فصل [في حكم نسخ ما يتوقف عليه صحة العبادة] | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
السبت 11 شوال 1445 هـ الموافق لـ 20 أبريل 2024 م



فصل
[في حكم نسخ ما يتوقف عليه صحة العبادة]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٢٥٦]:

«..إِذَا نَقَصَ بَعْضُ الجُمْلَةِ أَوْ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِهَا فَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ الفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بنَسْخٍ، وَبهِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: «هُوَ نَسْخٌ»».

[م] في تحرير محلِّ النِّزاع فإنَّه لا خلاف بين أهل العلم في أنَّ النقصان من العبادة نسخ لما أسقط منها لاعتباره واجبًا ثمَّ أزيل وجوبه، كما لا نزاع بينهم في أنَّ ما لا يتوقَّف عليه صحَّة العبادة لا يكون نسخًا لها(١)، ولكن الخلاف في نسخ ما يتوقَّف عليه صحَّة العبادة سواء كان جزءًا لها كالركن أو خارجًا عنها كالشرط، وفي هذه المسألة أقوال، وما عليه الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وكثير من الفقهاء: أنَّ نسخه لا يكون نسخًا للعبادة وإنَّما هو تخصيص للعموم، وبه قال الفخر الرازي والآمدي وهو مذهب الكرخي وأبي الحسين البصري، وذهب بعض الحنفية إلى: أنَّ نسخه يكون نسخًا للعبادة، وفصل آخرون بين الشرط المنفصل عن الماهية فلا يكون نسخه نسخًا للعبادة وبين الجزء كالركوع فإنَّ نسخه نسخ للعبادة، وهو قول القاضي عبد الجبار وبه قال الغزالي وصحَّحه القرطبي(٢)(٣)، والمصنِّف اختار تفصيل الباقلاني.

والظاهر أنَّ مذهب الجمهور هو الصحيح في عدم نسخ العبادة فيما تتوقَّف عليه صحَّتها؛ لأنَّ الرفع والإزالة لم تتناول إلَّا الجزء أو الشرط ويبقى الباقي على حاله من عدم التغيير، وبقياس النسخ على التخصيص حيث إنَّ التخصيص لا يخرج جميع أفراد العموم، ولوقوع نسخ الشرط والجزء من الشارع ولم تنسخ تلك العبادة بالكلية، مثل: استقبال بيت المقدس الذي هو شرط عند الجمهور في صحَّة الصلاة وقد نسخ هذا الشرط ولم تنسخ تلك الصلاة، وكذلك نسخ عشر رضعات بخمس، وقد نسخ هذا الجزء ولم ينسخ الرضاع بالكلية.

[في اختلاف كون الزيادة على النص نسخًا]

• وفي [ص ٢٥٧] قال الباجي -رحمه الله-:

«وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِ، قَالَ أَصْحَابُ أَبي حَنِيفَةَ: «هُوَ نَسْخُ» وَقَالَ أَصْحَابُنَا وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: «لَيْسَتْ بنَسْخٍ»».

[م] فهذه المسألة إنما تتعلق بالأحكام التي هي الأمر والنهي والإباحة وتوابعها(٤)، وفي تحرير محلِّ النِّزاع فإنَّه لا خلاف في أنَّ الزيادة على النَّص إن كانت من غير جنس المزيد عليه، وكانت مستقلَّة كفرض الزكاة على الصلاة فليست نسخًا(٥)، لكن الخلاف في الزيادة على النصَّ يظهر من جهتين:

الأولى: إن كانت الزيادة من جنس المزيد عليه ومستقلَّة عنه كزيادة صلاة من الصلوات الخمس، فهذا ليس بنسخ على قول الجمهور خلافًا لأهل العراق، ومذهب الجمهور أقوى؛ لأنَّ تلك الزيادة لم ترفع حُكمًا شرعيًّا فانتفت حقيقة النسخ، وبقي المزيد عليه بعد الزيادة مُحكمًا.

الثانية: إن كانت الزيادة من جنس المزيد عليه وغير مستقلّة عنه كزيادة جزء مثل: زيادة التغريب على الجَلْدِ، أو زيادة شرط كاشتراط النية في الطهارة، واشتراط الطهارة للطواف، فهذا لا يكون نسخًا مُطلقًا على رأي الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وبعض المعتزلة خلافًا للأحناف، ومنهم من فصل في هذه المسألة، ورأى أنَّ الزيادة إذا غيّرت حكم المزيد عليه فجعلته غير مجزئ بعد أن كان مجزئًا وجب أن يكون نسخًا، وإن كانت الزيادة لا تغيِّر حكم المزيد ولا تخرجه من الإجزاء إلى ضِدِّه لم يكن نسخًا، وهو مذهب أبي بكر الباقلاني وابن القَصَّار وارتضاه الباجي. وقريب من هذا الرأي قول القائلين أنَّ الزيادة إن أثبتت حُكمًا نفاه النصّ أو نَفَتْ حُكمًا أثبته النصّ فهي نسخ له، وإن كانت الزيادة لم تتعرّض للنصّ بنفي أو إثبات بل زادت عليه شيئًا سكت عنه النصّ فلا يجوز أن يكون نسخًا، وهو الصحيح؛ لأنَّ الزيادةَ رفعت البراءةَ الأصلية التي هي البراءة العقلية ورفعها ليس نسخًا إجماعًا؛ لأنَّ النسخ هو «رفعُ الحكم الشرعيِّ بالدليل المتأخِّر عنه» والبراءة حكم عقلي وليست حُكمًا شرعيًّا(٦).

والخلاف بين العلماء في هذه المسألة معنويٌّ له آثاره الفقهية المترتبة عليه، فمن تمسَّك بأنَّ الزيادة على النَّص نسخ؛ فإنَّه لا يثبت عنده تلك الزيادة بخبر الواحد أو بالقياس؛ لأنَّ المتواتر لا ينسخ بخبر الواحد ولا بالقياس لذلك لم يعملوا بحديث: «تغريب عام»(٧)؛ لأنَّه خبر الواحد تضمَّن زيادة جملة على المتواتر في قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ[النور: ٢]، وكذلك خبر: «لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ»(٨)؛ فإنَّه زيادة تضمَّنها الخبر على المتواتر من قوله تعالى: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ[المزمل: ٢٠]، المفيد لمطلق القراءة وجعل الفاتحة ركنًا هو نسخٌ للمتواتر بخبر الواحد، وذلك غير جائز عند الأحناف، وكذلك خبر: «لَا تُحَرِّمُ المَصَّةُ وَالمَصَّتَانِ»(٩)؛ فإنَّ الزيادة في الخبر على مطلق الرضاع في قوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء: ٢٣]، ونحوها من المسائل.

 



(١) انظر: «المحصول للرازي» (١/ ٣/ ٥٥٦)، «الإحكام» للآمدي (٢/ ٢٩٠)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (٢٩٦).

(٢) هو أبو عبد الله محمَّد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرْح الأنصاري الخزرجي القرطبي، فقيه مالكي مفسِّر ومحدِّث، له تصانيف مفيدة، أشهرها: «الجامع لأحكام القرآن» أجاد فيه في بيان واستنباط الأحكام وإثبات القراءات والناسخ والمنسوخ والإعراب، وله «شرح أسماء الله الحسنى»، و«التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة»، و«التقصي»، توفي سنة (٦٧١ﻫ).

انظر ترجمته في: «الديباج المذهب» لابن فرحون (٣١٧)، «نفح الطيب» للمقري (٢/ ١١٠)، «طبقات المفسرين»، للداودي (٢/ ٦٩)، «طبقات المفسرين» للسيوطي (٩٢)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٥/ ٣٣٥)، «شجرة النور الزكية» لمخلوف (١٩٧).

(٣) انظر تفصيل هذه المسألة في المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (٢٥٦).

(٤) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٦/ ٤٠٧).

(٥) انظر: «المنخول» للغزالي (٢٩٩)، «المحصول» للرازي (١/ ٣/ ٥٤١)، «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ٢٠٩)، «الإحكام» للآمدي (٢/ ٢٨٥)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (١٩٤)، «نزهة الخاطر» لابن بدران (١/ ٢٠٩).

(٦) انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (٢٥٩).

(٧) أخرجه البخاري (١٢/ ١٤٠) في الحدود باب: البكران يجلدان وينفيان من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: «سمعت رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يأمر فيمن زنى، ولم يُحصن بجلد مائة وتغريب عام».

(٨) أخرجه البخاري (٢/ ٢٣٧)، ومسلم (٤/ ١٠٠)، وأبو داود (١/ ٥١٤)، والترمذي (٢/ ٢٥)، والنسائي (٢/ ١٣٧)، وابن ماجه (١/ ٢٧٣) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

(٩) سبق تخريجه، انظر: الرابط.

الزوار