باب حكم استصحاب الحال | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م

باب
حكم استصحاب الحال

[في استصحاب حال العقل]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٣٢٢]:

«... اسْتِصْحَابِ الحَالِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: اسْتِصْحَابُ حَالِ العَقْلِ، وَذَلِكَ إِذَا ادَّعَى فِي المَسْأَلَةِ أَحَدُ الخَصْمَيْنِ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَادَّعَى الآخَرُ البَقَاءَ عَلىَ حُكْمِ العَقْلِ».

[م] الاستصحاب هو: «الاسْتِدْلَالُ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى نَفْيِ الحُكْمِ، أَوْ بَقَاءِ مَا هُوَ ثَابِتٌ بِالدَّلِيلِ»(١).

أو هو: «اسْتِدَامَةُ إِثْبَاتِ مَا كَانَ ثَابِتًا أَوْ نَفْيِ مَا كَانَ مَنْفِيًّا حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى تَغْيِيرِ الحَالَةِ»(٢)، وقد جعله المصنِّفُ ضربين، تناول في أحدهما استصحاب حال العقل، ويُعرف هذا الضرب عند الأصوليِّين باستصحاب العدم الأصلي المعلوم بدليل العقل في الأحكام الشرعية كبراءة الذِّمَّة من التكليف حتى يأتي دليلٌ شرعيٌّ على تغيّره، ويطلق عليه ـ أيضًا ـ البراءة الأصلية أو الإباحة العقلية، وقد مثَّل لها المصنِّف بوجوب الوتر، وأنه يحكم ببراءة الذِّمَّة من الواجبات قبل ورود الشرع حتى يقوم الدليل على شغلها بالتكليف أو بثبوت الحقِّ، ومثاله ـ أيضًا ـ: أنَّ الدليلَ دلَّ على إيجاب خمس صلواتٍ وهو قاصرٌ على إيجاب الخمس، فبقيت السادسة غير واجبة للعلم بعدم الدليل على وجوبها، أي بقيت على العدم الأصلي، وإذا أوجب الشارع عبادةً على قادر، بقي العاجز على ما كان عليه لعدم الدليل، وإذا كان الأصل عدم انتقاض الوضوء بشيء يخرج من غير السبيلين، فيُستصحب هذا الأصل حتى يثبت الدليل على خلافه، فإذا لم يثبت فيبقى الأصل عدم النقض، ذلك لأنَّ الله تعالى خلق الذِّمَمَ غيرَ مشغولةٍ بشيءٍ حتى يثبت شُغلها بالدليل.

وهذا الضربُ من الاستصحاب حُجَّة باتفاق الجمهور خلافًا للمعتزلة(٣)، وبعض المالكية(٤)، وحُجَّتُه على الحقيقة العلم بعدم الدليل لا عدم الدليل، وهي طريقة صحيحة من الاستدلال كما قال المصنِّف.

[في استصحاب حال الإجماع]

• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص ٣٢٣]:

«وَالثَّانِي: اسْتِصْحَابُ حَالِ الإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ مِثْلُ اسْتِدْلاَلِ دَاوُدَ عَلىَ أَنَّ أُمَّ الوَلَدِ يَجُوزُ بَيْعُهَا، لأَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا قَبْلَ الحَمْلِ، فَمَنْ ادَّعَى المَنْعَ منْ ذَلِكَ بَعْدَ الحَمْلِ، فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ مِنَ الاِسْتِدْلاَلِ».

[م] والمراد به استصحابُ حكمٍ ثابتٍ بالإجماع في محلِّ النِّزاع بين أهل العلم، ومثَّل له المصنِّفُ بقول داود الظاهريِّ وأتباعِهِ في جواز بيع أمِّ الولد، حيث إنَّ الإجماع مُنعقِدٌ على جواز بيع الجارية قبل أن يستولدها سَيِّدُها فتلد له ولدًا ، فيبقى هذا الإجماع مستمرًّا حكمُه إلى ما بعد الحمل والولادة بمقتضى استصحاب الحال؛ لأنَّ الولادة لا تزيل الحكم المجمعَ عليه، والجمهورُ يمنعون الاستدلال بمجرَّد الاستصحاب؛ لأنَّ انعقاد الإجماع إنما كان على صِفَةٍ وهي قبل أن يستولد الجارية سيِّدها، وهذه الصفة كانت قبل محلِّ النِّزاع، فلا يستلزم الإجماع على صفة أخرى وهي ما بعد الحمل والولادة؛ لأنَّ شرطَ الاستصحاب بقاءُ الحال على الصفة التي كانت وقت الحكم، فإذا تغيَّرت الصفةُ وهي مَنَاطُ الحُكم تغيَّر موجب الحكم لزوال تلك الصفة، فيخضع الأمر لحكم آخر، لذلك عدَّها المصنِّف طريقةً غير صحيحةٍ من الاستدلال.

ومثاله ـ أيضًا ـ: انعقادُ الإجماعِ على صِحَّة صلاةِ المتيِّمم الفاقد للماء، فإذا وجد الماءَ قبل دخوله في الصلاة بَطَلَ تيمُّمُهُ، فلا تصحُّ الصلاة به، لكن إذا لم يجد الماء وتيمَّم، ودخل في الصلاة، فهل يستصحب حكم الإجماع وهو صحة الصلاة عند فَقْدِ الماء أم لا تصحُّ صلاته لتغيُّر الحال من فقد الماء إلى وجوده ؟

وهذه المسألة ترجع إلى استصحاب حكم الإجماع في محلِّ الخلاف، وقد اختلف العلماء في صِحَّتِهِ، فنفاه أكثرُ الحنفية والمالكية والحنابلةِ وبعضُ الشافعية، وأثبته الشافعيُّ، وبه قال المزني وأبو ثور والصيرفي، واختاره الآمديُّ وابنُ الحاجب وابنُ القيم، وهو مذهب داود الظاهري(٥) ـ كما تقدَّم ـ.

وعُمدةُ المثبتين لاستصحاب الإجماع في محلِّ النِّزاع ـ مع اعترافهم بأنه لا إجماعَ في محلِّ النِّزاع ـ أنه لا يجب الانتقال عن حُكم الأصل إلَّا بدليلٍ ناقلٍ، وتبدُّلُ حال المحلِّ المجمَعِ على حكمه أوَّلًا كتبدّل زمانه ومكانه وشخصه، وهذه الأوصاف لا تمنع استصحاب ما ثبت له قبل التبدّل، حتى يقوم الدليل على أنَّ الوصف ناقلٌ للحكم مُثبتٌ لضِدِّه، كما جعل الدباغ ناقلًا لحكم نجاسة الجِلد، فقبل الدِّباغ فالنجاسة باقيةٌ، فإنَّ هذا يوجب سقوط استصحاب حكم الإجماع؛ لأنَّه رفع بما ثبت من الحكم، أمَّا مجرّد النِّزاع فلا يقوى على رفع استصحاب حكم الإجماع إلَّا أن يقوم الدليلُ على أنَّ ذلك الوصفَ الحادثَ جعله الشارع دليلًا على نقل الحكم، وحينئذٍ يكون معارضًا في الدليل، لا قادحًا في الاستصحاب(٦).

وقد أجاب المصنِّف على ذلك بقوله: «لأنَّ الإجماع لا يتناول موضع الخلاف»، أي: لا إجماعَ مع الخلاف؛ لأنَّ الخلافَ يُضادُّ الإجماعَ، فليس هناك ما يستصحب؛ ولأنَّ الاستصحاب يكون لأمرٍ ثابتٍ فيُستصحب ثبوتُه، أو مُنتف فيُستصحب نفيُه، فلا يكون الإجماع حُجَّةً في الموضوع الذي لا إجماع فيه(٧)، فضلًا عن ذلك فإنَّ هذا الضرب من استصحاب محلِّ الخلاف يؤدِّي إلى تكافؤ الأدلَّة، إذ كلٌّ من المتنازعين يصحُّ له أن يستصحب الإجماعَ في محلِّ النِّزاع على الوجه الذي يوافق مذهبَه، فقد يَستدِلُّ أحدُهما على صِحة صلاته بالتيمُّم قبل رؤية الماء بالإجماع، ويستصحب هذه الحالةَ إلى ما بعد رؤية الماء أثناء الصلاة، ثمَّ يُصَحِّحُها بهذا النوع من الاستصحاب، وقد يستدلُّ غيرُه على عدم صحة صلاة المتيمِّم عند رؤية الماء قبل الصلاة إذا صَلَّى بالإجماع، ثمَّ يستصحب هذه الحالة إلى أثناء الصلاة، فيحكم على صلاته بالبطلان بنفس هذا النوع من الاستصحاب(٨).

ومن جهة أخرى، فقد استدلَّ المصنِّف على عدم حُجِّية هذا الاستصحاب بالقياس على «ألفاظ الشارع إذا تناولت موضعًا خاصًّا لم يصحَّ الاحتجاجُ بها في الموضع الذي لا تتناوله»، وقد يرد على هذا القياس أنَّ ألفاظ الشرع لا تخلو من حُكمٍ شرعيٍّ فإذا ثبت بالدليل تناوله موضعًا خاصًّا فإنَّه يخرج من العموم ويبقى الباقي على عمومه.

ومن هنا يظهر أنَّ الخلاف بين أهل العلم معنوي له آثاره المترتّبة عليه، فمن رأى حُجّية استصحاب حُكم الإجماع في محلِّ الخلاف قال بجواز بيع أم الولد بعد الحمل، كما قال بصحة صلاة المتيمم أثناء الصلاة بعد رؤية الماء، خلافًا لمن لم يحتجَّ به، ونظيرُ هذه المسألة اختلافُهم فيما إذا شرع المتمتِّع في الصوم لعدم وجود الهدي، ثمَّ وجده، فهل يجب عليه الخروج من الصوم إلى الهدي، أو أنه يجزيه الصوم ولا يلزمه الهدي ؟ مع إجماعهم على أنَّ المتمتِّع بالحجِّ يجب عليه الهدي إن قدر عليه، فإن لم يجده وجب عليه الصوم لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ[البقرة: ١٩٦].

ومذهبُ الأئمَّة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد على أنه إذا شرع في الصوم انتقل الواجب عليه من الهدي إلى الصوم، فإذا وجد الهدي لم يلزمه الخروج من الصوم، خلافًا لأبي حنيفة فإنَّه إذا وجد الهدي أثناء صوم الأيام الثلاثة أو بعدها قبل يوم النحر، وجب عليه الخروج من الصوم إلى الهدي(٩)، ولهذا الأصل آثار فقهية أخرى.

هذا، والمصنِّف قسَّم استصحاب الحال إلى ضربين، لكن علماء الأصول يضيفون عليهما أقسامًا أخرى منها:

استصحابُ ما دلَّ العقلُ والشرعُ على ثبوتِه ودوامه لوجودِ سببِهِ: كدوام حلّ الزوجة بعد ثبوت عقد الزوجية، وكالملك عند جريان العقد، فإنه يثبت حتى يوجد ما يزيله، وكشغل الذِّمَّة بدفع الشيءِ المتلَف وضمانه عند وجود سببه ـ وهو الإتلاف ـ فإنَّ هذه الذِّمَّةَ تبقى مشغولةً حتى يَرِدَ ما يُزيلُه، وهذا النوعُ من الاستصحاب حُجَّةٌ عند المالكية والشافعية والحنابلة مُطلقًا ما لم يثبت مُعارِضٌ، وهو عند الأحناف حُجَّةٌ في الدَّفع وإبداء العذر لا في الإثبات.

استصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي حتى يثبت خلافُه: كاستصحاب الطهارة إذا شكَّ في الحَدَثِ حتى يثبت الحدثُ، فالطهارة وَصْفٌ مستصحب لإباحة الصلاة، وحياة المفقود تستمرُّ ثابتةً حتى يقوم الدليلُ على خلاف ذلك، والكفالةُ وصفٌ شرعيٌّ يستمرُ ثابتًا حتى يُؤدِّي الدَّينَ أو يبرأَ منه، وقد ذكر ابنُ القيِّم -رحمه الله- أنه لا خلافَ بين هذا النوع والذي قبله، وإن تنازع الفقهاء في بعض أحكامه، لتجاذب المسألة أصلين متعارضين(١٠).

استصحاب العموم إلى أن يَرِدَ دليلٌ مُخصِّصٌ، واستصحاب النصّ حتى يَرِدَ النَّسْخُ: وهذا القسم ـ أيضًا ـ محلُّ اتفاقِ العلماء على وجوب العمل به.

استصحاب الحكم العقليّ عند المعتزلة، فإنَّ العقل يحكم عندهم في بعض الأشياء إلى أن يرد الدليل السمعيُّ، وقد أجمع أهلُ السُّنَّة على إبطاله؛ لأنه لا حُكم للعقل في الشرعيات(١١).

وتجدر الملاحظة إلى أنَّ الاستصحابَ لا يعتمد عليه إلَّا بعد انتفاء الأدلَّة الشرعية الصالحة للاحتجاج من الكتاب والسُّنَّة والإجماع والقياس وغيرها، فهو آخِرُ ما تدور عليه الفتوى لكونه أضعف الأدلة(١٢)، كما لا يجوز من جهة أخرى تحميل الاستصحاب أكثر ما يستحقُّه؛ لأنَّ غالبَ نفاة القياس ممَّن توسَّعوا في الاستصحاب فهموا من النصِّ حُكمًا أثبتوه مع نفيهم لما يتضمَّنه من إشارة أو إيماء أوإلحاق، فعملوا بموجب الاستصحاب لعدم علمهم بالناقل وتوسَّعوا في العمل به على العمل بمقتضى النص(١٣).

 



(١) «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني (١٧٢).

(٢) «إعلام الموقعين» لابن القيم (١/ ٣٣٩).

(٣) والمعتزلة يتَّفقون مع الجمهور في الفرع غير أنهم يخالفونهم في الأصل؛ لأنَّ مبنى مذهبهم التحسين والتقبيح العقليان؛ أي: أنَّ الحكم للعقل فيما أمكن أن يعرفه العقل ولا ينتقل عنه إلَّا بدليل، وهو على تباين من مبنى مذهب الجمهور في أنَّ الأصل براءة الذِمَّة لعدم الدليل، وهو الصحيح بلا شك؛ لأنَّه لا حكم للأشياء والأعيان قبل ورود الشرع، أمَّا بعده فإنَّ الأشياء لا تخلو من حكم شرعي متمثِّل في نصٍّ خاصٍّ أو قياسٍ أو قاعدة شرعية عامَّة تندرج تحتها الفروع ولا تشذّ عنها. [«البرهان» للجويني (٢/ ١١٣٥)، «المعتمد» لأبي الحسين (٢/ ٨٨٤)، «المستصفى» للغزالي (١/ ١٢٧)، «البحر المحيط» للزركشي (٦/ ٢١)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (٤/ ٣٠٤)].

(٤) انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (٣٢٣).

(٥) انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (ص ٣٢٥).

(٦) «إعلام الموقعين» لابن القيم (١/ ٣٤٣).

(٧) المصدر السابق، «المستصفى» للغزالي (١/ ١٢٨).

(٨) المصدر السابق (١/ ٣٤١)، «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ٣٩٢)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (٤/ ٤٠٧).

(٩) «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٣٥٦)، «المغني» لابن قدامة (٣/ ٤٢٠)، «المجموع» للنووي (٧/ ١٨٦)، «فتح القدير» لابن الهمام (٢/ ٢٠٧).

(١٠) «إعلام الموقعين» لابن القيم (١/ ٣٤٠).

(١١) انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (٣٢٣).

(١٢) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٣/ ١١٢).

(١٣) المصدر السابق (٢٣/ ١٦)، «إعلام الموقعين» لابن القيم (١/ ٣٢٧).

 

 

الزوار