فصل [في رواية الراوي الخبر وترك العمل به] | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الخميس 9 شوال 1445 هـ الموافق لـ 18 أبريل 2024 م



فصل
[في رواية الراوي الخبر وترك العمل به]

يجدر التنبيه في هذا الفصل إلى تعلّق المسألة بمخالفة الصحابيِّ للحديث بالكلية الذي قطعنا بعلمه به مع جهلنا مأخذه ودليل الراوي على مخالفة الحديث الذي رواه.

أمَّا إذا كانت مخالفة الصحابي للحديث كلية وقطعنا بعلمه مع وضوح المخالفة إمَّا بسبب دليلٍ أو بسبب عدم إحاطته بمعناه، أو بسبب التورَّع والحرج، أو بسبب النسيان؛ فإنَّه لا تقبل تلك المخالفة ويبقى الحديث حُجَّة يعمل به، باستثناء ما إذا اعتمد على دليل فينظر في الدليل، ويترك الحديث إذا ما قبل الدليل لقُوَّته لا من أجل مخالفة الصحابي له وإلَّا لم يصلح الدليل معارضًا له.

أمَّا إذا خالف الصحابي عموم الحديث لا كُليته، فالصحيح أنَّ العموم أقوى ولا يخصّص به إلَّا ما كان له حكم الرفع وذلك فيما لا مجال للرأي فيه؛ لأنَّ المعروف من واقع الصحابة رضي الله عنهم تقديم المرفوع على كلامهم، أمَّا على قول من أجاز التخصيصَ بمذهب الصحابيِّ وهو مذهب الحنفيةِ والحنابلةِ فيتمثَّل دليلُهم في أنَّ قول الصحابي حُجَّةٌ مقدَّمٌ على القياس، وتخصيص العموم بالقياس جائز فيلزم تخصيصه بمذهب الصحابي من باب أولى، فجوابه: أنَّ مذهب الصحابي تحتمل حُجِّيته إذا لم يعارض نصًّا من كتابٍ أو سُنَّة، أمّا إذا عارض ذلك فلا حُجَّة فيه، وقياس قول الصحابي على القياس الشرعي ظاهر البطلان للفرق بينهما؛ ذلك لأنَّ القياس ثبت بناءً على أصل ثابت من كتاب أو سُنَّة فجاز التخصيص به للعلم بالدليل الذي اعتمد عليه القياس، في حين أنَّ الصحابي يُجهل مستنده فافترقا، لذلك وجب العمل بالمعلوم وهو العموم.

أمَّا إذا حمل مذهب الصحابي على إحدى محامل الحديث فلا يُعدُّ ذلك مخالفًا.

[في عمل الراواي بخلاف روايته]

•  قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٢٤٦] بعد تقرير مذهبه وهو وجوب العمل بالخبر وإن ترك الراوي العمل به:

«وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابنَا وَأَصْحَابِ أَبي حَنِيفَةَ: «إِنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ وُجُوبَ العَمَلِ بهِ»».

[م] في مسألة عمل الراوي بخلاف روايته أقوال، والظاهر من مذهب الشافعي أنَّ تأويل الراوي بخلاف الحديث يقدّم ظاهر الحديث عليه، وإن كان هو أحد محتملات الظاهر رجّح تأويله، وبه قال جمهور المالكية، وإليه ذهب أبو الحسن الكرخي(١) وأكثر الفقهاء خلافًا للأحناف وبعض المالكية(٢)، وهو الراجح؛ لأنَّ الحُجَّةَ فيما رواه لا فيما رآه؛ ولأنَّ عملَ الراوي بخلاف ما روى يتطرَّق إليه جملة من الاحتمالات منها:

ـ قد ينسى الراوي الحديث.

ـ وقد يحمل الحديث على غير وجه الصِّحَّة.

ـ وقد يظنّ الحديث منسوخًا وهو ليس كذلك.

ويحتمل أن يصير إلى دليل أقوى في ظنِّه وليس هو أقوى في حقيقة الأمر، وعليه فلا يترك الحديث الثابت بشيء ممَّا يدخل فيه الشكُّ والاحتمال.

والخلاف في هذه المسألة له أثره في بعض المسائل الفقهية منها:

6 أنَّ ابن عمر رضي الله عنهما قال: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ مِنْكَبَيْهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ وَبَعْدَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ»(٣)، وهذا الحديث رواه ابن عمر رضي الله عنهما ولم يعمل به، بل خالفه وكان رضي الله عنهما لا يرفع يديه إلَّا عند افتتاح الصلاة، فمن قَدَّم روايتَهُ عمل بمقتضى الحديث، ومن عمل بما رآه ترك العمل به. والصحيح المذهب الأَوَّل لعِدَّة اعتبارات منها:

ـ الحُجَّة فيما رواه لا فيما رآه.

ـ أنَّ الحديث عمل بمقتضاه أصحابُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم.

ـ أنَّ عدم الرفعِ من ابن عمر رضي الله عنهما مرويٌّ عن مجاهد، وهو معارض بما رواه طاووس أنَّه كان يفعله وهو موافق للرواية.

6 حديث عائشة رضي الله عنها قالت: إنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ»(٤)، وقد خالفت عائشة رضي الله عنها مقتضى الحديث ولم تعمل به، حيث زوَّجت بنتَ أخيها: حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه شقيق عائشة رضي الله عنها مع ابن أختها أسماء رضي الله عنها: وهو المنذر بن الزبير، وكان أخوها عبد الرحمن غائبًا في الشام. فمن عمل بمقتضى الحديث اشترط الولي في الزواج، ومن عمل بمخالفة الراوي لروايته لم يشترط الولي.

والصحيح أنَّ الحُجَّةَ فيما روته لا فيما رأته؛ لأنَّ الصحابة رضي الله عنهم عملوا بمقتضى الحديث، ويحتمل أنَّها زوَّجتها بإذن أخيها أو أوصاها بذلك ولم تعلم أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لَا تُزَوِّجُ المَرْأَةُ المَرْأَةَ»(٥).

 



(١) هو أبو الحسن عبيد الله بن الحسين بن دلال بن دلهم الكرخي، انظر ترجمته على هامش كتاب «الإشارة» (١٧٣).

(٢) انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش كتاب «الإشارة» (٢٤٦).

(٣) أخرجه البخاري (٢/ ٢١٩) في «صفة الصلاة» باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء، ومسلم (٣٩٠) في «الصلاة» باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام، وأبو داود (٧٢١) (٧٢٢) (٧٤١) (٧٤٢) (٧٤٣) في «الصلاة» باب افتتاح الصلاة، والترمذي (٢٥٥) في «الصلاة» باب ما جاء في رفع اليدين عند الركوع، والنسائي (٢/ ١٢١ و١٢٢) في «الافتتاح»، باب العمل في افتتاح الصلاة، وباب رفع اليدين قبل التكبير، وباب رفع اليدين حذو المنكبين، وباب رفع اليدين للركوع حذاء المنكبين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(٤) أخرجه الشافعي في «مسنده» (٢٧٥)، وأحمد (٦/ ٤٧)، والحميدي في «مسنده» (١/ ١١٢)، والدارمي في «سننه» (٢/ ١٣٧)، وأبو داود (٢/ ٥٦٦)، والترمذي (٣/ ٤٠٧)، وابن ماجه (١/ ٦٠٥)، والحديث حسّنه الترمذي، وصحَّحه أبو عوانة، وابن حبان، والحاكم .[نظر: «نصب الراية» للزيلعي (٣/ ١٨٤)، «التلخيص الحبير» لابن حجر (٣/ ١٥٦)، «إرواء الغليل» للألباني (٦/ ٢٤٣)].

(٥) أخرجه ابن ماجه [(١/ ٦٠٦) ١٨٨٢]، والدارقطني [(٣/ ١٥٩) ٣٤٩٥]، والبيهقي (٧/ ١١٠) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه و تمامه: «...ولا تزوَّج المرأة نفسها، فإنَّ الزانية هي التي تزوَّج نفسها»، و الحديث صحَّحه الألباني في «الإرواء» (٦/ ٢٤٨(١٨٤١)، وفي «صحيح ابن ماجه» [(٢/ ١٣٠) ١٥٣٩] دون جملة الزانية.

الزوار