في حكم الخدمات المصرفية مقابل الاقتراض | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
السبت 11 شوال 1445 هـ الموافق لـ 20 أبريل 2024 م



الفتوى رقم: ١٠٥٦

الصنـف: فتاوى المعاملات المالية - القرض والصرف

في حكم الخدمات المصرفية مقابل الاقتراض

السـؤال:

هل يجوز لمقترِضٍ من بنك أن يعتبرَ ما يدفعه من نسبة ضئيلة مقابلَ القرض مجرّدَ رسومٍ وتكاليفَ تستلزم هذه المعاملةُ وجودَها ؟

الجـواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:

فمضمونُ السؤال يندرج في صورة «أَنْظِرْنِي أَزِدْكَ»، وهي إحدى صورتَيْ ربا الديون التي اتّفق العلماء على تحريمها وهي معدودةٌ من الكبائر، قال النووي -رحمه الله-: «أجمع المسلمون على تحريم الرّبا، وعلى أنّه من الكبائر، وقيل: إنّه كان محرَّمًا في جميع الشرائع، وممن حكاه الماوردي»(١)، ومستندُ الإجماع آياتٌ كثيرةٌ نهى اللهُ تعالى فيها المؤمنَ عن أكل الرّبا وأَمَرَهُ بالتقوى، وهدّد الذين لا يستجيبون لنهيه بالمحاربة والوعيد، منها: قولُه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ [البقرة: ٢٧٨-٢٧٩]، وقولُه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ. وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران: ١٣٠-١٣٢]، وقولُه تعالى: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: ٢٧٥]، وقد أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم باجتناب الرّبا وعدَّه أحد الموبِقاتِ السبع(٢) التي تُهْلِكُ صاحبَها في الدنيا والآخرة، كما «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ»(٣).

هذا، ولا فرقَ في التحريم في شريعة الإسلام في حجْمِ الزيادة المشروطة في عقد القرض مِنْ حيث كثرتُها وقلّتُها، ولا فرقَ بين الزيادة في القدر أو في الصفة، ويستوي الناس في التحريم سواء اتّحدت ديانتُهم وديارُهم أو اختلفت، فهو -إذنْ- تحريمٌ كلّيٌّ شاملٌ لكلِّ أنواعه، قال ابن قدامة -رحمه الله-: «وكلّ قرْضٍ شَرَطَ فيه أن يزيدَه فهو حرامٌ بغير خلافٍ، قال ابن المنذر: «أجمعُوا على أنَّ المُسْلِفَ إذا شَرَطَ على المُسْتَسْلِفِ زيادةً أو هديّةً فأَسْلَفَ على ذلك: أنَّ أَخْذَ الزّيادةِ على ذلك ربًا»، وقد رُوِيَ عن أُبَيِّ بن كعبٍ وابنِ عباسٍ وابنِ مسعودٍ أنّهم نَهَوْا عن قرضٍ جرّ منفعةً، ولأنّه عقدُ إرفاقٍ وقربةٍ؛ فإذا شَرَطَ فيه الزيادةَ أخرجه عن موضوعه، ولا فرقَ بين الزيادة في القدر أو في الصّفة»(٤)، وقال النووي -رحمه الله-: «يستوي في تحريم الرّبا الرّجلُ والمرأةُ والعبدُ والمكاتبُ بالإجماع، ولا فرقَ في تحريمه بين دار الإسلام ودار الحرب، فما كان حرامًا في دار الإسلام كان حرامًا في دار الحرب، سواء جرى بين مسلمَيْنِ أو مسلمٍ وحربِيٍّ، سواء دخلها المسلم بأمانٍ أم بغيره، هذا مذهبنا، وبه قال مالكٌ وأحمدُ وأبو يوسفَ والجمهورُ»(٥).

والمعلومُ أنَّ الدِّعَايَةَ اليهوديّةَ التي أضّلت بها النصارى الذين كانوا يحرّمون الرّبا من شبهتين تلقّفهما بعضُ بني جلدتنا ووقعوا فيهما وهما:

الأولى: التفريقُ بين الرّبا والفائدةِ، فالرّبا المحرَّمُ -عندهم- هو ما كانت الزيادةُ فاحشةً على الرأسمال المقترَض.

وأمّا الفائدةُ الجائزةُ فهي الزّيادةُ المعتدِلَةُ التي جَرَتْ تسميتُها في عرف البنوك بمعدَّلِ الفائدةِ أو النسبة المئوية أو سعر الفائدة.

وبهذا التفريقِ أجازوا الفائدةَ الربوية وأناطوا التحريمَ بالكثرة دون القلّةِ المعتدِلَةِ واعتبروها فائدةً جائزةً.

الثانية: التفريقُ بين القروضِ الإنتاجيّةِ والاستهلاكيّةِ، فإذا وردَتِ الزّيادةُ على القروض الاستهلاكيّةِ المأخوذةِ مِنْ قِبَلِ المستقرِِضِ لحاجتِه المعيشيّةِ أو لمآربِه الشّخصيّةِ فهي من الرّبا المحرَّم.

وأمّا الزّيادةُ المشترَطَةُ على القروضِ الإنتاجيّةِ فليستْ -عندهم- من الرّبا المحرَّم، وإنما هي فائدةُ عدلٍ مباحةٌ، معلِّلِينَ ذلك بأن المستَقْرِضَ المُنْتِجَ يستخدم أموالَ المُقْرِضِ في مشاريعِه العمرانيّةِ والتجاريّةِ والإنمائيّةِ، فمِنَ الإنصافِ والعدلِ استفادةُ المُقْرِضِ ممّا عمل به المستقْرِضُ، وليس من الرّبا المحرَّم.

ولا يخفى ضعفُ ما تقدّم معلَّلاً بالتفريق في الشبهتين وفسادُ اعتباره؛ لمقابلته عمومَ النصوصِ الشرعيّةِ والإجماعَ المنعقِدَ على تحريمه من غير تفريقٍ كما سبق بيانُه، ولأنّ الشرعَ اعتبره ظلمًا مِنْ أكلِ أموالِ الناسِ بالباطل مهما اختلفت صفتُه ومقدارُه، ويدلّ عليه عمومُ قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة: ٢٧٩]، وقولُه تعالى -في شأن اليهود- : ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا. وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء: ١٦٠-١٦١]، ولقولِه صلّى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عن ربه: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا»(٦)، واشتراطُ الزّيادةِ مهما قلّتْ يُنافي موضوعَ عقْدِ القرض الذي هو الإرفاقُ والقربة.

هذا، وتسميةُ الفائدةِ الربوية النّاجمة عن الاقتراض باسم رسومٍ مفروضةٍ أو تكاليفَ بنكيّةٍ أو خدماتٍ مصرفيّةٍ مقابلَ الاقتراض فلا تغيّر من أصل المعاملة الربوية في شيء، لأن العبرةَ بالحقيقة والمسمّى لا بالألفاظِ والتسميةِ، فكلّ إقراضٍ نظيرَ فائدةٍ يُعَدُّ معاملةً ربويَّةً محرَّمةً، لا يزول إثمُ تحريمِه إلاّ إذا اقترنت بها ضرورةٌ ملِحّةٌ مستجْمِعَةُ الضوابطِ، فإنّ الإثمَ يرتفع مِنْ جانِبِ المضطَرِّ فقط، وهو متروكٌ لدينه في تقديرها(٧).

وإذا كان حكمُ المعامَلة مع البنوك بالقروض الربوية لا يجوز شرعًا، فإنّ مِنْ أعمالِ البنوكِ الأخرى كالسفتجاتِ الداخليّةِ وخطاباتِ الاعتمادِ وصرفِ مبالغِ الشيكاتِ ونحوِ ذلك من الخدماتِ المقدّمةِ فالظاهرُ جوازُها -وخاصّةً للمحتاج-، بشرط تحديدِ قيمةِ الخدمةِ بسعرٍ معتدِلٍ لا بالنسبة المئويّة، لئلا تزيدَ عن القيمة المطابِقَةِ لحقيقة ما يقدّمه المصرف من خدماتٍ أوّلاً، وأن لا يرضى -ثانيا- بمعاملاتِ البنوك الرّبويّة عن طريق أنواع الإقراض نظيرَ فائدةٍ مشترَطةٍ صراحةً أو مقنّعةٍ بالبيع أو الاستثمارِ، تفاديًا للاشتراك في الإثم والمعصية لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا عُمِلَتِ الخَطِيئَةُ فِي الأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا – وقال مرَّةً: أَنْكَرَهَا – كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا»(٨).

والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.

 

الجزائر في: ١٦ ربيع الثاني ١٤٣١ﻫ
الموافق ﻟ: ٠١ أبريل ٢٠١٠م

 


(١) «المجموع» للنووي: (٩/ ٣٩١).

(٢) أخرجه البخاري في «الوصايا» (٢/ ٣٠)، باب قول الله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾، ومسلم (١/ ٥٤) في «الإيمان» رقم (٨٩)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(٣) أخرجه مسلم (٢/ ٧٤٩) في «المساقاة والمزارعة» رقم (١٥٩٧)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

(٤) «المغني» لابن قدامة: (٤/ ٣٥٤).

(٥) «المجموع» للنووي: (٩/ ٣٩١).

(٦) جزء من حديث: أخرجه مسلم  (٢/ ١١٩٨) في «البر والصلة» رقم (٢٥٧٧)، وأحمد في «مسنده» (٨/ ٨٥)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

(٧) انظر ضوابط الضّرورة الشّرعيّة على الموقع، الفتوى رقم: (٦٤٣) الموسومة ﺑ: «في ضوابط قاعدة «الضّرورات تبيح المحظورات»».

(٨) أخرجه أبو داود (٤/ ٥١٥) في «الملاحم» باب الأمر والنهي من حديث العرس بن عميرة الكندي رضي الله عنه، وحسّنه الألباني في «المشكاة» برقم (٣/ ١٤٢٢) وفي «صحيح الجامع» (٦٨٩).