الفتوى رقم: ١١٥٧

الصنف: فتاوى الصيام ـ صوم التطوُّع

في حكم الاقتصار على صوم التاسع مِنَ المُحرَّم

السؤال:

هناك مَنْ يرى أنَّ عاشوراءَ هو اليومُ التاسعُ مِنَ المُحرَّم، وذلك استنادًا إلى الحديث الذي رواه مسلمٌ (١١٣٣) عن الحَكَم بنِ الأعرج قال: انْتَهَيْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ رِدَاءَهُ فِي زَمْزَمَ فَقُلْتُ لَهُ: «أَخْبِرْنِي عَنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ»، فَقَالَ: «إِذَا رَأَيْتَ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ فَاعْدُدْ، وَأَصْبِحْ يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِمًا»، قُلْتُ: «هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ؟» قَالَ: «نَعَمْ»؛ فما توجيهُكم لهذا الحديثِ بارك الله فيكم.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فمذهبُ جماهير العلماء مِنَ السلف والخلف أنَّ عاشوراءَ هو اليومُ العاشرُ مِنْ شهر الله المُحرَّم(١)، وهو مُقتضى الاشتقاق والتسمية، ويشهد له التصريحُ الوارد في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ يَوْمَ العَاشِرِ»(٢)، وعنه رضي الله عنهما أنه كان يقول: «خَالِفُوا اليَهُودَ؛ صُومُوا التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ»(٣)، كما يدلُّ عليه ظواهرُ الأحاديثِ الواردةِ في بيانِ حُكمِ صيامِ عاشوراءَ وفضلِه، وهو الراجح.

ومَنْ رأى أنَّ عاشوراءَ هو اليومُ التاسع فقَدْ أَشكلَ عليه قولُ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما المذكورُ في السؤال، والذي ظاهِرُه أنَّ يومَ عاشوراءَ هو اليومُ التاسع، وقد أجاب عن هذا الإشكالِ ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ بقوله: «قال الزين بنُ المُنَيِّر: قولُه: «إِذَا أَصْبَحْتَ مِنْ تَاسِعه فَأَصْبِحْ»(٤) يُشعِرُ بأنه أراد العاشرَ لأنه لا يُصبِح صائمًا بعد أَنْ أَصبحَ مِنْ تاسعِه إلَّا إذا نوى الصومَ مِنَ الليلة المُقبِلة وهو الليلةُ العاشرة؛ قلتُ [ابنُ حجرٍ]: ويُقوِّي هذا الاحتمالَ ما رواه مسلمٌ ـ أيضًا ـ مِنْ وجهٍ آخَرَ عن ابنِ عبَّاسٍ «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قال: «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ»، فمات قبل ذلك»(٥)، فإنه ظاهرٌ في أنه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم كان يصوم العاشرَ، وهَمَّ بصوم التاسع فمات قبل ذلك، ثُمَّ ما هَمَّ به مِنْ صوم التاسع يَحتمِل معناه: أنه لا يَقتصِرُ عليه بل يُضيفُه إلى اليوم العاشر: إمَّا احتياطًا له(٦)، وإمَّا مُخالَفةً لليهود والنصارى وهو الأرجح، وبه يُشعِرُ بعضُ رواياتِ مسلمٍ»(٧).

وعليه، يتبيَّن ـ بوضوحٍ ـ أنَّ ابنَ عبَّاسٍ رضي الله عنهما لم يجعل عاشوراءَ هو اليومَ التاسع، وإنما أَرشدَ السائلَ إلى صيام التاسع مع العاشر، وهو ما يدلُّ عليه مجموعُ أحاديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، ويعكس صِحَّةَ هذا الفهمِ ما ذَكَره ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في مَعْرِضِ توضيح أنَّ آثارَ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما تَتَّفِقُ ولا تختلف، بل يُصدِّق بعضُها بعضًا حيث قال ـ رحمه الله ـ: «فمَنْ تأمَّل مجموعَ رواياتِ ابنِ عبَّاسٍ تَبيَّن له زوالُ الإشكالِ وسَعَةُ علمِ ابنِ عبَّاسٍ، فإنه لم يجعل عاشوراءَ هو اليومَ التاسعَ، بل قال للسائل: صُمِ اليومَ التاسع، واكتفى بمعرفة السائل أنَّ يومَ عاشوراءَ هو اليوم العاشر الذي يَعُدُّه الناسُ كُلُّهم يومَ عاشوراء، فأَرشدَ السائلَ إلى صيام التاسع معه، وأَخبرَ أنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم كان يصومه كذلك؛ فإمَّا أَنْ يكون فِعْلُ ذلك هو الأَوْلى، وإمَّا أَنْ يكون حمل فِعله على الأمر به وعزمِه عليه في المُستقبَل؛ ويدلُّ على ذلك أنه هو الذي روى: «صُومُوا يَوْمًا قَبْلَهُ وَيَوْمًا بَعْدَهُ»(٨)، وهو الذي روى: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يَوْمَ العَاشِرِ»(٩)؛ وكُلُّ هذه الآثارِ عنه يُصدِّق بعضُها بعضًا ويُؤيِّد بعضُها بعضًا»(١٠).

لذلك كان مِنَ الخطإ البيِّنِ الاقتصارُ على صيامِ يوم التاسع فقط؛ إذ الواجبُ دفعُ التعارضِ وحملُ كلامِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما على التوافق ـ كما تقدَّم ـ، وذلك بفقهِ ألفاظِ الأحاديث ومعرفةِ طُرُقها؛ قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «وأمَّا إفرادُ التاسع فمِنْ نقصِ فهمِ الآثار وعدمِ تتبُّعِ ألفاظِها وطُرُقها، وهو بعيدٌ مِنَ اللغة والشرع، واللهُ المُوفِّقُ للصواب»(١١).

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائـر في: ٢١ ربيع الثاني ١٤٣٤ﻫ
الموافق ﻟ: ٠٣ مــارس ٢٠١٣م

 



(١) انظر: «شرح النووي على مسلم» (٨/ ١٢).

(٢) أخرجه الترمذيُّ في «الصوم» بابُ ما جاء: عاشوراء: أَيُّ يَومٍ هو؟ (٧٥٥) مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الترمذي» (١/ ٣٩٩). وأخرجه البزَّار (١/ ٤٩٢) مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها؛ وصحَّحه ابنُ حجرٍ، [انظر: «السلسلة الضعيفة» للألباني (٨/ ٣١١)].

(٣) أخرجه البيهقيُّ في «السنن الكبرى» (٨٤٠٤). وصحَّحه الألبانيُّ في «جلباب المرأة المسلمة» (١٧٧).

(٤) أخرجه الطحاويُّ في «شرح معاني الآثار» (٣٢٨٧).

(٥) أخرجه مسلمٌ في «الصيام» (٨/ ١٣) بابُ صومِ يومِ عاشوراء (١١٣٤). غير أنَّ العلماء يختلفون في وجوبه قبل أَنْ يُكتب رمضانُ، [انظر: «المنتقى» للباجي (٢/ ٥٨)، «المقدِّمات الممهِّدات» لابن رشد الجد (١/ ٢٤٢)، «الاعتبار» للحازمي (٣٤٠)، «المغني» لابن قدامة (٣/ ١٧٣)، «المجموع» للنووي (٦/ ٣٨٢)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٢٤٦).

(٦) والمُراد بالاحتياط ـ في هذا المَقام ـ ما نَقَله ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في «زاد المَعاد» (٢/ ٧٦) عن بعض أهل العلم في قوله: «قد ظَهَر أنَّ القصدَ مُخالفةُ أهل الكتاب في هذه العبادةِ مع الإتيان بها، وذلك يحصل بأحَدِ أمرين: إمَّا بنقل العاشر إلى التاسع، أو بصيامهما معًا؛ وقولُه: «إِذَا كَانَ العَامُ المُقْبِلُ صُمْنَا التَّاسِعَ» يحتمل الأمرين؛ فتُوُفِّيَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قبل أَنْ يتبيَّن لنا مُرادُه؛ فكان الاحتياطُ صيامَ اليومين معًا».

(٧) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٢٤٥).

(٨) أخرجه مرفوعًا: أحمد في «مسنده» (٢١٥٤)، وابنُ خزيمة في «صحيحه» (٢٠٩٥)، بلفظ: «صُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا أَوْ بَعْدَهُ يَوْمًا»، قال الألبانيُّ في «السلسلة الضعيفة» (٩/ ٢٨٨): «وذِكرُ اليومِ الذي بعده مُنكَرٌ فيه»، وقال في «صحيح ابنِ خزيمة» (٣/ ٢٩٠): «إسنادُه ضعيفٌ لسُوءِ حفظِ ابنِ أبي ليلى، وخالفه عطاءٌ وغيرُه فرواه عن ابنِ عبَّاسٍ موقوفًا، وسندُه صحيحٌ عند الطحاويِّ والبيهقيِّ».

وأخرجه موقوفًا: الطبريُّ في «تهذيب الآثار» (مسند عمر/ ١٤٣٠)، والأثر صحَّحه الألبانيُّ كما سَبَق، وزكريَّا بنُ غلام قادر الباكستاني في «ما صحَّ مِنْ آثار الصحابة في الفقه» (٢/ ٦٧٥).

(٩) تقدَّم تخريجه، انظر: (الهامش ٢).

(١٠) «زاد المَعاد» لابن القيِّم (٢/ ٧٥).

(١١) المصدر السابق (٢/ ٧٦).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)