فصل [في اعتبار الإجماع العملي] | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م



فصل
[في اعتبار الإجماع العملي]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٢٧٦]:

«يَجِبُ اعْتِبَارُ أَقْوَالِ الخَاصَّةِ وَالعَامَّةِ فِيمَا كُلِّفَتِ الخَاصَّةُ وَالعَامَّةُ مَعْرِفَةَ الحُكْمِ فِيهِ».

[م] ومرادُه بهذا الضرب الإجماع العملي: أي ما نقلته الأُمَّة كُلُّها كالصلاة، والصوم، والحَجّ، وتحريم القتل، والزنا، والخمر، وغيرها، وهو إجماعُ عامَّة المسلمين ـ عوامهم وخواصهم ـ على ما عُلِمَ من الدِّين بالضرورة، وهو قطعيٌّ لا يجوز التنازع فيه(١).

[في الاختلاف في دخول العامة في الإجماع النظري]

• قال الباجي -رحمه الله- في الصفحة ذاتها مُبيِّنًا ما ينفرد الحُكَّام والفقهاء بمعرفته من أحكام أنه:

«لاَ اعْتِبَارَ فِيهَا بخِلاَفِ العَامَّةِ وَبذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ. وَقَالَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ: «يُعْتَبَرُ بأَقْوَالِ العَامَّةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ»»

[م] ومرادُه بهذا الضرب الإجماع النظري المبني على النظر والاجتهاد عن أدلَّة قطعية أو ظنّيّة، والعامَّة أو العوام هم من عدا العلماء المجتهدين، ولا اعتبار لموافقتهم أو مخالفتهم في انعقاد الإجماع عند جمهور أهل العلم، خلافًا لبعض المتكلِّمين كالقاضي الباقلاني الذي يرى اعتبار قول العامَّة ولا حُجَّة في إجماعٍ بدونهم(٢)، وهو اختيار الآمدي ورجَّحه؛ لأنَّ قول الأُمَّة إنما كان حُجَّة لعصمتها عن الخطإ، ولا يمتنع أن تكون العصمة من الهيئة الاجتماعية من الخاصّة والعامة(٣) لشمول لفظ «المؤمنين» ولفظ «الأُمَّة» للمجتهد والعامِّي، ولا تخصيص إلَّا بدليل.

ومذهب الجمهور أقوى؛ لأنَّ إثبات الأحكام من غير دليل محال، والعامِّي ليس أهلًا للاستدلال والنظر فشأنه كالصبي والمجنون فلا يكون قوله معتبرًا؛ ولأنه يلزمه المصير إلى أقوال العلماء بالإجماع، فلا يتصوّر من ليس أهلًا للاستدلال ثبوت عصمة الاستدلال في حقِّه، لذلك وجب تخصيص النصوص العامَّة الدالَّة على عصمة الأُمَّة بأهل الحلّ والعقد منهم دون غيرهم، ومع ذلك يمكن الجمع بين القولين: أنَّ من أراد إدخال العامِّي في انعقاد الإجماع إنما يدخل حكمًا باعتبار أنّ العامي تبع للمجتهد ومقلَّد له ولا يخرج عنه(٤).

[في الدليل على عدم دخول العامة في الإجماع]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٢٧٧] في معرض الاحتجاج للجمهور:

«وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ العَامَّةَ يَلْزَمُهُمْ اتِّبَاعُ العُلَمَاءِ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُمْ مُخَالَفَتُهُمْ..».

[م] والمصنِّف استدلَّ بالمعقول على مذهب الجمهور، وبيَّن أنَّ العامِيَّ تابعٌ للمجتهد في اجتهاده يلزمه تقليده، وليس له أن يرجِّح أو يُصوِّب أو يخطِّئَ إذ لا قدرة له على ذلك، وبالتالي لا يجوز له مخالفته.

هذا، أمَّا دليله من الشرع فبقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[النحل: ٤٣؛ الأنبياء: ٧]، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا إِنَّمَا شِفَاءُ العِيِّ السُّؤَالُ»(٥)، ففي حكم الدليلين وجوب رجوع العامِّي لأهل العلم، وعليه فلا تكون مخالفته مُعتبرةً فيما يجب اتباع غيره فيه أو تقليده له، أمَّا من القياس فاستدلُّوا بقياس العامِّيِّ على الصبيِّ والمجنونِ في عدم اعتبار خِلافهما ووفاقهما في الإجماع، ولا يفترق أمرُ العامِّيِّ عنهما بجامع نقصان أهلية الجميع، وعليه، فلا يستوي العامي مع كامل الأهلية وهو المجتهد(٦)، ويخصَّص عموم لفظ «المؤمنين» و«الأُمَّة» بالعامِّي كما خصِّص المجنون والصَّبي.

والخلاف في هذه المسألة معنويٌّ من حيث تأثيرُه في الناحية الأصولية على بعض المسائل منها:

ـ في تعريف الإجماع اصطلاحًا، فمن لم يعتبر العامِّيَّ في الإجماع عرَّفه بأنه: «اتفاقُ المجتهدِين مِنْ أُمَّةِ مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم في عصرٍ من العصور بعد وفاته صلَّى الله عليه وسلَّم على حُكْمِ وَاقِعَةٍ مِنَ الوَقَائِعِ»، أمَّا مَن اعتبر مخالفةَ العامِّيِّ فعرَّف الإجماعَ بأنه: «اتفاقُ المكلَّفين مِن أُمَّة محمِّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم في عصرٍ من الأعصار على حُكْمِ واقعةٍ من الوقائع»(٧).

ـ في مسألة خلو العصر من أهل الاجتهاد إلَّا من مجتهدٍ واحدٍ فهل يكون إجماعًا ؟ فمن رأى اعتبار العوامّ قال يكون إجماعًا؛ لأنهم معدودون معه في الإجماع، وهذا لا يصدق إلَّا على الاثنين فصاعدًا، ومن لم يعتبر العوامَّ قال لا يكون إجماعًا لخلوّ العصر من مجتهدٍ غيرِه، لكنه يعتبر قوله حُجَّة يجب على العوامّ اتباعه فيه لعدم خلو العصر من حكم الحوادث والنوازل.

قال الآمدي: «فمن قال بإدخال العوامّ في الإجماع قال بإدخال الفقيه الحافظ لأحكام الفروع فيه ـ وإن لم يكن أصوليًا ـ، وإدخال الأصولي الذي ليس بفقيه بطريق الأولى لما بينهما وبين العامّة من التفاوت في الأهلية وصحّة النظر، هذا في الأحكام، وهذا في الأصول، ومن قال بأنه لا مدخل للعوام في الإجماع اختلفوا في الفقيه والأصولي، نفيًا وإثباتًا، فمن أثبت نظر إلى ما اشتملَا عليه من الأهلية التي لا وجود لها في العامّي، ودخولهما في عموم لفظ «الأُمّة» في الأحاديث السابق ذِكرها، ومن نفى، نظر إلى عدم الأهلية المعتبرة في أئمّة أهل الحلّ والعقد من المجتهدين»(٨).

وهذه المسألة الأخيرةُ تتعلَّق بأهلية الاجتهاد فهل فقدانها إخلال بأهلية الإجماع ؟ فمَن يعتبر قولَ العوامِّ فلا يؤثّر في أهلية الإجماع مَن فَقَدَ أهليةَ الاجتهادِ كالحافظ للفروع أو المحدِّث أو النحويِّ وغيرِهم، ومَن لا يعتبر قولَهم فإنه يؤثَّر في صحّة الإجماع وأهليتِه إخلالًا وإبطالًا.

والمختارُ أنّ كلَّ مَن كان متمكِّنًا من النظر في الواقعة إمَّا بمتقدم حفظه لأدلَّتها، وإمَّا باطلاعه على مأخذها، وتصحيح الصحيح منها، وإبطال الباطل، فيُعتدُّ بقوله ولا ينعقد الإجماع دونه، وخاصّة العالم بأصول الفقه لتوفّر آلة الاستنباط فيه لمعرفة الحكم الشرعي لأيِّ حادثة جديدة، وهو متمكِّن من درك الأحكام إذا أراد وإن لم يحفظ الفروع(٩).

 



(١) انظر «أحكام الفصول» للباجي (٤٥٩)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (٨٧)، «نشر البنود» للعلوي (٢/ ٨٢)، «الفتح المأمول» للمؤلف (٧٩).

(٢) انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (٢٧٧).

(٣) «الإحكام» للآمدي (١/ ١٦٧).

(٤) «الفقيه والمتفقه» للخطيب البغدادي (١/ ١٦٨).

(٥) وفيه قصّة وهي أنَّ الصحابة رضي الله عنهم أفتوا بالاغتسال للرجل الذي أصابَتْهُ جنابةٌ فاغتسل فمات، فلمَّا بلغ ذلك النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال:«قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ…» والحديث أخرجه أبو داود (١/ ٩٣) برقم: (٣٣٦)، وابن ماجه (١/ ١٨٩) برقم: (٥٧٢)، من حديث جابر بن عبد الله وابن عباس رضي الله عنهم. والحديث حسَّنه الألبانيُّ في «صحيح سنن أبي داود» برقم(٣٣٦) (٣٣٧)، وفي «صحيح سنن ابن ماجه» برقم(٤٧٠).

(٦) انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (٢٧٧).

(٧) «الإحكام» للآمدي (١/ ١٤٨).

(٨) «الإحكام» للآمدي (١/ ١٦٩).

(٩) «المستصفى» للغزالي (١/ ١٨٢).

الزوار