّ ماءٍ(١٦).

وبقوله تعالى: ﴿فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ[النساء: ٤٣؛ المائدة: ٦]؛ فالآية تدلُّ على أنَّ كُلَّ ما وَقَع عليه اسْمُ الماء فهو طاهرٌ وطَهورٌ؛ لأنَّ «ماءً» في الآية نكرةٌ في سياق النفي، فيعمُّ كُلَّ ما هو ماءٌ، لا فَرْقَ في ذلك بين نوعٍ ونوعٍ(١٧).

·  وأمَّا مِنَ السُّنَّة فبحديث الباب في قوله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»(١٨)، وفي زيادةٍ بالاستثناء مِنْ حديثِ أبي أُمامةَ وثوبانَ رضي الله عنهما: «إِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ»، وفي لفظٍ للبيهقيِّ مِنْ حديثِ أبي أمامة رضي الله عنه: «إِنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ إِلَّا إِنْ تَغَيَّرَ رِيحُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ بِنَجَاسَةٍ تَحْدُثُ فِيهَا»(١٩)، وبحديثِ أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا؛ أَفَنَتَوَضَّأُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ؟» فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ»»(٢٠).

فهذه الأحاديثُ تدلُّ على أنَّ الماء لا يتنجَّس بوقوعِ شيءٍ فيه، سواءٌ كان كثيرًا أو قليلًا، فهو طَهورٌ ما دام بصفاته، إلَّا إذا تَغيَّر أحَدُ أوصافه، وإِنْ كان في سندِ حديثِ ثوبانَ وحديثِ أبي أمامة رضي الله عنهما مَنْ لا يُحتَجُّ به، إلَّا أنَّ الاستثناء في الحديثين قام عليه الإجماعُ، فإذا تَغيَّر أحَدُ أوصافه بالنجاسة خَرَج عن الاسْمِ لخروجه عن الصفة أي: خَرَج عن طهوريَّتِه فلا يصلح التطهُّرُ به(٢١).

وممَّا يُلاحَظُ: أنَّ بعضَ الأحاديث أَطلقَتْ حُكمَ الطهوريَّة على جميع المياه دون استثناءٍ ولا تخصيصٍ، وبعضَ الأخبار خصَّصَتِ الطهوريَّةَ في ماء البحر.

ولا يخفى أنه لا مُنافاةَ بينهما ما دام الماءُ لا يزال باقيًا على خِلْقَتِه طاهرًا مُطهِّرًا؛ قال الشوكانيُّ ـ رحمه الله ـ: «تعريف الطَّهور باللام الجنسيَّة المُفيدةِ للحصر لا ينفي طهوريَّةَ غيرِه مِنَ المياه؛ لوقوعِ ذلك جوابًا لسؤالِ مَنْ شكَّ في طهوريَّةِ ماء البحر مِنْ غيرِ قصدٍ للحصر؛ وعلى تسليمِ أنه لا تخصيصَ بالسبب ولا يُقصَرُ الخطابُ العامُّ عليه، فمفهومُ الحصرِ المُفيدُ لِنفيِ الطهوريَّة عن غيرِ مائه عمومٌ مخصَّصٌ بالمنطوقات الصحيحة الصريحة القاضية باتِّصافِ غيرِه بها»(٢٢).

·  كما استدلُّوا بحديثِ أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ المَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم بِذَنُوبٍ(٢٣) مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ»(٢٤).

فالحديث يدلُّ على أنَّ الأمر بِصَبِّ ذَنوبٍ مِنْ ماءٍ على البول يقتضي أنَّ قليلَ النجاسةِ لا ينجِّس قليلَ الماء؛ ذلك لأنَّ العلماء لا يختلفون في نجاسةِ بول الآدميِّ؛ فعُلِم أنَّ الموضع مِنْ أرض المسجد الذي وَقَع عليه بولُ الأعرابيِّ قد طَهُرَ بذلك القَدْرِ مِنَ الماء في الذَّنوب وهو دون القُلَّتَيْن؛ فدلَّ ذلك على أنَّ الأرض إذا تنجَّسَتْ طَهُرَتْ بالماء سواءٌ كانَتِ الأرضُ رخوةً أو صلبةً، وأنَّ قليلَ النجاسة لا ينجِّس قليلَ الماء(٢٥)؛ قال الباجيُّ ـ رحمه الله ـ: «وهو حجَّةٌ على أبي حنيفة والشافعيِّ وغيرِهما في قولهم: إنَّ قليلَ الماءِ ينجِّسُه قليلُ النجاسة وإِنْ لم تُغيِّره؛ وهذا مسجدُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم ـ وهو أرفعُ المواضع التي يجب تطهيرُها ـ وقد حَكَم فيه النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم بِصَبِّ دلوٍ مِنْ ماءٍ على ما نجس منه بالبول؛ ولا معنَى له إلَّا تطهيرُه للمُصلِّين فيه»(٢٦).

٢/  أدلَّة المفصِّلين:

·  استدلَّ الشافعيُّ وأحمدُ وغيرُهما على التفصيل بين الماء الكثير والقليل بما يلي:

·  بحديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم وَهُوَ يُسْأَلُ عَنِ المَاءِ يَكُونُ فِي الفَلَاةِ مِنَ الأَرْضِ، وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ؟» قَالَ: «فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «إِذَا كَانَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الخَبَثَ»»(٢٧).

أفاد الحديثُ أنَّ الماء إذا لاقَتْه نجاسةٌ أو وقعَتْ فيه وكان قد بَلَغ القُلَّتَيْن لم يحمل الخَبَثَ إذا لم تُغيِّرْه، فهذا بمنطوقه؛ ومِنْ بابٍ أَوْلى إذا زاد عن القُلَّتَيْن لم يتنجَّسْ بفحوى الخطاب، هذا مِنْ جهةٍ.

كما يدلُّ ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ بمفهوم المخالفة أو دليلِ الخطاب على أنَّ ما كان دون القُلَّتَيْن فإنه يحمل الخَبَثَ، فلا يصلح التطهُّرُ به وإِنْ لم يتغيَّرْ أيُّ وصفٍ مِنْ أوصافه الثلاثة؛ غيرَ أنهم يختلفون في مقدار القُلَّة(٢٨).

وقد أيَّدوا الحكمَ فيما دون القُلَّتَيْن ـ وهو القليلُ الذي لم يتغيَّرْ ـ بما ثَبَت في الأحاديث التالية:

ـ    بحديثِ أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ: أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ»(٢٩)، وفي لفظٍ: «فَلْيُرِقْهُ»(٣٠).

فاستدلُّوا على ذلك بأنَّ الأمر بالغَسْل لمَّا وَلَغ فيه الكلبُ وبالإراقة للإناء دليلٌ على نجاسةِ فم الكلب لنجاسة لُعابه، ويستلزم نجاسةَ سائرِ بدنه؛ ذلك لأنَّ الأصلَ المُقرَّرَ أنه لا يجب غَسْلٌ إلَّا مِنْ حَدَثٍ أو نجسٍ، وليس هنا حَدَثٌ فتَعيَّن النجسُ؛ فكان الأمرُ بغَسلِ النجاسة بالماء وإراقته ـ وهو دون القُلَّتَيْن ـ دليلًا على أنه غيرُ طاهرٍ؛ إذ لو كان الماءُ في الإناء طاهرًا لَمَا أَمَر بإراقته وهدرِ مالِه، وقد نهى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم عن إضاعةِ المال(٣١)(٣٢).

ـ    وبحديثِ أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قَالَ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»(٣٣).

فالحديث دلَّ بصيغةِ أمرِه على أنَّ غَسْلَ اليدِ لمَنْ قام مِنْ نومه ثلاثًا قبل أَنْ يغمسها في الإناء لازمٌ، وإنما كان ذلك لأجلِ احتمال النجاسة في اليد؛ ويُؤكِّدُه قولُه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»؛ وذلك يقتضي أنَّ قليلَ النجاسة في اليد ينجِّس قليلَ الماء وإِنْ لم يتغيَّرْ أحَدٌ مِنْ أوصافه الثلاثة(٣٤).

ـ    وحديثِ أبي هريرة رضي الله عنه ـ أيضًا ـ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قال: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ»(٣٥).

ففي الحديث دليلٌ على النهي عن البول في الماء الراكدِ والنهيُ للتحريم، وأنه إِنْ كان دون القُلَّتَيْن فتَحُلُّه النجاسةُ، فهو غيرُ طاهرٍ وإِنْ لم يتغيَّرْ، بناءً على أصلهم في كون النهي للنجاسة؛ بخلاف القُلَّتَيْن فما فوقهما فلا يتنجَّسُ إلَّا بالتغيُّر لمكانِ الإجماع المتقدِّم(٣٦).

فالحاصل: أنه إِنْ كان الماءُ كثيرًا لم يتغيَّرْ أحَدُ أوصافِه بوقوع النجاسة فيه فهو طَهورٌ، ودليلُ طهوريَّتِه تخصيصُ العموم بالقُلَّتَيْن فما فوقهما؛ أمَّا ما دون القُلَّتَيْن فتَحُلُّه النجاسةُ وإِنْ لم يتغيَّرْ، فلا يصلح للطهارة(٣٧).

·  وأمَّا الحنفيَّةُ فقَدْ تركوا العملَ بحديث القُلَّتَيْن(٣٨) لعدَمِ ثبوتِ مقداره، واستدلُّوا بأحاديثِ أبي هريرة رضي الله عنه السابقةِ(٣٩) التي لم تُفرِّق بين قليلِ الماء وكثيرِه؛ إذ الماءُ إذا ما حلَّتِ النجاسةُ فيه فلا يُؤمَنُ انتشارُها إليه، فينجس بها.

وأمَّا الماء الكثير المُستبحِرُ الذي بَلَغ حدًّا لا يقدر آدَميٌّ على تحريكِ جميعِه فإنه يغلب على الظنِّ أنَّ النجاسة لا تَصِلُ إليه؛ فهو طاهرٌ قياسًا على البحر(٤٠) الواردِ حكمُه في قوله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ»(٤١).

·    وأمَّا الروايةُ الثالثة لمالكٍ ـ رحمه الله ـ فإنَّ أصحابها يحتجُّون بأنَّ النهي في أحاديثِ أبي هريرة رضي الله عنه السابقةِ(٤٢) يُحمَلُ على الكراهة التنزيهيَّة؛ «وحدُّ الكراهِيَةِ ـ عندهم ـ هو ما تَعافُه النفسُ وترى أنه ماءٌ خبيثٌ؛ وذلك أنَّ ما يَعافُ الإنسانُ شُرْبَه يجب أَنْ يجتنبَ استعمالَه في القُربة إلى الله تعالى، وأَنْ يَعافَ وُرودَه على ظاهرِ بدنِه كما يَعافُ ورودَه على داخلِه»(٤٣).

وعليه، فإنَّ الكراهة لا تُوجِبُ نجاسةَ الماء إِنْ حلَّتْ فيه، ويبقى طاهرًا ما لم يتغيَّرْ.

ج/  مناقشة أدلَّة المذاهب السابقة:

أتعرَّض لأدلَّةِ المذهبين السابقين بالمناقشة والتفنيد، مُبتدِئًا بمذهب الجمهور القائلين بأنَّ الماء طاهرٌ ـ قليلًا كان أو كثيرًا ـ إذا لاقَتْه نجاسةٌ ولم تُغيِّرْه، ثمَّ أعقبه بمذهب المفصِّلين بين الماء القليل والكثيرِ على اختلافِ تفاصيلِ مذاهبِهم ـ كما تقدَّم ـ.

١/  مناقشة مذهب الجمهور:

·  فأمَّا استدلالُ الجمهورِ بعموم الآيات والأحاديثِ الواردة في طهوريَّة الماء مُطلَقًا إذا لاقَتْه النجاسةُ ولم تُغيِّرْه(٤٤)، فيُعارِضُه حديثُ القُلَّتَيْن(٤٥) الدالُّ بمنطوقه على تأكيدِ طهوريَّةِ الماء إذا بَلَغ القُلَّتَيْن أو زاد عنهما، وبمفهومه على تخصيصِ عمومِ طهوريَّتِه بما دون القُلَّتَيْن ـ وهو الماءُ القليل ـ فإنه يحمل الخَبَثَ، فلا يصلح التطهُّرُ به وإِنْ لم يتغيَّرْ وصفٌ مِنْ أوصافه الثلاثة؛ لأنَّ الأدلَّةَ الشرعيَّةَ عامَّةٌ وحديثَ القُلَّتَيْن خاصٌّ؛ وتخصيصه بقول النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم أَوْلى مِنْ تخصيصه بالرأي مِنْ غيرِ دليلٍ يُعتمَدُ عليه؛ لذلك يجب تقديمُه عليه(٤٦)؛ فضلًا عن ثبوتِ حديثِ الاستيقاظ وحديثِ الماء الدائم وحديثِ ولوغ الكلب(٤٧)، فهي تؤيِّد هذا المعنى مِنْ أنَّ قليل النجاسة ينجِّس قليلَ الماء وإِنْ لم تُغيِّرْه(٤٨)؛ وسيأتي الجوابُ على هذا الاعتراض.

·  وأمَّا الاستدلال بحديثِ أنسٍ رضي الله عنه في بول الأعرابيِّ(٤٩) فقَدْ أُجيبَ عنه مِنْ ناحيتَيْن:

الأولى: أنَّ صَبَّ الماءِ يطهِّر الأرضَ الرخوة، فقَدْ كانَتْ أرضُ مسجده صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم رخوةً، فكفى فيها الصبُّ لعموم الماءِ أعلاها وأسفلَها؛ أمَّا إذا كانت صلبةً فلا بُدَّ مِنْ غَسْلِها كسائر المتنجِّسات(٥٠).

وقد أُجيبَ على هذا الاعتراضِ بأنه يخالف ظاهِرَ الحديثِ في أنَّ صَبَّ الماءِ على النجاسة يطهِّر الأرضَ مُطلَقًا سواءٌ كانَتْ رخوةً أو صلبةً؛ ولأنَّ أرضَ مسجدِه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم لم تكن رخوةً ـ كما ادَّعاهُ أهلُ هذا الاعتراض ـ وإنما كانت صلبةً؛ ويدلُّ على ذلك ما وَرَد في بعضِ طُرُق الحديث أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قال: «خُذُوا مَا بَالَ عَلَيْهِ مِنَ التُّرَابِ فَأَلْقُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى مَكَانِهِ مَاءً»(٥١)؛ قال الصنعانيُّ ـ رحمه الله ـ: «ولو ثبتَتْ هذه الزيادةُ لَبَطَل قولُ مَنْ قال: إنَّ أرضَ مسجدِه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم رخوةٌ، فإنه يقول: لا يُحفَرُ ويُلقى الترابُ إلَّا مِنَ الأرض الصلبة»(٥٢).

الثانية: أنَّ الشافعيَّةَ تفرِّق بين ورود النجاسة على الماء فيتنجَّس، وبين ورود الماء على النجاسة فيطهِّرها، واختاره ابنُ العربيِّ المالكيُّ ـ رحمه الله ـ حيث قال: «في هذا الحديثِ [أي: حديثِ استيقاظ النائم(٥٣)] أصلٌ مِنْ أصول الشرع، وهي الفرقُ بين أَنْ يَرِد الماءُ على النجاسة، أو تَرِدَ النجاسةُ على الماء؛ فاقتضى هذا الحديثُ أنَّ الماء إذا وَرَد على النجاسة أَذهبَها، كما أنه أفاد ـ أيضًا ـ أنَّ النجاسة إذا ورَدَتْ على الماء أثَّرَتْ فيه، والملاقاةُ واحدةٌ؛ إلَّا أنَّ الشرع لمَّا رأى أنَّ الضرورةَ داعيةٌ إلى إفراغ الماء على النجاسة قَصْدَ إزالتها أُلغِيَ حكمُها»(٥٤).

وأُجيبَ عن هذا الاعتراضِ بالتفريق بين مورد النجاسة على الماء وبين العكس بأنه تحكُّمٌ، وقد تَعقَّب القرطبيُّ ـ رحمه الله ـ هذا التفريقَ بقوله: «وهذه مناقضةٌ؛ إذ المخالطةُ قد حصَلَتْ في الصورتين؛ وتفريقُهم بورود الماء على النجاسة وورودِها عليه فرقٌ صوريٌّ ليس فيه مِنَ الفقه شيءٌ؛ فليس البابُ بابَ التعبُّدات، بل مِنْ باب عقليَّة المعاني؛ فإنه مِنْ باب إزالة النجاسة وأحكامِها؛ ثمَّ هذا كُلُّه منهم يردُّه قولُه عليه الصلاةُ والسلام: «الماءُ طَهورٌ لا ينجِّسُه شيءٌ إلَّا ما غيَّر لونَه أو طَعْمَه أو رِيحَه»(٥٥)»(٥٦).

علمًا أنَّ حديثَ غَسْلِ اليدين بعد الاستيقاظ أُسِّسَ على التعليل بمظنَّةِ وجود نجاسةٍ حسِّيَّةٍ على اليد؛ وهذا إِنْ سُلِّم به فقَدْ تقدَّمَ بيانُ كونِه مُناقَضةً في كلام القرطبيِّ ـ رحمه الله ـ مِنْ جهةٍ؛ ومِنْ جهةٍ ثانيةٍ فقَدْ حَمَله البعضُ على النجاسة المعنويَّة دون الحسِّيَّة، على ما صحَّحه ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ مِنَ القول ﺑ: «أنه مُعلَّلٌ بخشيةِ مَبيتِ الشيطان على يَدِه أو مَبيتِها عليه؛ وهذه العلَّةُ نظيرُ تعليلِ صاحب الشرعِ الاستنشاقَ بمَبيتِ الشيطان على الخيشوم؛ فإنه قال: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنَ المَاءِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ» مُتَّفَقٌ عليه(٥٧)، وقال هنا: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ؟»»(٥٨).

   ٢/  مناقشة مذهب المفصِّلين:

·  أمَّا استدلالُ الشافعيِّ وأحمدَ ومَنْ وافقهما بحديث القُلَّتَيْن(٥٩) على التفصيل بين الماء الكثير والقليل، فقَدْ أُجيبَ عنه بما يلي:

·  بأنَّ حديثَ القُلَّتَيْن ـ وإِنْ كان صحيحَ الإسناد ـ إلَّا أنه يتعذَّر العملُ به لاضطرابه متنًا؛ إذ لم يثبت ـ شرعًا ـ تعيينٌ لمقدار القُلَّتَيْن؛ قال ابنُ التركمانيِّ ـ رحمه الله ـ: «قد اختُلِف في تفسير القُلَّتَيْن اختلافًا شديدًا ـ كما ترى ـ: ففُسِّرَتا بخمسِ قِرَبٍ وبأربعٍ، وبأربعٍ وستِّين رطلًا وباثنين وثلاثين، وبالجَرَّتين مُطلَقًا وبالجَرَّتَيْن بقَيْد الكِبَر، وبالخابيتَيْن والخابيةُ: الحُبُّ؛ فظَهَر ـ بهذا ـ جهالةُ مقدارِ القُلَّتَيْن؛ فتَعذَّر العملُ بها»(٦٠)؛ ولهذا أكَّد ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ هذا المعنى بقوله: «فإذا كان العلماءُ قد أَشكلَ عليهم قَدْرُ القُلَّتَيْن واضطربَتْ أقوالُهُم في ذلك فما الظنُّ بسائر الأمَّة؟! ومعلومٌ أنَّ الحدود الشرعيَّة لا يكون هذا شأنها»(٦١).

·  ولأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم لم يذكر التقديرَ بالقُلَّتَيْن ابتداءً، وإنما خَرَج كلامُه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم جوابًا لمَنْ سَأَله عن المياه في فَلَاةٍ تَرِدُها السِّباعُ على وجه التخصيص بالذِّكر، مُوافَقةً لمَحَلِّ السؤال، لا تخصيصًا لمَحَلِّ الحكم؛ وإذا كان كذلك لم يكن حجَّةً باتِّفاقٍ على ما بيَّنه ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ بقوله: «والتخصيص إذا كان له سببٌ غيرُ اختصاص الحكم لم يَبْقَ حُجَّةً بالاتِّفاق كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ[الأنعام: ١٥١]؛ فإنه خصَّ هذه الصورةَ بالنهي لأنها هي الواقعةُ، لا لأنَّ التحريم يختصُّ بها؛ وكذلك قوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمۡ عَلَىٰ سَفَرٖ وَلَمۡ تَجِدُواْ كَاتِبٗا فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞ[البقرة: ٢٨٣]؛ فذَكَر الرهنَ في هذه الصورةِ للحاجة لا للكثرة، مع أنه قد ثَبَت أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم مات ودِرعُه مرهونةٌ(٦٢)، فهذا رهنٌ في الحَضَر؛ فكذلك قولُه: «إِذَا بَلَغَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ..» في جوابِ سؤالٍ معيَّنٍ هو بيانٌ لِمَا احتاج السائلُ إلى بيانه؛ فلمَّا كان ذلك المسئولُ عنه كثيرًا قد بَلَغ قُلَّتَيْن، ومِنْ شأن الكثير أَنْ لا يحمل الخَبَثَ، فلا يبقى الخَبَثُ فيه محمولًا، بل يستحيل فيه الخَبَثُ لكثرته؛ بيَّن لهم أنَّ ما سألتم عنه لا خَبَثَ فيه فلا ينجس»(٦٣).

·  ولأنَّ مفهوم المخالفة (مفهوم العدد في القُلَّتَيْن) لا عمومَ له على الراجح، إذ العمومُ مِنْ أوصاف اللفظ، والمفهومُ لا لفظَ له؛ لذلك لا يَلْزَمُ أَنْ تكون المخالفةُ مِنْ كُلِّ وجهٍ، فقَدْ يحمل ما دون القُلَّتَيْن الخَبَثَ، وقد لا يحمله إلَّا بتغيُّرِ بعضِ أوصافه.

·  ولأنَّ المعلوم أنَّ مِنْ شروط مفهوم المخالفة وقيودِ العمل به: أَنْ لا يكون الكلامُ واردًا جوابًا لسؤال السائل أو في حادثٍ معيَّنٍ، فإنه لا يُعمَلُ بالمفهوم ـ عندئذٍ ـ لأنَّ فائدة المنطوق تعلَّقَتْ بالسؤال أو الحادثة(٦٤).

·  ولأنَّ الاستدلال بمفهوم العدد مِنْ حديث القُلَّتَيْن يُعارِضُه منطوقُ حديث الباب؛ ومنطوقُ حديثِ أبي سعيدٍ رضي الله عنه أقوى، فيُقدَّم على المفهوم؛ لذلك كان مِنْ شروط العمل بمفهوم المخالفة ـ أيضًا ـ أَنْ لا يُعارِضَه دليلٌ خارجيٌّ خاصٌّ على خلاف المفهوم(٦٥).

·  أمَّا الاستدلالُ بالأمر بغَسْل الإناء في حديثِ ولوغ الكلب(٦٦)، فقَدْ أُجيبَ عنه بأنَّ مذهبَ مالكٍ ـ رحمه الله ـ أنَّ ما يَلَغُ فيه الكلبُ طاهرٌ؛ لأنَّ الكلب ـ عنده ـ طاهرٌ، وبه قال الزُّهريُّ والأوزاعيُّ(٦٧)؛ لذلك كان غَسْلُ الإناء مِنْ وُلوغه ـ عندهم ـ للتعبُّد لا للنجاسة، بناءً على أنَّ الأصل في الأحكام والمعاني الشرعيَّةِ ـ عندهم ـ التعبُّدُ؛ ولو كان المنعُ لعِلَّة النجاسة لَاكْتفى بما دون السبع؛ ونجاسةُ سُؤْرِ الكلب لا تزيد عن العَذِرة، والعَذِرةُ أشدُّ نجاسةً ولم تُقيَّد بالسبع؛ لذلك كان الأصلُ في الحكم الشرعيِّ: أنه متى دارَ بين التعبُّد والتعليلِ فحملُه على التعبُّد أَوْلى(٦٨).

والأمر بغَسْل الإناء ـ في الرواية الثالثة لمالكٍ رحمه الله ـ محمولٌ على الندب لا على الوجوب، وإذا حُمِل على الندب فلا يَلْزَمُ منه النجاسةُ.

ولو سُلِّم أنَّ الأمر بغَسْل الإناءِ عند ولوغ الكلب ثَبَت للنجاسة فإنَّ الكلابَ خُصَّتْ بهذه الأحكامِ مِنْ سبعِ غَسَلاتٍ مع التتريب دون سائر أنواع النجاسات الأخرى؛ ولذلك يتعذَّر ـ والحالُ هذه ـ قياسُ الأخفِّ منها على الأغلظ؛ للفارق في المقدار والاعتبار(٦٩).

·  وأمَّا الاستدلالُ بالأمر بغَسْل اليدين قبل غمسِهما في الإناء ثلاثًا(٧٠)، فقَدْ أُجيبَ بأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم نهى عن غمسِ اليد ولم يتعرَّض للماء بأيِّ حكمٍ؛ ولو سُلِّم فإنَّ الأمر بالغَسْل محمولٌ ـ أيضًا ـ على الندب أو كونِه ثَبَت تعبُّدًا؛ فلا فَرْقَ فيه بين الشاكِّ والمتيقِّن؛ لأنَّ الأصل في الأحكام والمعاني الشرعيَّة أنها تُحمَل على التعبُّد ـ كما تقدَّم ـ؛ ويدلُّ عليه قرينةُ ذِكرِ العدد، والتقييدُ بالثلاث في غير النجاسة العينيَّة يدلُّ على الندبيَّة؛ وإذا ضُمَّتْ إليه البراءةُ الأصليَّة لم يَبْقَ مُنتهِضًا للوجوب ولا لتحريم الترك؛ فضلًا عن أنَّ التعليل كان بأمرٍ يقتضي الشكَّ في قوله: «فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»، وهو قرينةٌ صارفةٌ عن الوجوب إلى الندب.

وعليه، فإذا ثَبَت الأمرُ بالغَسْل للندب أو كونه ثبت تعبُّدًا فلا يضرُّ الماءَ لو غَمَس فيه يدَه قبل غَسْلها ولا يتنجَّس(٧١)؛ قال الفاكهانيُّ ـ رحمه الله ـ: «إنَّ ورود النجاسة على الماء مُؤثِّرٌ فيه؛ ومُطلَقُ التأثير أعمُّ مِنَ التأثير بالتنجيس، ولا يَلْزَم مِنْ ثبوت الأعمِّ ثبوتُ الأخصِّ المعيَّن؛ فإذا سلَّم الخصمُ أنَّ الماء القليل بوقوع النجاسة فيه يكون مكروهًا فقَدْ ثَبَت مُطلَقُ التأثير، ولا يَلْزَم ثبوتُ خصوصِ التأثير بالتنجيس»(٧٢).

·  وأمَّا الاستدلالُ بحديث النهي عن البول في الماء الدائم(٧٣)، فقَدْ أُجيبَ عنه كسابِقِيه بأنَّ النهي ثَبَت تعبُّدًا وفقًا للأصل المقرَّر ـ على ما تقدَّم ـ لا لأجل التنجيس؛ فإنه ـ عند المالكيَّة ومَنْ وافقهم ـ يجوز التطهُّرُ به؛ لأنَّ النهي محمولٌ على الكراهة التنزيهيَّة لأجل استقذار النفس لاستعمال الماء الدائم الذي يُبالُ فيه لا للتحريم؛ وبقرينةِ أدلَّةِ أنَّ الماء طَهورٌ لا ينجِّسُه شيءٌ إلَّا ما غيَّر أحَدَ أوصافه(٧٤)، وبحديث الأعرابيِّ(٧٥) وغيرِها(٧٦)؛ قال الفاكهانيُّ ـ رحمه الله ـ: «وأمَّا مالكٌ رحمه الله تعالى فقَدْ تقدَّم أنه يحمله على الكراهة دون التحريم ـ كما تقرَّر ـ؛ وإذا ثَبَت أنَّ النهي على الكراهةِ أو احتمل ذلك سَقَط الاستدلالُ على عدمِ طهوريَّة الماء المُستعمَلِ بهذا الحديث»(٧٧)، هذا مِنْ جهةٍ؛ ولأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم لم يصرِّح ـ مِنْ جهةٍ ثانيةٍ ـ بأنَّ الماء ينجس؛ غايةُ ما في الأمر أنه نهى عن التبوُّل في الماء الدائم ثمَّ الاغتسالِ فيه؛ ولا يَلْزَمُ منه التنجيسُ؛ إذ لا يُقبَل ـ عقلًا ـ أَنْ يُجمَع بين البول والاغتسال في محلٍّ واحدٍ؛ فإنَّ هذا الجمعَ يُعَدُّ تناقضًا، ولا يَلْزَم منه النجاسةُ؛ ومِثلُه قولُه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «إِلَامَ يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ؟» ـ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ ـ: «جَلْدَ الْأَمَةِ» ـ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ ـ: «جَلْدَ الْعَبْدِ»، «وَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُهَا مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ»(٧٨)؛ فليس في الحديث النهيُ عن مضاجعتها، وإنما عن الجمع بينهما لكونه تناقضًا.

·  أمَّا حَدُّ الحنفيَّة في الفصل بين قليل الماء وكثيرِه فيتعذَّر العملُ به ـ أيضًا ـ نظرًا لاضطرابه وعدمِ ضبطه في تعيين مقداره، بناءً على اختلاف الحنفيَّة فيه.

ولأنه ـ أيضًا ـ: «حدٌّ لا ضَبْطَ فيه، فإنه يختلف بضيقِ موضع الماء وسَعَتِه، وقد يضيق موضعُ الماءِ الكثير لعُمقِه ويتَّسِعُ موضعُ القليل لعدمِ عُمقه»(٧٩).

فضلًا عن كونه حدًّا لا أصلَ له ومُخالِفًا لمنطوق قول النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم في شأن القُلَّتَيْن.

ـ وأمَّا القياس على الماء المُستبحِر فهو غيرُ مُنضبِطٍ ـ كما تقدَّم ـ وفاسدُ الاعتبار لمعارضته للنصوص القاضية بأنَّ الماء طَهورٌ لا ينجِّسُه شيءٌ(٨٠) ولحديثِ القُلَّتَيْن(٨١).

·  وأمَّا حملُ الأمر على الندب، والنهيِ على الكراهة التنزيهيَّة، فإنه مُخالِفٌ لأصل دلالة الأمر والنهي؛ فهُمَا يُحمَلان ـ على التوالي ـ على الوجوب والتحريم ـ كما تقرَّر أصوليًّا ـ وليس ثَمَّةَ دليلٌ أو قرينةٌ صارفةٌ عنهما.

وأمَّا جعلُ حدِّ الكراهة هو ما تَعافُه النفسُ وترى أنه ماءٌ خبيثٌ، فهذا ـ أيضًا ـ حدٌّ مُضطرِبٌ غيرُ مُنضبِطٍ لاختلاف الناس فيه.

د/  سبب اختلاف العلماء:

فإنَّ اختلافَ العلماء ـ في هذه المسألةِ ـ يرجع ـ في تقديري ـ إلى الأسباب التالية:

·  تعارُضِ ظواهر الأحاديث الواردة في هذه المسألةِ(٨٢) واختلافِ العلماء في طريق الجمع بينها.

·  في أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه: [حديثِ الاستيقاظ، وحديثِ الماء الدائم، وحديثِ ولوغ الكلب](٨٣): هل هي تعبُّديَّةٌ غيرُ معقولة المعنى أم هي معلَّلةٌ معقولةُ المعنى؟

وإذا كانت أحاديثُ أبي هريرة رضي الله عنه معقولةَ المعنى: فهل يُفرَّق ـ في الجمع بينها وبين حديث الباب ـ بين القليل والكثير؟ وهل يكون الحدُّ الفاصلُ بين القِلَّة والكثرة القُلَّتَيْن أم لا؟

أم أنَّ أحاديثَ أبي هريرة رضي الله عنه وما في معناها تُحمَل على الكراهة، وحديثَ الباب وحديثَ الأعرابيِّ يُحمَلان على الجواز؟

·  في حديث الأعرابيِّ(٨٤): هل يُحمَل على ظاهره في أنَّ صبَّ الماءِ يُطهِّرُ الأرضَ مُطلَقًا، أم يُفرَّق بين الأرض الرخوة والصلبة؟ هذا مِنْ جهةٍ.

وهل يُفرَّق فيه ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ بين ورود النجاسة على الماء، وبين ورود الماء على النجاسة في الحكم؟

·  هل التقدير بالقُلَّتَيْن الواردُ في حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما(٨٥) خَرَج مَخْرَجَ الجوابِ مُوافَقةً لمَحَلِّ السؤال، أم أنه تخصيصٌ لمَحَلِّ الحكم؟

ـ    فمَنِ اعتبر أحاديثَ أبي هريرة رضي الله عنه [حديثَ الاستيقاظ، وحديثَ الماء الدائم، وحديثَ ولوغ الكلب] تعبُّديَّةً غيرَ معقولة المعنى، ورأى أنَّ حديث الأعرابيِّ يُحمَل على ظاهره في أنَّ صبَّ الماءِ يُطهِّر الأرضَ مُطلَقًا، سواءٌ كانَتْ صلبةً أو رخوةً، ورأى أَنْ لا فَرْقَ بين ورود النجاسة على الماء أو العكس، وأنَّ التقدير بالقُلَّتَيْن ـ بِغَضِّ النظر عن اضطرابه ـ فقَدْ خَرَج مَخْرَجَ الجواب مُوافَقةً لمَحَلِّ السؤال لا تخصيصًا لمَحَلِّ الحكم، ورأى أنه يتعذَّر العملُ بالمفهوم لأنَّ فائدةَ المنطوقِ تعلَّقَتْ بالسؤال فلا عمومَ له، فلا يقوى مفهومُه على تخصيصِ عمومِ حديثِ أبي سعيدٍ رضي الله عنه(٨٦)؛ جَمَع بين ظواهر الأحاديث بأَنْ عَمِل بعموم حديث الباب، وقوَّاه بحديث الأعرابيِّ، فقال: إنَّ الماء إذا وقعَتْ فيه نجاسةٌ ولم تُغيِّرْ أحَدَ أوصافِه فإنه طاهرٌ مُطلَقًا، سواءٌ كان الماءُ قليلًا أو كثيرًا؛ أمَّا الأحاديثُ المُعارِضةُ، فحَمَلها على أنها تعبُّديَّةٌ، أو خرجَتْ مَخْرَجَ الجواب مُوافَقةً لمحلِّ السؤال كما تقدَّم.

ـ    ومَنِ اعتبر أحاديثَ أبي هريرة رضي الله عنه معقولةَ المعنى، وحَمَل حديثَ الأعرابيِّ على أنَّ صَبَّ الماءِ يُطهِّر الأرضَ إِنْ كانت رخوةً دون غيرِها، وفرَّق بين ورود النجاسة على الماء وبين ورود الماء على النجاسة، وحَمَل حديثَ الأعرابيِّ على هذه الصورة، ورأى أنَّ التقدير في حديث القُلَّتَيْن وَرَد تخصيصًا لمَحَلِّ الحكم؛ جَمَع بين ظواهر الأحاديث الواردة في المسألة بأَنْ حَمَل أحاديثَ أبي هريرة رضي الله عنه على الماء القليل، وحديثَ أبي سعيدٍ رضي الله عنه على الماء الكثير ما لم يتغيَّرْ أحَدُ أوصافه الثلاثة لمَحَلِّ الإجماع.

غير أنَّ الشافعيَّ وأحمد في الرواية المشهورة ورواية عن مالكٍ وغيرَهم رأَوْا أنَّ الحدَّ الفاصل بين القليل والكثير هو قُلَّتان مِنْ قِلالِ هَجَر.

وأمَّا أبو حنيفة فذَهَب إلى أنَّ الحدَّ في ذلك مِنْ جهة القياس، فاعتبر سَرَيانَ النجاسة في جميع الماء بسَرَيانِ الحركة ـ كما تقدَّم ـ.

أمَّا الرواية الثالثة عن مالكٍ ـ رحمه الله ـ التي رجَّحها ابنُ رشدٍ ـ رحمه الله ـ فهي أَنْ تُحمَل أحاديثُ أبي هريرة رضي الله عنه ـ وما في معناها ـ على الكراهة، وحديثُ أبي سعيدٍ وأنسٍ رضي الله عنهما(٨٧) على الجواز(٨٨).

ھ/  الرأي المختار:

بعد ذِكرِ أدلَّةِ مذاهب الفقهاء في هذه المسألةِ ومناقشتها وإيرادِ أسبابِ اختلافهم فيها، فقَدْ ظَهَر لي أنَّ أَرجحَ المذاهبِ المتقدِّمةِ وأولاها بالقبول هو مذهبُ الجمهور الذي يرى أنَّ قليلَ الماءِ وكثيرَه سواءٌ في الطهارة إذا ما حلَّتْ فيه نجاسةٌ ولم تُغيِّرْ أحَدَ أوصافه الثلاثة، عملًا بحديث الباب مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»؛ فهو لفظٌ عامٌّ في الماء القليل والكثير، وهو عامٌّ ـ أيضًا ـ في جميع النجاسات، ولم يَرِدْ ما يخصِّصه.

·  أمَّا حديثُ القُلَّتَيْن(٨٩) فإنه لا يصحُّ ما يُعتمَدُ عليه في تحديد القُلَّتَيْن لجهالةِ مقدارهما، فتَعذَّر العملُ به لجهالةِ مقدار القُلَّتَيْن أوَّلًا؛ ولأنَّ مفهومَ حديثِ القُلَّتَيْن لا يقوى على تخصيصِ عمومِ حديث الباب ثانيًا؛ لأنَّ مِنْ شرط العمل بمفهوم المخالفة: أَنْ لا يكون الكلامُ واردًا على سؤال السائل أو حادثٍ معيَّنٍ؛ ولمَّا كان مرتَّبًا على سؤال السائل عُلِم أنَّ تخصيص القُلَّتَيْن بالذِّكر إنما خَرَج مُوافَقةً لمَحَلِّ السؤال، وليس عِلَّةً في الحكم وتخصيصًا لمَحَلِّه ثالثًا.

وعليه، فإنَّ الحديث لا يدلُّ على أنَّ ما دون القُلَّتَيْن يحمل الخَبَثَ، وإنما يكون مظنَّةَ حملِ الخَبَث، أي: قد يحمله وقد لا يحمله كما بيَّن الشوكانيُّ ـ رحمه الله ـ ذلك بقوله: «وأمَّا حديثُ القُلَّتَيْن فغايةُ ما فيه: أنَّ ما بَلَغ مقدارَ القُلَّتَيْن لا يحمل الخَبَثَ؛ فكان هذا المقدارُ لا يؤثِّر فيه الخَبَثُ في غالب الحالات، فإِنْ تغيَّر بعضُ أوصافه كان نجسًا بالإجماع الثابت مِنْ طُرُقٍ متعدِّدةٍ، وبتلك الزيادةِ التي وَقَع الإجماعُ على العمل بها في حديثِ: «خُلِقَ المَاءُ طَهُورًا..»(٩٠)؛ فيكون إطلاقُ حديثِ القُلَّتَيْن مُقيَّدًا بذلك حملًا للمُطلَق على المقيَّد؛ وأمَّا ما كان دون القُلَّتَيْن فلم يَقُلِ الشارعُ إنه يحمل الخَبَثَ قطعًا وبَتًّا، بل مفهومُ حديث القُلَّتَيْن يدلُّ على أنَّ ما دونهما قد يحمل الخَبَثَ وقد لا يحمله، فإذا حَمَله فلا يكون ذلك إلَّا بتغيُّرِ بعضِ أوصافه، فيُقيَّدُ مفهومُ حديثِ القُلَّتَيْن بحديثِ التغيُّر(٩١) المُجمَعِ على قبوله والعملِ به كما قُيِّد منطوقُه بذلك»(٩٢).

ومِثلُ هذا المعنى ذَكَره ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ بما نصُّه: «دلَّ كلامُه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم على أنَّ مَناطَ التنجيس هو كونُ الخَبَثِ محمولًا، فحيث كان الخَبَثُ محمولًا موجودًا في الماء كان نجسًا، وحيث كان الخَبَثُ مُستهلَكًا فيه غيرَ محمولٍ في الماء كان باقيًا على طهارته؛ والمُنازِعُ يقول: المؤثِّرُ في التنجيس في القليل ولو مُطلَقًا هو نفسُ الملاقاة، وهي موجودةٌ لحملِ الخَبَث، كان القليلُ والكثيرُ سواءً في ذلك؛ وكونه لا يحمل الخَبَثَ ليس هو لِعجزِه عنه كما يظنُّه بعضُ الناس؛ فإنه لو كان كذلك لكان القليلُ أَوْلى [أَنْ يحمله](٩٣)؛ فصار حديثُ القُلَّتَيْن مُوافِقًا لقوله: «المَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»؛ والتقدير فيه لبيانِ أنه في صورة السؤال لم ينجس، لا أنه أراد أنَّ كُلَّ ما لم يبلغ قُلَّتَيْن فإنه يحمل الخَبَثَ؛ فإنَّ هذا مخالفةٌ للحسِّ؛ إذ ما دون القُلَّتَيْن قد يحمل الخَبَثَ وقد لا يحمله؛ فإِنْ كان الخَبَثُ كثيرًا وكان الماءُ يسيرًا يحمل الخَبَثَ، وإِنْ كان الخَبَثُ يسيرًا والماءُ كثيرًا لم يحمل الخَبَثَ؛ بخلاف القُلَّتَيْن فإنه لا يحمل ـ في العادة ـ الخَبَثَ الذي سألوه عنه»(٩٤).

وعطفًا على ما سَبَق، ومِنْ مُنطلَقِ بيانِ لوازمِ قولِ المحدِّدين، فقَدْ كَشَف ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ بطلانَها بما أفاده بقوله: «إنَّ المحدِّدين يَلْزَمُهم لوازمُ باطلةٌ شنيعةٌ جدًّا، منها: أَنْ يكون ماءٌ واحدٌ إذا وَلَغ فيه الكلبُ تَنجَّس، وإذا بالَ فيه لم يُنجِّسْه؛ ومنها: أنَّ الشعرة مِنَ الميتة إذا كانت نجسةً فوقعَتْ في قُلَّتَيْن إلَّا رطلًا ـ مَثَلًا ـ أَنْ ينجس الماءُ، ولو وَقَع رطلُ بولٍ في قُلَّتَيْن لم يُنجِّسْه! ومعلومٌ أنَّ تأثُّرَ الماءِ بهذه النجاسةِ أضعافُ تأثُّرِه بالشعرة، فمُحالٌ أَنْ يجيء شرعٌ بتنجُّسِ الأوَّل وطهارةِ الثاني؛ وكذلك مَيْتةٌ كاملةٌ تقع في قُلَّتَيْن لا تُنجِّسُها، وشعرةٌ منها تقع في قُلَّتَيْن إلَّا نصفَ رِطْلٍ أو رطلًا فتُنجِّسُها! إلى غيرِ ذلك مِنَ اللوازم التي يدلُّ بطلانُها على بطلانِ ملزوماتِها»(٩٥).

ـ    ولأنَّ العموم أقوى؛ لأنَّ دلالةَ العامِّ على أصل المعنى قطعيَّةٌ، مع الاختلاف في دلالته على أفراده، بينما حُجِّيَّةُ مفهوم المخالفة السالمِ مِنْ قيود العمل به فهو مَحَلُّ خلافٍ بين أهل العلم، ﻓ «تَقْدِيمُ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنَ المُخْتَلَفِ فِيهِ»، و«مَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةً أَوْلَى مِمَّا كَانَتْ دَلَالَتُهُ ظَنِّيَّةً»؛ وبهذه المناقشةِ يتَّضِح أنَّ مفهوم المخالفة لا يقوى على معارضة العموم، لا مِنْ حيث الحُجِّيَّةُ ولا مِنْ حيث الترجيح.

ـ    ولأنَّ عمومَ حديثِ الباب مُؤيَّدٌ بحديثِ أنسٍ رضي الله عنه في بول الأعرابيِّ(٩٦)؛ وما وَرَد عليه مِنِ اعتراضٍ مِنْ جهةِ أنَّ أرضَ مسجدِه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم كانت رخوةً ولم تكن صلبةً أوَّلًا، ومِنْ جهةِ التفريق بين ورود النجاسة على الماء فيتنجَّس، وورودِ الماء على النجاسة فيطهِّر ثانيًا، فقَدْ سَبَق تفنيدُ هذين الاعتراضَين وبيانُ التحكُّمِ والمناقضةِ فيهما(٩٧).

·  وأمَّا أحاديثُ أبي هريرة رضي الله عنه المُتمثِّلةُ في خبر الاستيقاظ والنهيِ عن البول في الماء الدائم وخبرِ ولوغ الكلب(٩٨)، فإنها ـ وبِغَضِّ النظر عن وقوعها في معارضةِ عمومِ حديث الباب وحديثِ بول الأعرابيِّ ـ لا تدلُّ على نجاسة الماء؛ لأنها ليست واردةً لبيان حكم الماء، وإنما ورَدَتْ:

ـ    إمَّا تعبُّديَّةً غيرَ معقولة المعنى، أي: أنَّ عِلَّتها لم تُدرَك، فيكون الأمرُ باجتنابها ثَبَت تعبُّدًا لا لأجل النجاسة.

ـ    وإمَّا ـ في حالة التسليم بدلالتها على التأثُّر بالنجاسة ـ فقد يُحمَل النهيُ فيها ـ وما في معناها ـ على الكراهة التنزيهيَّة، ولا تخرج بذلك عن كونها طاهرةً(٩٩)، وقد يُحمل الأمرُ بغَسل الإناء مِن وُلوغ الكلب على النَّجاسة وَفْقَ ما ذهب إليه الجُمهورُ، فغايةُ ما يدلُّ عليه ـ إن كان دون القُلَّتين ولم يتغيَّر ـ أنَّه خاصٌّ يُهرقُ، ويبقى العملُ بعمومِ حديثِ الباب الدالِّ على بقاء الماء على حالِه مِنَ الطهارة، ولا يُخرِجُه عن هذا الحكمِ إلَّا إذا تَغيَّر أحَدُ أوصافه الثلاثة: رِيحه أو طعمه أو لونه، وبذلك يترجَّح مذهبُ الجمهور، وهو مذهبُ مالكٍ في الرواية المشهورة عنه وأحمدَ في إحدى الروايتين عنه ـ كما تقدَّم ـ.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

 



(١) أخرجه أبو داود في «الطهارة» (١/ ٥٣ ـ ٥٤) بابُ ما جاء في بئر بُضاعة، والترمذيُّ في «الطهارة» (١/ ٩٥) بابُ ما جاء أنَّ الماء لا ينجِّسه شيءٌ، والنسائيُّ في «المياه» (١/ ١٧٤) بابُ ذِكرِ بئر بُضاعة، وأحمد في «مُسنَده» (٣/ ١٥، ٣١، ٨٦)، والدارقطنيُّ في «سُنَنه» (١/ ٢٤)، وابنُ جارودٍ في «المنتقى» (٣٢)، والبيهقيُّ في «السنن الكبرى» (١/ ٤، ٢٥٧، ٢٥٨)، مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه.

(٢) انظر: «الإجماع» لابن المنذر (١٩).

(٣) المصدر السابق، الصفحة نفسها.

(٤) في المسألة سبعةُ مذاهبَ، اقتصرتُ منها على مذهبين؛ [انظر: «المجموع» للنووي (١/ ١١٢)].

(٥) أمَّا روايةُ المصريِّين عن مالكٍ ـ رحمه الله ـ فتظهر في أنَّ قليل الماء ينجس بقليل النجاسة، ولم يَحُدُّوا بين القليل والكثير حدًّا؛ [انظر: «الاستذكار» (١/ ١٦٠) و«الكافي» (١٦) كلاهما لابن عبد البرِّ، «المنتقى» للباجي (١/ ٥٦)، «المجموع» للنووي (١/ ١١٣)، «تفسير القرطبي» (١٣/ ٤٢)].

(٦) منهم ابنُ عقيلٍ، وأبو الفتح بنُ المنَى، وابنُ الجوزيِّ، وابنُ تيمية وغيرُهم؛ [انظر: «المغني» لابن قدامة (١/ ٢٤)، «الفروع» لابن مُفلِح (١/ ٥٩)، «شرح الزركشي الحنبلي» على «مختصر الخِرَقي» (١/ ١٢٩)، «الإنصاف» للمرداوي (١/ ٥٨)].

(٧) انظر: «رياض الأفهام» للفاكهاني (١/ ٨٩).

(٨) انظر معنى قلالِ هَجَرَ وتقديرها في: الهامش (رقم ٢٨)، وفي مناقشة مذهب المفصِّلين.

(٩) «سنن الترمذي» كتاب «الطهارة» (١/ ٩٩).

(١٠) سيأتي نصُّه وتخريجه، انظر: أدلَّة المفصِّلين.

(١١) انظر: «المجموع» للنووي (١/ ١١٢)، «مغني المحتاج» للشربيني (١/ ٢٠)، «نهاية المحتاج» للرملي (١/ ٧٨)، والمصادر السابقة.

غير أنَّ هذا التفصيلَ مُقيَّدٌ في غيرِ بول الآدميِّ وعَذِرَتِه المائعة، فإنهما ينجِّسان الماءَ وإِنْ بَلَغ قُلَّتَيْن فأكثرَ على المشهور، ما لم يكثر إلى حيث لا يمكن نزحُه؛ [انظر: «رياض الأفهام» للفاكهاني (١/ ٩٠)].

(١٢) «بدائع الصنائع» للكاساني (١/ ١٠٦).

(١٣) انظر: «فتح القدير» لابن الهُمَام (١/ ٨١، ٨٤، ٨٥)، «تبيين الحقائق» للزيلعي (١/ ٢٢)، «الاختيار» لابن مودود (١/ ١٤)؛ وانظر ـ أيضًا ـ: «الاستذكار» لابن عبد البرِّ (١/ ١٥٩)، «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٢٥)، «المغني» لابن قدامة (١/ ٢٥).

(١٤) انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٢٤)؛ وقال ـ رحمه الله ـ: «فيتحصَّل عن مالكٍ في الماء اليسير تَحُلُّه النجاسةُ اليسيرةُ ثلاثةُ أقوالٍ: قولٌ أنَّ النجاسة تُفسِده، وقولٌ أنها لا تُفسِدُه إلَّا أَنْ يتغيَّر أحَدُ أوصافه، وقولٌ أنه مكروهٌ».

(١٥) انظر: «عيون الأدلَّة» لابن القصَّار (٢/ ٦٩٥، ٨٥١)، «تفسير القرطبي» (١٣/ ٤٣).

(١٦) انظر: «شرح الزركشي» (١/ ١١٥).

(١٧) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢١/ ٢٥)، «شرح الزركشي» (١/ ١١٩).

(١٨) سبق تخريجه، انظر: حديث الباب.

(١٩) أخرجه ابنُ ماجه في «الطهارة وسُنَنها» (١/ ١٧٤) باب الحياض، والدارقطنيُّ في «سُنَنه» (١/ ٢٨)، والبيهقيُّ في «سُنَنه الكبرى» (١/ ٢٥٩ ـ ٢٦٠)، مِنْ حديثِ أبي أُمامة الباهليِّ رضي الله عنه، وأخرجه الدارقطنيُّ ـ أيضًا ـ (١/ ٢٨) مِنْ حديثِ ثوبان رضي الله عنه.

هذا، وقد نَقَل النوويُّ في «المجموع» (١/ ١١٠) والحافظُ عنه في «التلخيص» (١/ ١٥) اتِّفاقَ المحدِّثين على تضعيفِ هذا الحديث.

إلَّا أنَّ الإجماع انعقد على القول بحكمه؛ قال ابنُ المنذر في [«الإجماع» (١٩)]: «أجمعَ العلماءُ على أنَّ الماء القليلَ والكثير إذا وقعَتْ فيه نجاسةٌ فغيَّرَتْ له طَعْمًا أو لونًا أو ريحًا: فهو نجسٌ ما دام كذلك».

انظر تفصيلَ هذه المسألةِ في: «نصب الراية» للزيلعي (١/ ٩٤)، «التلخيص الحبير» لابن حجر (١/ ١٤)، «نيل الأوطار» للشوكاني (١/ ٥٥).

(٢٠) أخرجه أبو داود في «الطهارة» (١/ ٦٤) باب الوضوء بماء البحر، والنسائيُّ في «المياه» (١/ ١٧٦) باب الوضوء بماء البحر، والترمذيُّ في «الطهارة» (١/ ١٠٠) بابُ ما جاء في ماء البحر أنه طَهورٌ، وابنُ ماجه في «الطهارة» (١/ ١٣٦) باب الوضوء بماء البحر، وغيرُهم، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذيُّ في «سُنَنه» (١/ ١٠١): «هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ». وصحَّحه البغويُّ في «شرح السُّنَّة» (٢/ ٥٥)، والألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (١/ ٢/ ٢٤٢) رقم: (٤٨٠).

قال الخطَّابيُّ في «معالم السنن» (١/ ٦٤): «في هذا الحديثِ أنواعٌ مِنَ العلم:

·  منها: أنَّ المعقول مِنَ الطَّهور والغَسول المضمَّنَيْن في قوله تعالى: ﴿إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ[المائدة: ٦] الآية: إنما كان عند السامعين له والمُخاطَبين به: الماءَ المفطورَ على خِلقَتِه، السليمَ في نفسِه، الخليَّ من الأعراض المؤثِّرة فيه؛ ألَا تراهم كيف ارتابوا بماء البحر لمَّا رأَوْا تغيُّرَه في اللون وملوحةِ الطعم حتَّى سألوا رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم واستفتَوْه عن جواز التطهير به؟!

·  وفيه: أنَّ العالِم والمُفتِيَ إذا سُئِل عن شيءٍ وهو يعلم أنَّ بالسائل حاجةً إلى معرفةِ ما وراءَه مِنَ الأمور التي تتضمَّنها مسألتُه أو تتَّصِل بمسألته كان مُستحَبًّا له تعليمُه إيَّاهُ والزيادةُ في الجواب عن مسألته، ولم يكن ذلك عدوانًا في القول ولا تكلُّفًا لِمَا لا يعني مِنَ الكلام؛ ألَا تراهم سألوه عن ماء البحر حَسْبُ، فأجابهم عن مائه وعن طعامه؛ لِعِلمه بأنه قد يُعوِزُهم الزادُ في البحر كما يُعوِزُهم الماءُ العذب؛ فلمَّا جمعَتْهم الحاجةُ منهم انتظمهما الجوابُ منه لهم؟!

·  وأيضًا، فإنَّ عِلْمَ طهارةِ الماء مستفيضٌ عند الخاصَّة والعامَّة، وعِلْمَ مَيْتةِ البحر وكونِها حلالًا مُشكِلٌ في الأصل؛ فلمَّا رأى السائلَ جاهلًا بأظهرِ الأمرين غيرَ مستبينٍ للحكم فيه عَلِم أنَّ أخفاهما أَوْلاهما بالبيان؛ ونظيرُ هذا: قولُه للرجل الذي أساء الصلاةَ بحضرَتِه فقال له: «صلِّ فإنك لم تُصَلِّ»، فأعادها ثلاثًا، كُلَّ ذلك يأمره بإعادة الصلاة، إلى أَنْ سأله الرَّجلُ أَنْ يعلِّمه الصلاةَ؛ فابتدأ فعلَّمه الطهارةَ ثمَّ علَّمه الصلاةَ؛ وذلك ـ واللهُ أعلمُ ـ لأنَّ الصلاة شيءٌ ظاهرٌ تشتهره الأبصارُ، والطهارة أمرٌ يستخلي به الناسُ في سَتْرٍ وخفاءٍ؛ فلمَّا رآه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم جاهلًا بالصلاة حَمَل أَمْرَه على الجهل بأمر الطهارة؛ فعلَّمه إيَّاها.

·  وفيه وجهٌ آخَرُ، وهو: أنَّه لمَّا أَعلمَهم بطهارةِ ماء البحر وقد عَلِم أنَّ في البحر حيوانًا قد يموت فيه ـ والمَيْتةُ نجسٌ ـ احتاج إلى أَنْ يُعلِمَهم أنَّ حُكْمَ هذا النوعِ مِنَ المَيْتة حلالٌ، بخلافِ سائر المَيْتات؛ لئلَّا يتوهَّموا أنَّ ماءَه ينجس بحلولها إيَّاه».

(٢١) انظر: «سُبُل السلام» للصنعاني (١/ ٤٠)، «نيل الأوطار» للشوكاني (١/ ٥٦).

(٢٢) «نيل الأوطار» للشوكاني (١/ ٣٦).

(٢٣) الذَّنوب ـ بفتح الذال ـ: الدلو الملآنُ ماءً، وقِيلَ: الدلو العظيمة، [انظر: «النهاية» لابن الأثير (٢/ ١٧٠)، «مختار الصِّحاح» للرازي (٢٢٤)، «سُبُل السلام» للصنعاني (١/ ٥٦)].

(٢٤) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الوضوء» (١/ ٣٢٤) بابُ صبِّ الماء على البول في المسجد، ومسلمٌ في «الطهارة» (٣/ ١٩٠ ـ ١٩١) بابُ وجوبِ غَسْل البول وغيرِه مِنَ النجاسات إذا حصَلَتْ في المسجد، مِنْ حديثِ أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه.

(٢٥) انظر: «عيون الأدلَّة» لابن القصَّار (٢/ ٨٥٢)، «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٢٤)، «سُبُل السلام» للصنعاني (١/ ٤١، ٥٦).

(٢٦) «المنتقى» للباجي (١/ ١٢٩).

(٢٧) أخرجه أبو داود في «الطهارة» (١/ ٥١) بابُ ما ينجِّس الماءَ، والترمذيُّ في «الطهارة» (١/ ٩٧) بابٌ منه آخَرُ، أي: بابُ ما جاء أنَّ الماءَ لا ينجِّسه شيءٌ، والنسائيُّ في «الطهارة» (١/ ٤٦) باب التوقيت في الماء، وابنُ ماجه في «الطهارة» (١/ ١٧٢) بابُ مقدار الماء الذي لا ينجس، مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما. وصحَّحه الألبانيُّ في «إرواء الغليل» (١/ ٦٠).

(٢٨) القُلَّة: هي الجَرَّة أو الحُبُّ، وجمعُها: قِلالٌ، وهي اسْمٌ يقع على الجَرَّة الكبيرة والصغيرة؛ وسُمِّيَتْ بذلك لأنها تُقَلُّ وتُحمَلُ، أي: تُرفَع بالأيدي وتُحمَل، ومنه قولُه تعالى: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَآ أَقَلَّتۡ سَحَابٗا ثِقَالٗا[الأعراف: ٥٧]، [انظر: «النهاية» لابن الأثير (٤/ ١٠٤)، «مختار الصِّحاح» للرازي (٥٤٩)، «المغني» لابن قدامة (١/ ٢٢)].

هذا، وقد اختلف العلماءُ في مقدار القُلَّتَيْن: فذَهَب الشافعيَّةُ والحنابلةُ إلى تعيين المراد بالقُلَّتَيْن بأنها المنسوبةُ إلى هَجَر، [وهَجَرُ المقصودة هي قريةٌ قريبةٌ مِنَ المدينة، وليست هَجَرَ البحرين، وكانت تُعمَل بها القِلالُ؛ انظر: «النهاية» لابن الأثير (٤/ ١٠٤)]؛ ومقدارُهما يكون نحوًا مِنْ خمسِ قِرَبٍ، [انظر: «سنن الترمذي» (١/ ٩٩)]؛ وقدَّروا كُلَّ قِرْبَةٍ بمائةِ رِطلٍ، فتكون القُلَّتان خمسَمائة رِطلٍ، غيرَ أنهم يختلفون في ثبوتِ هذا المقدارِ للقُلَّتَيْن: أهو على التحديد أم بالتقريب؟ [انظر: «المغني» لابن قدامة (١/ ٢٢ ـ ٢٣، ٢٧)، «المجموع» للنووي (١/ ١١٥)، «شرح الزركشي» على «الخِرَقي» (١/ ١٢٣)، «شرح العمدة» لابن تيمية ـ كتاب الطهارة ـ (٦٨)، وانظر: مناقشة مذهب المفصِّلين].

(٢٩) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الوضوء» (١/ ٢٧٤) باب الماء الذي يُغسَل به شعرُ الإنسان، ومسلمٌ في «الطهارة» (٣/ ١٨٢ ـ ١٨٣) بابُ حكم ولوغ الكلب، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.

(٣٠) أخرجه مسلمٌ (٣/ ١٨٢).

(٣١) انظر الحديثَ المُتَّفَقَ عليه الذي أخرجه البخاريُّ في «الاستقراض» (٥/ ٦٨) باب ما يُنهى عن إضاعة المال، ومسلمٌ في «الأقضية» (١٢/ ١٢) باب النهي عن كثرة المسائل مِنْ غيرِ حاجةٍ والنهيِ عن منعٍ وهاتٍ، مِنْ حديثِ المغيرة بنِ شُعبةَ رضي الله عنه؛ والحديثَ الذي أخرجه مسلمٌ (١٢/ ١٠) مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.

(٣٢) انظر: «سُبُل السلام» للصنعاني (١/ ٥٢).

(٣٣) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الوضوء» (١/ ٢٦٣) باب الاستجمار وِترًا، ومسلمٌ في «الطهارة» (٣/ ١٧٨) بابُ كراهةِ غَمْسِ المتوضِّئ وغيرِه يدَه المشكوكَ في نجاستها في الإناء قبل غَسْلِها ثلاثًا، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.

(٣٤) انظر: «سُبُل السلام» للصنعاني (١/ ٤١، ٩٨)، «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٢٤).

(٣٥) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الوضوء» (١/ ٣٤٦) باب البول في الماء الدائم، ومسلمٌ في «الطهارة» (٣/ ١٨٧) باب النهي عن البول في الماء الراكد، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.

(٣٦) انظر: الهامش (رقم ١٩).

(٣٧) انظر: «سُبُل السلام» للصنعاني (١/ ٤٧)، «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٢٤).

(٣٨) سبق تخريجه، انظر: الهامش (رقم ٢٧).

(٣٩) سبقت ألفاظُها وتخريجها، انظر: الهوامش (رقم ٢٩، ٣٣، ٣٥).

(٤٠) انظر: «بدائع الصنائع» للكاساني (١/ ١٠٨)، «تبيين الحقائق» للزيلعي (١/ ٢٢)، «الاستذكار» لابن عبد البرِّ (١/ ١٥٩)، «المغني» لابن قدامة (١/ ٢٥)، «المجموع» للنووي (١/ ١١٤).

(٤١) سبق تخريجه، انظر: الهامش (رقم ٢٠).

(٤٢) سبقت ألفاظُها وتخريجها، انظر: الهوامش (رقم ٢٩، ٣٣، ٣٥).

(٤٣) «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٢٦) بتصرُّفٍ يسيرٍ.

(٤٥) سبق تخريجه، انظر: حديث القلتين.

(٤٦) يجوز تخصيصُ اللفظ العامِّ بالمفهوم مُطلَقًا ـ سواءٌ كان مفهومَ موافقةٍ أو مخالفةٍ ـ عند جمهور القائلين بالعموم والمفهوم.

انظر: «العُدَّة» لأبي يعلى (١/ ٥٧٨)، «البرهان» للجُوَيْني (١/ ٤٤٩)، «المستصفى» للغزَّالي (٢/ ١٠٥)، «المحصول» للرازي (١/ ٣/ ١٣)، «روضة الناظر» لابن قدامة (٢/ ١٦٧)، «الإحكام» للآمدي (٢/ ١٥٣)، «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (٢١٥)، «فواتح الرحموت» للأنصاري (١/ ٣٥٣)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (١٦٠).

(٤٧) سبق تخريجها، انظر: الهوامش (رقم ٢٩، ٣٣، ٣٥).

(٤٨) انظر: «المغني» لابن قدامة (١/ ٢٦)، «سُبُل السلام» للصنعاني (١/ ٤١).

(٤٩) سبق تخريجه، انظر: الهامش (رقم ٢٤).

(٥٠) انظر: «سُبُل السلام» للصنعاني (١/ ٥٦)، «نيل الأوطار» للشوكاني (١/ ٧٤).

(٥١) أخرجه أبو داود في «الطهارة» (١/ ٢٦٥) باب الأرض يصيبها البولُ، والدارقطنيُّ في «سُنَنه» (١/ ١٣٢)، والبيهقيُّ في «سُنَنه الكبرى» (٢/ ٤٢٨)، عن عبد الله بنِ مَعقِل ابنِ مُقرِّنٍ. قال أبو داود: «وهو مُرسَلٌ؛ ابنُ مَعقِلٍ لم يُدرِكِ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم»؛ وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح أبي داود» (١/ ١١٢) وقال: «وقد جاء مُرسَلًا وموصولًا مِنْ طُرُقٍ أخرى؛ فالحديثُ بها صحيحٌ».

(٥٢) «سُبُل السلام» للصنعاني (١/ ٥٧).

(٥٣) سبق تخريجه، انظر: الهامش (رقم ٣٣).

(٥٤) «القَبَس» لابن العربي (١/ ١٢٩)، وانظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٢٥)، «تفسير القرطبي» (١٣/ ٥٠)، «الإحكام» لابن دقيق العيد ومعه: «العدَّة» للصنعاني (١/ ٨١).

(٥٥) سبق تخريجه، انظر: الهامش (رقم ١٩).

(٥٦) «تفسير القرطبي» (١٣/ ٥٠).

(٥٧) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «بدء الخَلْق» (٦/ ٣٣٩) بابُ صفةِ إبليسَ وجنودِه، ومسلمٌ في «الطهارة» (٣/ ١٢٧) باب الإيتار في الاستنثار والاستجمار، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه؛ ولفظُ البخاريِّ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ ـ أُرَاهُ ـ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَتَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلاَثًا؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ».

(٥٨) «تهذيب سنن أبي داود» لابن القيِّم (١/ ١٢١).

(٥٩) سبق تخريجه، انظر: الهامش (رقم ٢٧).

(٦٠) «الجوهر النقي» لابن التركماني (١/ ٢٦٥).

(٦١) «تهذيب السنن» لابن القيِّم (١/ ١٢٤).

(٦٢) انظر الحديثَ المُتَّفَقَ عليه الذي أخرجه البخاريُّ في «الرهن» (٥/ ١٤٢) بابُ مَنْ رَهَن دِرعَه، ومسلمٌ في «المساقاة» (٥/ ٣٩ ـ ٤٠) باب الرَّهن وجوازِه في الحَضَر كالسفر، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.

(٦٣) «المستدرك على مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٣/ ١٤ ـ ١٥).

(٦٤) انظر: «مفتاح الوصول» للتلمساني (٦١٠) والمصادرَ الأصوليَّةَ المُثبَتةَ على هامشه.

(٦٥) انظر: «الفتح المأمول» للمؤلِّف (١٦٠).

(٦٦) سبق تخريجه، انظر: الهامش (رقم ٢٩).

(٦٧) انظر: «عيون الأدلَّة» لابن القصَّار (٢/ ٧٣٢)، «سُبُل السلام» للصنعاني (١/ ٥٢).

(٦٨) اختلف العلماءُ في الأصل في الأحكام والمعاني الشرعيَّة: هل تُحمَل على التعبُّد أم على التعليل؟ انظر: «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد ومعه: «العدَّة» للصنعاني (١/ ١٠٦)، «أسباب اختلاف العلماء» للتركي (٦٠).

(٦٩) وسيأتي بيان مسألة ولوغ الكلب بجميع تفاصيلها في «الاستغناء شرح حديث ولوغ الكلب في الإناء».

(٧٠) سبق تخريجه، انظر: الهامش (رقم ٣٣).

(٧١) انظر: «نيل الأوطار» للشوكاني (١/ ٢٠٨)، «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد ومعه: «العُدَّة» للصنعاني (١/ ٧٦).

(٧٢) «رياض الأفهام» للفاكهاني (١/ ٧٧).

(٧٣) سبق تخريجه، انظر: الهامش (رقم ٣٥).

(٧٤) انظر: الهامش (رقم ١٩).

(٧٥) سبق تخريجه، انظر: الهامش (رقم ٢٩).

(٧٦) انظر: «عيون الأدلَّة» لابن القصَّار (٢/ ٨٥٩)، «العُدَّة» للصنعاني (١/ ٩٠).

(٧٧) «رياض الأفهام» للفاكهاني (١/ ٩٤).

(٧٨) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «النكاح» (٩/ ٣٠٢) بابُ ما يُكرَه مِنْ ضرب النساء، ومسلمٌ في «الجنَّة وصفةِ نعيمِها وأهلِها» (١٧/ ١٨٨) بابُ جهنَّمَ ـ أعاذنا اللهُ منها ـ، مِنْ حديثِ عبد الله بنِ زَمعة رضي الله عنه.

(٧٩) «المجموع» للنووي (١/ ١١٧).

(٨١) سبق تخريجه، انظر: الهامش (رقم ٢٧).

(٨٢) انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٢٤).

(٨٣) انظر: الهوامش (رقم: ٢٩، ٣٣، ٣٥).

(٨٤) سبق تخريجه، انظر: الهامش (رقم ٢٤).

(٨٥) سبق تخريجه، انظر: الهامش (رقم ٢٧).

(٨٦) سبق تخريجه، انظر: حديث الباب.

(٨٧) سبق تخريجهما، انظر: حديث الباب، والهامش (رقم ٢٤).

(٨٨) انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٢٦).

(٨٩) سبق تخريجه، انظر: الهامش (رقم ٢٧).

(٩٠) يعني ما رُوِي بلفظ: «خَلَقَ اللهُ المَاءَ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ». والحديث غريبٌ بهذا اللفظ؛ قال الحافظ ـ رحمه الله ـ في [«التلخيص الحبير» (١/ ١٤)]: «لم أَجِدْه هكذا، وقد تقدَّم في حديثِ أبي سعيدٍ بلفظ: «إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»، وليس فيه «خَلَقَ اللهُ» ولا الاستثناء».

وأَقرَبُ شيءٍ إليه ما تقدَّم مِنْ حديثِ أبي أمامة رضي الله عنه: «إِنَّ المَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ»، وبنحوه عن ثوبان رضي الله عنه؛ انظر تخريجهما: الهامش (رقم ١٩).

(٩١) سبق تخريجه، انظر: الهامش (رقم ١٩).

(٩٢) «السيل الجرَّار» للشوكاني (١/ ٥٥).

(٩٣) كذا في الأصل، ولعلَّ الصواب: [أَنْ لَا يحملَه].

(٩٤) «المُستدرَك على مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٣/ ١٥).

(٩٥) «تهذيب سنن أبي داود» لابن القيِّم (١/ ١٢٤ ـ ١٢٥).

(٩٦) سبق تخريجه، انظر: الهامش (رقم ٢٤).

(٩٨) انظر: الهامش (رقم ٢٩).

(٩٩) انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٢٦).