فصل [في الاحتجاج بالعام المخصَّص] | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
السبت 11 شوال 1445 هـ الموافق لـ 20 أبريل 2024 م



فصل
[في الاحتجاج بالعام المخصَّص]

• قال أبو الوليد -رحمه الله- في [ص ١٨٨]:

«فَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَخْصِيصِ أَلْفَاظِ العُمُومِ بَقِيَ بَاقِي مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ العَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ عَلَى عُمُومِهِ أَيْضًا، يُحْتَجُّ بهِ كَمَا كَانَ يُحْتَجُّ بهِ لَوْ لَمْ يُخَصَّ شَيْءٌ مِنْهُ».

[م] اللفظ العامُّ سواء كان أمرًا أو نهيًا أو خبرًا يجوز تخصيصه بدليل صحيح، ويجب العمل به في صورة التخصيص وإهمال دلالة العامِّ عليها، وتبقى دلالة العامِّ حُجَّة قاصرة على ما عدا صورة التخصيص، سواء كان المخصِّص مُتَّصلًا أو منفصلًا، وهذا مذهب جمهور العلماء الذي قرَّره المصنِّف وهو الراجح من أقوال أهل العلم، ويكفي للدلالة على صحَّة هذا المذهب إجماع الصحابة رضي الله عنهم على الاحتجاج بالعُمومات مع أنَّ معظمها مخصوص، فمن إجماعاتهم: احتجاجهم بقوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ[النور: ٢]، وقوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا[المائدة: ٣٨]، مع دخول التخصيص على الآيتين كالصبي، والمجنون، والمكره، والجاهل، وكاحتجاج فاطمة بنت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ[النساء: ١١] على طلب حقِّها في الميراث ولم ينكر عليها أبو بكر رضي الله عنه ولا غيره من الصحابة مع أنَّ الآية مخصَّصة بعدم توريث الكافر والقاتل والعبد، وكذا ما احتجَّ به عليها أبو بكر رضي الله عنه على سبيل التخصيص للآية السابقة بقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ»(١).

[في جواز تخصيص العام إلى أن يبقى فردًا واحدًا]

• وقول المصنّف في هذا الفصل من [ص ١٨٩]:

«…وَكَذَلِكَ لَوْ وَرَدَ تَخْصِيصٌ آخَرُ لَبَقِيَ اللَّفْظُ العَامُّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّخْصِيصِ».

[م] يجوز التخصيص إلى أن يبقى العامُّ فردًا واحدًا مُطلقًا، سواء كان جمعًا كالرجال، أو غير جمع ﻛ «من» و«ما»، وتبقى دلالة العام حجّة قاصرة على ذلك الفرد الباقي بعد التخصيص، وهو مذهب الجمهور، وبه قال مالك -رحمه الله- وهو الصحيح، ويشهد لهذا المذهب وقوعه في القرآن واللغة، مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[سورة الحجر: ٩] ومُنزّل الذِّكْرِ هو الله تعالى، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ[البقرة: ١٩٩]، والمقصود به «إبراهيم عليه السلام»، وقوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ[النساء: ٥٤]، والمقصود ﺑ ﴿النَّاسَ﴾ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ[النور: ٢٦]، والمقصود به «عائشة» رضي الله عنها، وقد كتب عمر رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «إني قد وجهت إليك ـ أو أمددتك ـ بألفي رجل، عَمرو بن مَعْدِي كَرِبَ(٢)، وطُليحة بن خُويلِد(٣)، فشاورهما في الحرب ولا تولهما شيئًا»(٤)، ولم يرد نكير في إطلاق ألف على كلِّ واحدٍ منهما(٥).

[في المخصِّصات المتصلة]

• وقول الباجي -رحمه الله- بعدها:

«وَيَجُوزُ أَنْ يَرِدَ التَّخْصيصُ وَالبَيَانُ مَعَ اللَّفْظِ العَامِّ».

[م] التخصيص نوعٌ من البيان إذا ارتبط بالمبيّن على صفة تحدّ من عمومه(٦)، سواء كان التخصيص منفصلًا أو متَّصلًا، والمخصِّصات التي ترتبط بكلام آخر ولا تستقلُّ بنفسها هي المخصِّصات المتصلة منها: الاستثناء، والشرط، والغاية، والصفة، واقترانها بالعامِّ يُعدُّ من وجوه الفرق بين التخصيص والنسخ الذي يشترط فيه التراخي بين الناسخ والمنسوخ، والأحناف يطلقون على الاستثناء بيان التغيير، وعلى النسخ بيان التبديل(٧).

[في حكم تأخير البيان]

• وفي الصفحة نفسها قال -رحمه الله-:

«وَيَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ إِلَى وَقْتِ فِعْلِ العِبَادَةِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ ذَلِكَ الوَقْتِ».

[م] لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة عند عامَّة العلماء إلَّا على من يرى جواز التكليف بما لا يطاق، والصحيح أنَّ الفعل المكلَّف به يشترط في صحّة التكليف به شرعًا أن يكون ممكنًا، فإن كان محالًا لم يجز الأمر به، والتفريع على شرط الإمكان يتولَّد عنه عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وصورته أن يقول: صلوا غدًا، ثمَّ لا يبيِّن لهم في غدٍ كيف يصلُّون، أو يقول: آتوا الزكاة عند رأس الحول، ثمَّ لا يبيِّن لهم عند رأس الحول كم يؤدُّون ونحو ذلك.

أمَّا تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة فجائز مطلقًا سواء كان المقصود بيان ما له ظاهر يفهم ويعمل به كالعام والمطلق، أو ما ليس له ظاهر كالمجمل وهو مذهب جمهور العلماء خلافًا للمانعين والمفصِّلين، وصورته: أن يقول وقت الفجر مثلًا: صلوا الظهر، ثمَّ يؤخِّر بيان أحكام الظهر إلى وقت الزوال، أو يقول: حجّوا في عشر ذي الحجّة ثمَّ يؤخِّر بيان أحكام الحجِّ إلى دخول العشر(٨).

ومذهب الجمهور القاضي بجواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة مطلقًا هو الصحيح لوقوعه مطلقًا، و«الوُقُوعُ دَلِيلُ الجَوَازِ»، وممَّا وقع في الكتاب والسنّة قوله تعالى: ﴿فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ[سورة القيامة: ١٨-١٩]، و«ثمَّ» للتراخي، فدلَّت على تراخي البيان عن وقت الخطاب، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ[البقرة: ٤٣]، وقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ[آل عمران: ٩٧]، فأخَّر بيان أفعال الصلاة وأوقاتها حتى بيَّنها جبريل عليه السلام للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم ثمَّ بيَّنها صلَّى الله عليه وسلَّم لأُمَّته فقال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»(٩)، وبيّن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم مقاديرَ الزكوات ونوع الأجناس بالتدريج، وبيّن أفعال الحجّ وأحكامَه بعد نزول آية الحجّ، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»(١٠)، ومن ذلك أيضًا، قوله تعالى لنوح عليه السلام: ﴿احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ[هود: ٤٠]، وأخّر بيان أنّ ولده الذي غرق ليس من الأهل الموعود بنجاتهم حين قال نوح: ﴿إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي[هود: ٤٥]، فبيَّن له تعالى أنه ليس من أهله، وكذلك في قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ[البقرة: ٢٢٨]، ثمَّ ورد التَّخصيص بعد ذلك بقوله تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ[الطلاق: ٤]، ولأنَّ النسخ بيان لانقضاء زمن الحكم الأوَّل ولا خلاف في جواز تأخير بيانه إلى وقته، إلى غير ذلك من الأدلَّة وهي كثيرة، لا سبيل إلى إنكارها(١١).

 



(١) أخرجه البخاري (١٢/ ٥)، ومسلم (١٢/ ٨٠)، وأبو داود (٣/ ٣٨١) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(٢) هو الصحابي أبو ثور عمرو بن مَعْدي كَرِب بن عبد الله بن عمرو بن عاصم الزبيدي رضي الله عنه أسلم سنة تسع، وشهد عامة الفتوح بالعراق، وكان فارسًا مشهورًا بالشجاعة، وشاعرًا محسنًا، مات يوم القادسية، وله في الإسلام بلاء حسن، وقيل: مات بعد واقعة نهاوند سنة (٢١ﻫ).

انظر ترجمته في: «الاستيعاب» لابن عبد البر (٣/ ١٢٠١)، «أسد الغابة» لابن الأثير (٤/ ١٣٢)، «الإصابة» لابن حجر (٣/ ١٨).

(٣) هو الصحابي طُليحة بن خُويلد نوفل الأسدي رضي الله عنه أسلم سنة تسع، ثمّ ارتدّ وادعّى النبوة، وتمت له حروب مع المسلمين، ولحق بالغسانيين بالشام لما انهزم، ثمّ أسلم وحسن إسلامه، وكان فارسًا مشهورًا يضرب بشجاعته المثل، شهد القادسية ونهاوند، وتوفي سنة (٢١ﻫ).

انظر ترجمته في: «الاستيعاب» لابن عبد البر (٢/ ٧٧٣)، «أسد الغابة» لابن الأثير (٣/ ٦٥)، «دول الإسلام» (١/ ١٧)، «سير أعلام النبلاء» كلاهما للذهبي (١/ ٣١٦)، «الإصابة» لابن حجر (٢/ ٢٣٥)، «شذرات الذهب» لابن العماد (١/ ٣٢).

(٤) رواه الطبراني في «المعجم الكبير» (١٧/ ٤٥. رقم: ٩٧)، قال البيهقي في «مجمع الزوائد» (٥/ ٥٧٦): «رواه الطبراني هكذا منقطع الإسناد».

(٥) قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (١/ ٣١٧): «قال محمَّد بن سعد: كان طليحة يُعَدُّ بألف فارسٍ لشجاعته وشِدَّته».

(٦) انظر: «الإحكام» لابن حزم (١/ ٨٩).

(٧) انظر: «كشف الأسرار» للبخاري (٣/ ١٠٦) وما بعدها.

(٨) «شرح مختصر روضة الناظر» للطوفي (٢/ ٦٨٨).

(٩) أخرجه الشافعي في «مسنده» (٥٥)، والبخاري (٢/ ١١١) من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه، في أوله قصة وفي آخره: «فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ». والحديث متفق عليه إلَّا هذا الطرف من الحديث فهو من أفراد البخاري، [«صحيح مسلم» (٥/ ١٧٤)، «سنن البيهقي» (٢/ ١٧)].

(١٠) أخرجه أحمد في «مسنده» (٣/ ٣١٨، ٣٣٧، ٣٦٧، ٣٧٨)، ومسلم (٩/ ٤٤)، وأبو داود (٢/ ٤٩٥)، وابن ماجه (٢/ ١٠٠٦)، والنسائي (٥/ ٢٧٠)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٥/ ١٣٠)، والبغوي في «شرح السنّة» (٧/ ١٧٩) بألفاظ متقاربة من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وتمامه: «فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ».

(١١) انظر: تفصيل المذاهب وأدلّتها على هذه المسألة في المصادر المثبتة على هامش كتاب «الإشارة» (ص ١٩٠).

الزوار