فصْلٌ [في إحداث قولٍ ثالثٍ فيما إذا اختلف الصحابة على قولين] | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م



فصْلٌ
[في إحداث قولٍ ثالثٍ فيما إذا اختلف الصحابة على قولين]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٢٨٥]:

«إِذَا اخْتَلَفَتِ الصَّحَابَةُ فِي حُكْمٍ عَلَى قَوْلَيْنِ لَمْ يَجُزْ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ، هَذَا قَوْلُ كَافَّةِ أَصْحَابنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعيِّ، وَقَالَ دَاوُدُ: يَجُوزُ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ».

[م] مذهب الأكثرين أنَّ إحداثَ قولٍ ثالثٍ في مسألةٍ اختلف فيها على قولين ممنوعٌ، وبه قال محمَّدُ بنُ الحسن الشيبانيُّ(١)، خلافًا لبعض الحنفية والمتكلِّمين وأهلِ الظاهر، وفي المسألةِ رأي ثالثٌ يُفصِّل، ووجهه: إن كان إحداث قول ثالث يترتب عليه الخروج عمَّا أجمعوا عليه فلا يجوز إحداثه وإلَّا جاز، واختاره الفخر الرازيّ والآمدي وابنُ حاجب والبيضاويُّ والقرافي وابنُ السبكي(٢) وغيرُهم(٣).

والظاهرُ عدمُ اختصاصِ المسألة بالصحابة، بل هي شاملة لأهل عصر من العصور إذا اختلفوا على قولين، فهل يعدُّ هذا الاختلاف إجماعًا عليهما ؟ وينبني على اعتباره مسألتان:

الأولى: إنه لا يجوز لمن بعدَهم الإجماعُ على إحداث قولٍ ثالث مثل: اختلاف الصحابة في الإخوة مع الجدِّ، فيرى بعضُهم أنَّ الجدَّ أبٌ يحجب الأخَ، ويرى غيرُهم أنَّ الجدَّ والأخَ يرثان فكلا المذهبين يُجمعان على أنَّ للجدِّ نصيبًا، فالقول بأنَّ الأخَ يحجب الجدَّ خرق للإجماع، ومذهب الجمهور هو الصحيح؛ لأنَّ إحداث قولٍ ثالثٍ إذا كان رافعًا لِمَا اتفق الأوَّلون فمخالفته لا تجوز؛ لأنَّ في ذلك نسبة الأُمَّة إلى ضياع الحقِّ والغَفلة عنه، وذلك باطلٌ قطعًا، وينبني عليه ـ أيضًا ـ القول بخلوِّ العصر عن قائمٍ لله بحُجَّته، وأنه لم يبق من أهل ذلك العصر على الحقِّ أحدٌ، وهذا باطلٌ ـ أيضًا ـ.

أمَّا إحداثُ تفصيلٍ لا يرفع ما اتفق عليه القولان فلا يُعَدُّ هذا التفصيلُ قولًا جديدًا، فلا مانع منه، والمسألة تكون اجتهادية ولم يرد فيها ما يخالف الإجماع، ومثاله: قول بعضهم في متروك التسمية يُؤكلُ مُطلقًا، ويمنعه بعضُهم الآخرُ مُطلقًا، فالقول بأنه يُؤكلُ في ترك التسمية نسيانًا لا عمدًا تفصيلٌ؛ لأنه وافق كلاًّ من القولين في شيء، فهو في حالة النسيان وافق المجيزين وفي حالة العمد وافق المانعين(٤).

المسألة الثانية: وهي أنَّ الصحابة إذا اختلفوا على قولين لم يجز لمن بعدهم الإجماع على أحد القولين؛ لأنَّ نزاع الصحابة واختلافَهم لا يمكن أن يكون على خلاف الإجماع فلا يصحُّ إجماعٌ يخالفه بعضُ الصحابة، وعليه فالمسائل على نوعين:

النوع الأول: ما للصحابة فيها قول أو أقوال فيجب اتباع ما عليه الصحابة من إجماع أو اختلاف، فما كان فيه من إجماع فظاهر، وما كان عليه من اختلاف فالموقف الصحيح هو التَّخيّر من أقوالهم بالدليل، وجعلها من المسائل الاجتهادية التي تُرَدُّ إلى الدليل؛ لأنَّ في انعقاد الإجماع بعد اختلافهم نسبة الأُمَّة إلى تضييع الحقّ والغفلة عن الدليل الذي أوجب الإجماع، ولذلك لا يجوز الخروج عمَّا سَنَّهُ الصحابة من مسائل الإجماع والخلاف(٥). قال ابن تيمية: «وذلك أنَّ إجماعَهم لا يكون إلَّا معصومًا، وإذا تنازعوا فالحقّ لا يخرج عنهم، فيمكن طلب الحقّ في بعض أقاويلهم، ولا يحكم بخطأ قول من أقوالهم حتى يعرف دلالة الكتاب والسُّنَّة على خلافه»(٦).

النوع الثاني: ليس للصحابة فيها كلام منقول عنهم في حكم المسائل الحادثة بعدهم، فهذا النوع يسوغ لمن بعدهم الإجماع فيه كما يجوز الاختلاف على ما يبيِّنه الدليل الشرعي ويُقرِّرُه.

 



(١) هو أبو عبد الله محمّد بن الحسن بن فرقد الشيباني الكوفي، سمع من أبي حنيفة، وتأثَّر بمذهبه في الأخذ بالرأي، وتفقَّه على أبي يوسف وأخذ عنه الشافعي وأثنى عليه، تولى قضاء الرقة ثمّ خراسان، ودَوَّنَ فقه أبي حنيفة ونشره، له مؤلفات منها: «الجامع الكبير والصغير»، و«السير الكبير والصغير»، و«الآثار»، و«الزيادات والنوادر» توفي بالري سنة (١٨٩ﻫ).

انظر ترجمته في: «الفهرست» للنديم (٢٥٧)، «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (٧/ ٢٢٧)، «المجروحين» لابن حبان (٢/ ٢٧٥)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان (٤/ ١٨٤)، «اللباب» لابن الأثير (٢٢١٩)، «سير أعلام النبلاء» (٩/ ١٣٤)، «دول الإسلام» كلاهما للذهبي (١/ ١٢٠)، «لسان الميزان» لابن حجر (٥/ ١٢١)، «شذرات الذهب» لابن العماد (١/ ٣٢١).

(٢) هو أبو نصر تاج الدين عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي الأنصاري الخزرجي السبكي الشافعي، كان عالِمًا بالفقه ماهرًا في الأصول، بارعًا في الحديث والأدب، شارك في العربية، وكانت له يد في النظم والنثر، انتهت إليه رئاسة القضاء والمناصب بالشام، من مصنفاته: «رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب»، و«جمع الجوامع»، و«منع الموانع»، و«المنهاج» في الأصول، و«الأشباه والنظائر» في القواعد، توفي بالطاعون سنة (٧٧١ﻫ).

انظر ترجمته في: «البداية والنهاية» لابن كثير (١٤/ ٣١٦)، «الدرر الكامنة» لابن حجر (٢/ ٤٢٥)، «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (٣/ ١٠٤)، «البدر الطالع» للشوكاني (١/ ٤١٠)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٦/ ٢٢١)، «الفكر السامي» للحجوي (٢/ ٤/ ٣٤٥).

(٣) انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (٢٨٥).

(٤) «مذكرة الشنقيطي» (١٥٦ ـ ١٥٧).

(٥) «الفقيه والمتفقه» للخطيب البغدادي (١/ ١٧٣).

(٦) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٣/ ٢٤).

الزوار