في أدلة مشروعية دفع الصائل | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م



الفتوى رقم: ٨٩٢

الصنـف: فتاوى منهجية

في أدلة مشروعية دفع الصائل

السـؤال:

نَوَدُّ من شيخنا أن يَذكُرَ لنا أدلَّةَ مشروعيةِ دفعِ الصائل، وحُكمَه الشرعي؟

الجـواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:

فمسألةُ دفعِ الصائل -وهو ما يُعرف بالدفاع الشرعي الخاصّ- مشروعٌ ليحميَ الدافع نفسَه أو عِرضَه أو مالَه، أو يحميَ نفسَ غيرِه أو عِرضَهم أو أموالَهم، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا»(١)، ويكون ذلك بدفع كلِّ اعتداءٍ حالٍّ غيرِ مشروعٍ بالقُوَّةِ اللازمة لدفع ذلك الاعتداء.

ويدلُّ على مشروعية دفع الصائل قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ [البقرة: ١٩٤]، وقولُه تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦]، وما رواه سعيدُ بن زيدٍ رضي الله عنه مرفوعًا: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»(٢)، وبما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه جاء رجلٌ إلى النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فقال: «يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: فَلاَ تُعْطِهِ مَالَكَ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: قَاتِلْهُ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: فَأَنْتَ شَهِيدٌ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: هُوَ فِي النَّارِ»(٣)، وفي حديث آخر لأبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال: «لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ»(٤)، وفي حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: «قَاتَلَ يَعْلَى بْنُ مُنْيَةَ أَوْ بْنُ أُمَيَّةَ رَجُلاً فَعَضَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فَمِهِ فَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ فَاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فَقَالَ: أَيَعَضُّ أَحَدُكُمْ كَمَا يَعَضُّ الفَحْلُ، لاَ دِيَةَ لَهُ»(٥).

والعلماء يتَّفقون على أنَّ دفع الصائل واجبٌ على المدافع حالَ الاعتداء على العِرض؛ لأنّه لا سبيلَ إلى إباحته، ولكنَّهم يختلفون في دفع العُدوان على النفس والمال، وسببُ اختلافهم يرجع إلى أنَّ الدفاع عن النفس والمال أهو حقٌّ أم واجب؟ ولا يخفى أنَّ الحقَّ يقابله الواجبُ وكلاهما يختلف عن الآخر في طبيعة حكمه، فالحقُّ يجوز فعله ولا يأثم صاحبه ولا يعاقَب على تركه، بينما الواجب محتَّم لازمٌ فعله، ويأثم صاحبه، ويعاقب على تركه، وأنَّ فعله -في الأصل- لا يُعدُّ جريمةً سواء أدَّى الواجب أو استعمل الحقَّ؛ لأنّ حكم الفعل -في حدِّ ذاته- مباحٌ، والتفرقةُ بين الحقِّ والواجب من هذه الجهة متفق عليها.

ويفترق الحقُّ عن الواجب من جهةٍ أخرى، وهي أنَّ الحقَّ مُقيَّدٌ بشرطِ السلامة، أي: أنَّ صاحبَ الحقِّ مسئولٌ دومًا عن سلامةِ المحلِّ الذي باشر عليه حقَّه، لكونه مُخيَّرًا بين الفعل والترك، بخلاف الواجب فلا يتقيَّد بشرط سلامة المحلِّ الذي مارس عليه واجبَه، لكونه مُلزَمًا بتأدية الواجب على الوجه المطلوب، وهذه التفرقة بينهما مختلَف فيها، قال بها الأحناف والشافعية خلافًا لما عليه الأمر بالنسبة لمذهبي مالك وأحمد -رحمهم الله- من أنَّ الحقَّ كالواجب لا يتقيَّد بشرط السلامة؛ ذلك لأنَّ استعمال الحقِّ عمل مباحٌ ولا تتحدَّد المسئولية على المباح.

والرأي المعتبرُ في دفع الصائل عن النفس والمال أن تكييف الفعل كماهية أنَّه حقٌّ جائزٌ مُطلَقًا سواء في حالة الفتنة أو غيرِ الفتنة، وليس واجبًا، ويدلُّ عليه قولهُ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «سَتَكُونُ بَعْدِي أَحْدَاثٌ وَفِتَنٌ وَاخْتِلاَفٌ، فَإِن اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ عَبْدَ اللهِ المقْتُولَ لاَ القَاتِلَ فَافْعَلْ»(٦)، فالحديثُ يدلُّ على جواز الاستسلام في النفس، والمال بالأَوْلى، أمَّا حديث «فَلاَ تُعْطِهِ»(٧)، فمحمولٌ نَهْيُهُ على غير التحريم، وقد روى أبو موسى الأشعري في حديث له في الفتن: «قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: كُونُوا أَحْلاَسَ بُيُوتِكُمْ»(٨)، وهذا الحديث وغيرُه ممَّا يدلُّ على عدم وجوب الدفاع عن النفس، ويدلُّ من جهة أخرى على ترك القتال عند ظهور الفتن، والتحذير من الدخول فيها، ويؤيِّد ما ذكر عن عمل عثمان بن عفان رضي الله عنه حيث صحَّ أنَّه منع عبيدَه أن يدفعوا عنه وكانوا أربعمائة، وقال: «من ألقى سلاحَه فهو حُرٌّ»(٩)، فتَرَكَ القتالَ مع إمكانه وهو يعلم أنَّ الثُّوَارَ يريدون نفسَه.

والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٠١ شعبان ١٤١٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٠ نوفمبر ١٩٩٨م


(١) أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب المظالم، باب أعن أخاك ظالما أو مظلوما: (٢٣١١)، والترمذي في «سننه» كتاب الفتن: (٢٢٥٥)، من حديث أنس رضي الله عنه.

(٢) أخرجه أبو داود في «سننه» كتاب السنة، باب في قتال اللصوص: (٤٧٧٢)، والترمذي في «سننه» كتاب الديات، باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد: (١٤١٨)، من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه. وأخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب المظالم، باب من قاتل دون ماله: (٢٣٤٨)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(٣) أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب الإيمان، باب الدليل على أنَّ من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم...: (٣٦٠)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(٤) أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الديات، باب من اطلع في بيت قوم ففقؤوا عينه فلا دية له: (٦٥٠٦)، ومسلم في «صحيحه» كتاب الآداب، باب تحريم النظر في بيت غيره: (٥٦٤٢)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(٥) أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الديات، باب إذا عض رجلا فوقعت ثناياه: (٦٤٩٧)، ومسلم في «صحيحه» كتاب القسامة والمحاربين، باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه إذا دفعه المصول عليه...:(٤٣٦٦).

(٦) أخرجه أحمد في «المسند»: (٢١٩٩٣)، والحاكم في «المستدرك»: (٨٥٧٨)، من حديث خالد بن عرفطة رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألباني في «الإرواء»: (٨/ ١٠٤).

(٧) سبق تخريجه.

(٨) أخرجه أبو داود في «سننه» كتاب الفتن والملاحم، باب في النهي عن السعي في الفتنة: (٤٢٦٢)، والحاكم في «المستدرك»: (٨٣٦٠)، وأحمد في «مسنده»: (١٩١٦٣)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب»: (٢٧٤٢).

(٩) قال ابن حجر في «التلخيص الحبير» (٤/ ٨٦): « لم أجده وفي بن أبي شيبة من طريق عبد الله بن عامر سمعت عثمان يقول إن أعظمكم عندي حقا من كف سلاحه ويده».