الفتوى رقم: ٩٠٠

الصنـف: فتاوى الجنائز

في صفة مُهدي ثواب الصدقة إلى الميت

السـؤال:

هل يجوز التصدُّق عن بعض العلماء أو التابعين رحمهم الله أو الصحابة رضي الله عنهم؟

الجـواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فاعلم أَنَّ باب القُرُبات يُقتصر فيه على النصوص ولا يُتصرَّف فيه بأنواعٍ من الأقيسة والآراء، فالأحاديث الواردة في الصدقة على الأموات إنما وردت قاصرةً على الولد بوالديه بعد موتهما بدون وصية منهما، ويصل إليهما الثواب، مثل ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أَنَّ رَجُلاً قَالَ: «إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، -وَلَمْ تُوصِ- وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟» قَالَ: «نَعَمْ»(١)، وبما ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟» قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: «فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ المِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا»(٢)، وبما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رجلاً قال للنبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «إِنَّ أَبِي مَاتَ وَتَرَكَ مَالاً وَلَمْ يُوصِ، فَهَلْ يُكَفِّرُ عَنْهُ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهُ ؟» قَالَ: «نَعَمْ»(٣).

فهذه الأحاديثُ وغيرُها لا تعارِض قولَه تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾ [النجم: ٣٩]؛ لأنه قد ثبت أنَّ ولد الإنسان مِن سعي والديه وكسبِهما في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ»(٤)، فإنَّ ما يفعله الولدُ الصالحُ من الأعمال الصالحة فإنَّ لوالديه مثلَ أجره دون أن ينقص من أجره شيئًا؛ ولأنَّ الوالد يزكِّي نفسَه بتربيته لولده وقيامه عليه فكان له أجرُه، لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ﴾ [فاطر: ١٨].

أمَّا غيرُ الولد فإنَّ عموم الآية السابقة تدلُّ على أنه لا يصل ثوابُه إلى الميِّت، فيُحكَّم العموم حتى يأتيَ دليلٌ يقتضي تخصيصَه، وقد ورد الدليل في أمر الدعاء لغير الولد في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا…﴾ [الحشر: ١٠]، ومن ذلك مشروعية الدعاء في صلاة الجنازة، والدعاءِ له بعد الدفن وعند الزيارة له، ويخصِّص عمومَ الآية -أيضًا- قضاءُ الدَّين عن الميِّت، فقد أقرَّ ذلك النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ، فَقَالُوا: «صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: هَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا لاَ، قَالَ: فهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: ثَلاَثَةُ دَنَانِيرَ، قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ»(٥)، وقضاءُ الدَّين فكٌّ له عن الاحتباس، يجوز أن يتولَّى ذلك غيرُ الولد، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فيمن كان محبوسًا على باب الجنَّة من أجل الدَّين: «فَإِنْ شِئْتُمْ فَافْدُوهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَأَسْلِمُوهُ»(٦).

ويجوز -أيضًا- لغير الولد إن أَوْصَى الميِّت؛ لأنَّ الوصيَّة -أيضًا- تدخل ضمن مساعي الميِّت وكسبِه.

والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٢٦ ربيع الثاني ١٤٢٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٠٣ ماي ٢٠٠٨م


(١) أخرجه البخاري في «الجنائز» باب موت الفجأةِ البغتةِ (١٣٨٨)، ومسلم في «الزكاة» (١٠٠٤)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

(٢) أخرجه البخاري في «الوصايا» باب إذا قال: أرضي أو بستاني صدقةٌ لله عن أمِّي فهو جائزٌ وإن لم يبيِّن لمن ذلك (٢٧٥٦)، ومسلم في «النذر» (١٦٣٨)، من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما.

(٣) أخرجه مسلم في «الوصيَّة» (١٦٣٠) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(٤) أخرجه أبو داود في «الإجارة» بابٌ في الرجل يأكل من مال ولده (٣٥٢٨)، والنسائي في «البيوع» باب الحثِّ على الكسب (٤٤٥٢)، وابن ماجه في «التجارات» باب الحثِّ على المكاسب (٢١٣٧)، من حديث عائشة رضي الله عنها. وصحَّحه الألباني في «الإرواء»: (١٦٢٦).

(٥) أخرجه البخاري في «الحوالات» باب إن أحال دينَ الميِّت على رجلٍ جاز (٢٢٨٩) من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.

(٦) أخرجه أبو داود في «البيوع» بابٌ في التشديد في الدين (٣٣٤١)، واللفظ للطبراني في «المعجم الكبير» (٦٧٥٣)، من حديث سمرة بن جندبٍ رضي الله عنه، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع»: (٧٠١٧)، وانظر «أحكام الجنائز» له: (٢٦).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)