فصلٌ [في اعتبار انقراض العصر في صحة الإجماع] | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الأربعاء 15 شوال 1445 هـ الموافق لـ 24 أبريل 2024 م



فصلٌ
[في اعتبار انقراض العصر في صحة الإجماع]

• بعد تقرير مذهب الأكثرين في عدم اعتبار انقراض العصر في صحة الإجماع، قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٢٧٩]:

«وَقَالَ أَبُو تَمَامٍ البَصْرِيُّ مِنْ أَصْحَابنَا وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشّافِعِيِّ لاَ يَنْعَقِدُ الإِجْمَاعُ إِلاَّ بانْقِرَاضِ العَصْرِ».

[م] المرادُ بانقراض العصر موت جميع المجمعين بعد اتفاقهم على الحكم على الحادثة التي نشأت في عصرهم، ومذهب جمهور الفقهاء والمتكلِّمين عدم اعتبار انقراض العصر مُطلقًا لصِحَّة الإجماع، بل يصير حُجَّة عقب انعقاده، وبه قال الأئمَّة الثلاثة، وهو رواية عن أحمد، وإليه ذهب بعضُ المعتزلة واختاره الشيرازيُّ والغزالي والفخرُ الرازي وغيرُهم، خلافًا لمن اشترطه وهي الرواية المشهورة عن أحمد، وعليه أكثر أصحابه، واختاره أبو بكر بن فورك(١)، وسليم الرازي(٢)، وأبو تمام(٣)، والجبائي(٤)، وفي المسألة أقوال أخرى(٥).

وقد استدلَّ المصنِّف لمذهب الجمهور بدليل المعقول، ويؤيِّده أنَّ مناط العصمة هو حصول الاتفاق ولو بعد لحظة فاشتراط انقراض العصر يفتقر إلى دليلٍ يستند إليه، وما كان كذلك لا يُعتدُّ به، ومن جهة أخرى فإنَّ الحكم الثابت بالإجماع لا يختلف عن الحكم الثابت بالنصّ، ولا يشترط في الحكم الثابت بالنصّ اختصاصه بوقت دون غيره، ومن أدلة المنقول المقوِّية لهذا المذهب احتجاج التابعين بإجماع الصحابة رضي الله عنهم وهم بين أظهرهم، مثل احتجاج أنس بن مالك رضي الله عنه بالإجماع وكان حيًّا، واحتجاج الحسن البصري به مع وجود الصحابة رضي الله عنهم، فدلَّ ذلك على أنَّ انقراض العصر ليس شرطًا للإجماع.

وغاية ما يَستدِلُّ به المخالفون المشترطون لانقراض العصر هو الإجماع على وجوب رجوع المجتهد عند ظهور الدليل الموجب للرجوع إذا بان له خطؤه فلو كان اتفاق المجتهدين حُجَّة قبل انقراض العصر لامتنع رجوع المجتهد عن اجتهاده، فاللازم باطل والملزوم مثله، كما أَتْبَعُوا استدلالهم بقياس الإجماع على السُّنَّة في أنَّ شرط استقرارها إنما يكون بعد وفاته صلَّى الله عليه وسلَّم فكذلك يكون بعد انقراض العصر في الإجماع بوفاة المُجمعين.

وقد أُجيبَ عن ذلك بأنَّ محلَّ الإجماع في وجوب رجوع المجتهد عند ظهور موجبه إنما هو في الاجتهاد الانفرادي، أمَّا في الاجتهاد الجماعي ـ وبعد استقرار الإجماع ـ فلا يجوز الرجوع عنه لقطعيَّته.

أمَّا قياس الإجماع على السُّنَّة فظاهرُ البطلان لعدم التسليم بصِحَّة المقيس عليه المتمثِّل في أنَّ وفاة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم شرطٌ في حُجِّيَّة السُّنَّة واستقرارِها؛ ذلك لأنَّ السُّنَّة حُجَّةٌ شرعيةٌ بمجرَّد ظهورها ما لم يَرِدْ دليلُ النسخ ويجب اعتقاد ذلك، وهي من طاعته، وطاعته في الحال وهي حاصلة بالإجماع.

هذا، ومن آثار هذه المسألة ما لو بلغ الناشئ درجة الاجتهاد بعد تحقّق الإجماع وحصوله على تلك المسألة فهل يعتبر خلافه مع كون بعض المجمعين على قيد الحياة ؟

فعلى مذهب الجمهور عدم الاعتداد بخلافه؛ لأنّ انقراض العصر ليس شرطاً لصحَّة الإجماع بخلاف المشترطين له.

ومن فروع هذه المسألة ـ أيضًا ـ رجوع بعض المجمعين عن المسألة محلّ الإجماع فهل تبقى حُجِّيته بعد استقرار الإجماع ورجوع بعض المجمعين عنه ؟ فمن لم يشترط انقراض العصر لصِحَّة الإجماع فيبقى حُجَّة ولو بعد رجوع بعض المجمعين أو كُلِّهم، ومَنِ اشترط فالإجماع يفقد حُجِّيَّته بعد الخلاف.

 



(١) هو أبو بكر محمَّد بن الحسن بن فُورَك الأنصاري الأصبهاني الشافعي، الأصولي النحوي، له تصانيف عديدة في الأصلين، ومعاني القرآن، توفي سنة (٤٠٦ﻫ).

انظر ترجمته في: «طبقات الشافعية» للسبكي (٤/ ١٢٧)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان (٤/ ٢٧٢)، «سير أعلام النبلاء» للذهبي (١٧/ ٢١٤)، «مرآة الجنان» لليافعي (٢/ ١٧)، «طبقات المفسرين» للداودي (٢/ ١٣٢)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٣/ ١٨١).

(٢) هو أبو الفتح سُلَيم بن أيوب بن سليم الرازي الشافعي، الفقيه الأصولي الأديب اللغوي المفسر، من مصنفاته «ضياء القلوب» في التفسير، و«الإشارة» و«الكافي» في الفقه توفي سنة (٤٤٧ﻫ).

انظر ترجمته في: «طبقات الفقهاء» للشيرازي (١١١)، «طبقات الشافعية» للسبكي (٤/ ٣٨٨)، «وفيات الأعيان» (٢/ ٣٩٧)، «دول الإسلام» (١/ ٢٦٣)، «سير أعلام النبلاء» كلاهما للذهبي (١٧/ ٦٤٥)، «مرآة الجنان» لليافعي (٣/ ٦٤)، «طبقات المفسرين» للداودي (١١٩٦)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٣/ ٢٧٥).

(٣) انظر ترجمته على هامش «الإشارة» (٢٧٩).

(٤) هو أبو عليٍّ محمَّد بن عبد الوهاب بن سلام الجُبَّائي البصري، رأس المعتزلة وشيخهم، قال الذهبي: «وكان أبو علي ـ على بدعته ـ متوسعًا في العلم، سيال الذهن، وهو الذي ذلَّل الكلام وسهّله، ويسَّر ما صعب منه»، له تصانيف من أشهرها «تفسير القرآن»، و«متشابه القرآن»، و«الأصول»، و«الاجتهاد»، و«الأسماء والصفات»، مات بالبصرة سنة (٣٠٣ﻫ).

انظر ترجمته في: «وفيات الأعيان» لابن خلكان (٤/ ٢٦٧)، «سير أعلام النبلاء» (١٤/ ١٨٣)، «دول الإسلام» كلاهما للذهبي (١/ ١٨٤)، «البداية والنهاية» لابن كثير (١١/ ١٢٥)، «طبقات المفسرين» للسيوطي (٣٣)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٢/ ٢٤١).

(٥) انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (٢٧٩).

الزوار