الفتوى رقم: ٥٦

الصنف: فتاوى الصلاة - صلاة السفر

في المدَّة التي يَقْصُرُ المسافرُ فيها الصلاةَ

السؤال:

ما صفةُ الصلاةِ وحُكْمُها في سفرٍ وإقامةٍ، أعني: النازلَ في أثناءِ السفر، بارك اللهُ فيكم؟

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:

فلا خلافَ في أنَّ المُسافِرَ الضاربَ في الأرضِ السائرَ في الطريق يَقْصُرُ صلاتَه ما دامَ في سفرِه، ولكنَّ الخلاف في المسافر إذا أقامَ ببلدٍ لحاجةٍ ينتظر قضاءَها ولم يَنْوِ الإقامةَ الدائمة فيه، ولا يعلم متى يرجع مِنْ سفره؛ فإنَّ حُكْمَهُ القَصْرُ ولو أقامَ مُدَّةً طويلةً تفوق مدَّةَ القَصْر ـ أي: ولو أقامَ سنينَ ـ ما لم يُصَلِّ وراءَ إمامٍ مُقيمٍ أو يَنْوِ استيطانَ البلد الذي سافَرَ إليه، وهو ـ عندي ـ أَرْجَحُ أقوالِ أهلِ العلم، وبه قال إسحاقُ بنُ راهويه، ورُوِيَ هذا عن ابنِ عُمَرَ وأنسٍ وغيرِهما(١)؛ لأنَّ الإقامةَ لا تخرج عن حكمِ السفر؛ سواءٌ طالَتْ أم قَصُرَتْ إذا لم يَسْتوطِنِ المكانَ، وهو ما اختارَهُ ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ، ونَقَلَ ابنُ قدامة عن ابنِ المنذر ـ رحمهما الله ـ إجماعَ أهل العلمِ «أنَّ للمسافرِ أَنْ يَقْصُرَ ما لم يُجْمِعْ إقامةً وإِنْ أتى عليه سِنُونَ»(٢)؛ وذلك لأنه ليس في كتابِ اللهِ وسنَّةِ رسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا مقيمٌ ومسافرٌ كما قال تعالى: ﴿يَوۡمَ ظَعۡنِكُمۡ وَيَوۡمَ إِقَامَتِكُمۡ[النحل: ٨٠]، والمُقيمُ هو المُسْتوطِنُ الذي اتَّخَذَ مَسْكَنًا خاصًّا يَنْوِي الإقامةَ فيه مُطْمَئِنًّا؛ فهذا لا يُشْرَعُ له القَصْرُ.

أمَّا المُقيمُ غيرُ المُسْتوطِنِ الذي ينزل بمكانٍ لا ينوي الإقامةَ به ولا يَشْعُرُ بالاستقرار فهو مسافرٌ يَقْصُرُ الصلاةَ ولو أقامَ في مكانٍ شهورًا؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَحُدَّ الإقامةَ بزمنٍ محدودٍ (لا ثلاثة، ولا أربعة، ولا اثني عَشَرَ، ولا خمسةَ عَشَرَ)، وقد ورَدَتْ آثارٌ سلفيَّةٌ تشهد لهذا المذهبِ منها: أنَّ المسلمين أقاموا ﺑ «نهاوند»(٣) ستَّةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُون الصلاةَ مع عِلْمِهم أنَّ حاجتَهم لا تنقضي في أربعةِ أيَّامٍ ولا أَكْثَرَ(٤)، وأقامَ ابنُ عُمَرَ رضي الله عنهما ﺑ «أذربيجانَ»(٥) ستَّةَ أَشْهُرٍ: أَرْتَجَ عليهِمُ الثلجُ؛ فكان يُصلِّي ركعتين(٦)، والمعلومُ أنَّ الثلجَ لا يَتحلَّلُ ولا يذوب في أربعةِ أيَّامٍ، وعن أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه أنه أقامَ ﺑ «نَيْسابورَ»(٧) سنةً أو سنتين يُصلِّي ركعتين(٨)، وعن أبي المنهالِ العَنَزيِّ قال: قلتُ لابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «إنِّي أُقيمُ بالمدينةِ حولًا، لا أَشُدُّ على سَيْرٍ؟» قال: «صَلِّ رَكْعَتَيْنِ»(٩)، وعن سِماكِ بنِ سَلَمةَ عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: «إِنْ أَقَمْتَ في بلدٍ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ فَاقْصُرِ الصلاةَ»(١٠)، وعن مسروقٍ أنه أقامَ بالسلسلةِ سنتين يَقْصُرُ الصلاةَ الْتماسًا للسنَّة(١١)، وثَبَتَ عن علقمة أنه صلَّى ﺑ «خُوارِزْمَ»(١٢) سنتين قَصْرًا(١٣)، وثَبَتَ عن أبي وائلٍ أنه مَكَثَ سنتين يُصلِّي قَصْرًا(١٤)، وغيرُها مِنَ الآثارِ عن كثيرٍ مِنَ السلف التي تُقَوِّي هذا الرَّأْيَ. ولا يخفى أنَّ فَهْمَهم أقوى وهُمْ بالشرع أَعْلَمُ وأَدْرَى، وفي مذهبهم تجتمع كافَّةُ الأدلَّةِ وتَتوافقُ.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٢٢ ربيع الأوَّل ١٤١٩
الموافق ﻟ: ٧ جويلية ١٩٩٩م

 



(١) انظر: «المجموع» للنووي (٤/ ٣٦٥).

(٢) انظر: «المغني» لابن قدامة (٢/ ٢٩٢).

(٣) نهاوند: مدينةٌ قديمةٌ تَقَعُ في منطقة جبال زاغروس في إيران حاليًّا، كانَتْ عاصمةً لإمبراطورية كسرى الأوَّل، فَتَحَها المسلمون سنة: (٢٠ﻫ) على يد أمير الجيش: النعمان بنِ مُقرِّنٍ المُزَنيِّ رضي الله عنه في زمن عمر بنِ الخطَّاب رضي الله عنه.

انظر: «البلدان» لليعقوبي (٨٣)، «نزهة المشتاق» للإدريسي (٢/ ٦٧٦)، «آثار البلاد» للقزويني (٤٧١)، «معجم البلدان» للحَمَوي (٥/ ٣١٣)، «الروض المعطار» للحِمْيَري (٥٧٩).

(٤) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٤/ ١٨).

(٥) أذربيجان: مدينةٌ عريقةٌ ومشهورةٌ صارَتْ دولةً رسميًّا مِنْ بين دُوَلٍ تركيةٍ مُسْتقِلَّةٍ، تَقَعُ في مُفْترَقِ الطُّرُقِ بين أوربا الشرقية وآسيا الغربية، لها مُدُنٌ كثيرةٌ منها: «تبريز» و«أرمية» و«أردبيل».

انظر: «معجم البلدان» للحَمَوي (١/ ١٢٨)، «مَراصِد الاطِّلاع» للبغدادي (١/ ٤٨)، «الروض المعطار» للحِمْيَري (٢٠).

(٦) أخرجه البيهقيُّ (٥٤٧٦)، وأحمد (٥٥٥٢) بنحوه مُطوَّلًا بسندٍ حَسَنٍ، انظر: «إرواء الغليل» (٥٧٧).

(٧) نيسابور: مدينةٌ عريقةٌ في مُقاطَعةِ خُراسان شمالِيَّ شَرْقِ إيران، فَتَحَها المسلمون صُلْحًا سنة: (٣١ﻫ) في أيَّام الخليفةِ الراشد عثمان بنِ عفَّان رضي الله عنه، قال الحَمَويُّ: «وهي مدينةٌ عظيمةٌ ذاتُ فضائلَ جسيمةٍ، مَعْدِنُ الفُضَلاءِ ومَنْبَعُ العُلَماء، لم أَرَ ـ فيما طوَّفْتُ مِنَ البلادِ ـ مدينةً كانَتْ مِثْلَها».

انظر: «معجم البلدان» للحَمَوي (٥/ ٣٣١)، «البلدان» لليعقوبي (٩٥)، «آثار البلاد» للقزويني (٤٧٣)، «مَراصِد الاطِّلاع» للصفيِّ البغدادي (٣/ ١٤١١)، «الروض المعطار» للحِمْيَري (٥٨٨).

(٨) أخرجه ابنُ أبي شيبة في «مصنَّفه» (٥١٠٠)، والطبرانيُّ في «الكبير» (١/ ٢٤٣). قال الهيثميُّ في «مَجْمَع الزوائد» (٢/ ١٥٨): «ورجالُه مُوثَّقون».

(٩) أخرجه ابنُ أبي شيبة في «مصنَّفه» (٨٢٠١).

(١٠) أخرجه ابنُ أبي شيبة (٨١٩٩وانظر: «ما صحَّ مِنْ آثار الصحابة» (١/ ٤٥٥).

(١١) أخرجه عبد الرزَّاق في «مُصنَّفه» (٤٣٥٦)، وابنُ أبي شيبة في «مصنَّفه» (٨١٢٢).

(١٢) خُوارِزْم: مدينةٌ عريقةٌ مِنْ أَقْدَمِ مُدُنِ آسيا الوسطى، وهو الاسْمُ القديمُ لمدينةِ: «خيوة» التي كانَتْ تابعةً لإقليم خراسان، تَقَعُ اليومَ في «أوزبكستان»، فَتَحَها المسلمون سنة: (٨٨ﻫ) على يد قُتَيْبَةَ بنِ مسلمٍ الباهليِّ ـ رحمه الله ـ، ومِنْ أَبْرَزِ عُلَمائها: محمَّدُ بنُ موسى الخوارزميُّ صاحِبُ كتاب: «المختصر في حساب الجبر والمُقابَلة».

انظر: «المَسالك والمَمالك» للكرخي (١٦٨)، «معجم البلدان» للحَمَوي (٢/ ١٢٢، ٣٩٥)، «آثار البلاد» للقزويني (٥٢٥)، «الروض المعطار» للحِمْيَري (٢٢٤).

(١٣) أخرجه عبد الرزَّاق في «مصنَّفه» (٤٣٥٥)، وابنُ أبي شيبة في «مصنَّفه» (٨٢٠٨).

(١٤) أخرجه ابنُ أبي شيبة في «مصنَّفه» (٨٢٠٦).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)