فتوى رقم: ٥٥٩

الصنف: فتاوى الأصول والقواعد - أصول الفقه

في اقتضاء الأمر المطلق المجرَّد عن القرائن الوجوبَ

السؤال: إنَّ الأمر يقتضي الوجوب على قول جمهور العلماء فهل يقتضي الأمر المطلق الخالي عن القرائن الوجوبَ أم لا بدَّ من قرينة تدل عليه؟

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:

فللأمر صيغةٌ موضوعةٌ له لغةً، وتدلّ عليه حقيقة بدون قرينة باتفاق السلف وهو مذهب أهل السُّنَّة، وهي: «افْعَلْ» للحاضر، و«لِيَفْعَلْ» للغائب، كذلك النهي، وصيغته: «لاَ تَفْعَلْ» وللأمر صِيَغٌ أخرى: كاسمِ فِعْلِ الأمر مثل قوله تعالى: ﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ﴾ [المائدة: ١٠٥]، والمصدرِ النائبِ عن فِعْلِهِ كقوله تعالى: ﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ [محمّد: ٤].

وخُصِّصَتْ صِيغَةُ «افعل» بالذكر لكثرة استعمالها في الكلام، خلافًا لمعظم الأشاعرة الذين مَنَعوا وجودَ صيغةٍ للأمرِ في اللغة، وإنّما صيغة «افعل» مشتركة -عندهم- بين الأمر وغيره، ولا تُحْمَلُ على أحدها إلاّ بقرينة، بناءً على اعتقادهم بأنّ الكلام معنى قائم بالنفس مجرّدٌ عن الألفاظ والحروف. وهذا المعتقد مخالِفٌ لما جاء في الكتاب والسنّة وإجماع أهل اللسان واللغة وإجماع الفقهاء وسائر العقلاء فيما تعارفوا عليه.

فمن الكتاب قوله تعالى لزكريا: ﴿آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾ [مريم: ١٠]، فلم يسمِّ الله إشارته إلى قومه كلامًا، وهذا ممَّا يُبطل القول بالكلام النفسي؛ لأنّه لم يتكلَّم بشيء من الألفاظ، ويقويه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنفُسُهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ»(١)، فالحديث أفاد التفريق بين حديث النفس والكلام بالألفاظ والحروف فأضاف الأول إلى النفس، إذ الكلام في النفس يحتاج إلى تقييد، مثل قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللهُ بِمَا نَقُولُ﴾ [المجادلة: ٨]، أمّا الكلام بالألفاظ والحروف فهو الأصل المتبادر إلى الفهم فلا يحتاج إلى تقييد أو إضافة، وقد أجمع أهل اللغة على أنّ الكلام: اسم، وفعل، وحرف، كما أجمع الفقهاء على أنّ من حلف أن لا يتكلّم فحدّث نفسه بشيء دون أن ينطق بلسانه لم يَحْنَث، ولو نطق حنث، والمعلوم أنّ أهل العلم أجمعين يسمون الناطق متكلِّمًا ومَن عداه ساكتًا أو أخرس وعليه فلا اعتداد بمن خالف في ذلك.

وبه يتبيّن أنّ الأمرَ المطلقَ المجرّد عن القرائن يفيد الوجوب إلاّ إذا اقترنت به صوارف عنه إلى غيره.

والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيِّنا محمّد، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.

مكة في: ٢١ ربيع الأول ١٤٢٧ﻫ
الموافق ﻟ: ١٩ أفريل ٢٠٠٦م


(١) أخرجه البخاري في «الأيمان والنذور» باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان (٦١٧١)، وابن ماجه في «الطلاق» باب من طلق في نفسه (٢٠٤٠)، وأحمد (٧٤٢١)، وأبو يعلى في مسنده (٦٣٩٠)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)