فصل [في المسند ووجوب العمل به] | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م



فصل
[في المسند ووجوب العمل به]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٢٣٥] في معرض الاستدلال على وجوب العمل بالمسند:

«...أَنَّهُ لاَ يُمْتَنَعُ مِنْ جِهَةِ العَقْلِ أَنْ يَتَعَبَّدَنَا البَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالعَمَلِ بخَبَرِ مَنْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّنَا ثِقَتُهُ وَأَمَانَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَنَا العِلْمُ بصِدْقِهِ».

[م] ابتدأ المصنِّف بتقرير مذهبِ الجمهور في جواز التعبُّد بخبر الواحد عقلًا، خلافًا لمن رأى أنّ العقل أوجب علينا قَبول خبر الواحد والعمل به، وخلافًا للمعتزلة وابنِ عُلَيَّةَ(١) وطائفة من المتكلمين الذين يرون أنَّه لا يجوز التعبّد بخبر الواحد عقلًا(٢).

واستدلَّ المصنِّفُ من جهة العقل بعدم امتناع أن يتعبَّدنا الله تعالى بالعمل بخبر من يغلب على ظنِّنا ثقتُه وإن لم يقع لنا العلم بصدقه على نحو ما يتعبّدنا بشهادة عدلين، وإن لم يحصل لنا العلم بصدقهما، ومن ذلك ما ثبت في السُّنَّة من الأحاديث الدالَّة على إرساله صلَّى الله عليه وسلَّم الرسلَ للملوك، وللإمارة على البلدان والقضاء بها والسعي على الصدقات وغيرها، فمن ذلك تأميره لأبي بكر رضي الله عنه لموسم الحجّ، وإنفاذه سورة براءة مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتوليته عمر ابن الخطاب رضي الله عنه على الصدقات(٣).

• ثمَّ قال المصنِّف في [ص ٢٣٦]:

«وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَحَابَةِ عَلَى وُجُوبِ العَمَلِ بأَخْبَارِ الآحَادِ كَرُجُوعِ عُمَرَ بنِ الخَطََّابِ رضي الله عنه مِنْ شَرْعٍ بخَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَخْذِهِ جزْيَةَ المَجُوسِ بخَبَرِهِ... وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُحْصَى كَثْرَةً».

[م] ردَّ المصنِّف على مَن لا يُجوِّز التعبُّد بخبر الواحد سمعًا، وهو منسوب لمحمَّد بن داود الظاهري، ومحمَّدِ بن إسحاق وبعضِ الرافضة، واستند على صحَّة مذهبه وهو مذهب الجمهور بإجماع الصحابة السكوتي على وجوب العمل بخبر الآحاد حيث ثبت في وقائع وحوادث كثيرة عن الصحابة رضي الله عنهم عملهم بخبر الواحد من غير نكير، وإن كان كلّ واقعة لم تتواتر لكن بمجموع تلك الحوادث حصل العلم بأنّهم اتفقوا على العمل به، فمن ذلك أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يأخذ الجزية من المجوس حتى حدَّثه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أَخَذَهَا مِنْ مَجوسِ هَجَرٍ(٤)، فقبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك، وبدأ يأخذ الجزية مع أنَّه خبر الواحد، ومن ذلك قول ابن عمر رضي الله عنهما: «كُنَّا نُخَابِرُ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى أَخْبَرَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قَدْ نَهَى عَنْهَا»(٥)، وأنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في خبر حمل بن مالك في إسقاط الجنين: «لَوْ لَمْ نَسْمَعْ بِهَذَا لَقَضَيْنَا بِغَيْرِهِ»(٦)، وأنّه لَمَّا كان أهل قباء يصلون إذ جاءهم آت فقال: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الكَعْبَةِ»(٧).

وممَّا يستدل به الجمهور أيضًا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا[الحجرات: ٦]. فوجه دلالة الآية أنّها تفيد وجوب التبيّن والتثبّت إذا كان المخبر فاسقًا، فظهر بمفهومه أنَّ العدل يُقبل خبرُه من غير تثبّت؛ لأنّ الفائدة من إيراد الفسق في الآية لا تكون إلَّا لمعنى، إذ لا ينسب العبث إلى الشرع.

ومن القياس استدلُّوا بقياس الرواية على الشهادة، وقياس الرواية على الفتوى، فإنّه كما يجب العمل بشهادة العدلين، ويجب العمل بفتوى المفتي يجب العمل برواية العدل أو العدلين عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، والجامع بينهما أنّ كُلًّا منهما يفيد الظنَّ لجواز الغلط على الشاهد والمفتي والراوي.

 



(١) هو أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي البصري، المشهور بابن عُلَيَّة وهي أمه، حافظ فقيه ثقة، توفي سنة (١٩٣ﻫ).

انظر ترجمته في: «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي: (٦/ ٢٢٩)، «سير أعلام النبلاء» للذهبي (٩/ ١٠٧)، «شذرات الذهب» لابن العماد (١/ ٣٣٣).

(٢) انظر: «إحكام الفصول» للباجي (٣٣١)، «التبصرة» للشيرازي (٣٠٣)، «العدة» لأبي يعلى (٣/ ٨٥٩)، «تيسير التحرير» لبادشاه (٣/ ٨٢)، والمصادر المثبة على هامش «الإشارة» (٢٣٥).

(٣) انظر: كتب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ورسله إلى الملوك وأمراءه في «زاد المعاد» لابن القيم (١/ ١١٩ ـ ١٢٦).

(٤) سبق تخريجه، انظر: الرابط.

(٥) سبق تخريجه، انظر: الرابط.

(٦) أخرجه أبو داود (٤٥٧٣) في «الديات» باب دية الجنين، و الحديث ضَعَّف إسنادَه الألبانيُّ في «ضعيف سنن أبي داود» (٣/ ٣٧٩)، وثبت عن المسور ابن مخرمة: «أَنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه استشار الناس في إملاص المرأة، فقال المغيرة بن شعبة: شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قَضَى فِيهَا بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ فَأَتَاهُ بِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةِ». انظر تخريجه في الرابط.

(٧) أخرجه البخاري (٤٤٨٨) في «التفسير» باب: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ الآية، ومسلم (٥/ ١٠) في «المساجد ومواضع الصلاة»، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

الزوار