فصل
[ما يفعلُه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ابتداءً ولا قُربةَ فيه]

•  قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٢٣٠]:

«وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا لاَ قُرْبَةَ فِيهِ نَحْوُ: الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الإِبَاحَةِ».

[م] بهذا الحكم قطع الأكثرون، ونقل المصنِّف عن بعض المالكية أنه يدلُّ على الندب، وبه قال أكثر الأحناف، وذهب جمهور الشافعية إلى الوقف، واختاره الغزالي والرازي وصحَّحه أبو الخطَّاب من الحنابلة، وذكره عن الإمام أحمد وأيَّده شيخُ الإسلام ابن تيمية(١).

فهذه الأفعال الصادرة عنه صلَّى الله عليه وسلَّم والتي لم يُقصد بها التشريعُ والقربةُ لا يكون النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أسوةً فيها، فهي من العادات المعدودةِ من القِسْمِ المباحِ، غيرَ أنه لو تؤسِّيَ به لأُثيبَ عليه، وإن تركه لا رغبةً عنه ولا استكبارًا فلا بأسَ بذلك، فإن قام الدليلُ على أنَّ المقصودَ من فعله الاقتداءُ كان تشريعًا بذلك الدليل، وليس بمجرَّد صدوره منه، كالأكل باليد اليمنى أو ممَّا يلي الأكل الثابت من حديث عُمَرَ بن أبي سَلَمَةَ رضي الله عنه(٢)، فاتباعه صلَّى الله عليه وسلَّم في كيفية ذلك وصفته حَسَنٌ لصفته لا لنفس الفعل، كابتداء التنعُّل باليمين، والمشيِ في نعلين، فإنَّ ذات الأكل والمشي وغيرهما من الأفعال الصادرة بمقتضى طبيعته الإنسانية فهي المباح وليست في ذاتها محلاًّ للتأسِّي، لكن إن فعلها كان مأمورًا بإيقاعها على صفة فعله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو الوجه الذي يُعَدُّ قربةً، وهو محلُّ أسوة.

أمَّا ما كان صادرًا منه بمقتضى الخِبرة البشرية المستفادة من التجارب الخاصَّة في الحياة كالزراعة والتجارة ووصف الدواء فلا تُعدُّ تشريعًا ولا حُجَّةً، ويدلُّ عليه حديثُ أنسٍ وعائشةَ رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم مرَّ على أهل المدينة وهم يؤبِّرون النخلَ فأشار إليهم بالترك، فتركوا ولم تحمل الأشجار، فشكوا إليه، فقال لهم: «أَبِّرُوا، أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ(٣)»(٤).

 



(١) انظر: «المنخول» للغزالي (٢٢٦)، «المحصول» للرازي (١/ ٣/ ٣٤٦)، «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (٢٨٨)، و«أصول السرخسي» (٢/ ٨٦)، «المسودة» لآل تيمية (٧١)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (٢/ ١٧٨)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (٣٥).

(٢) هو جزء من حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه أنه كان يقول: «كنت غلامًا في حِجر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، كانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «يَا غُلَامُ، سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ». والحديث متفق على صِحَّته، أخرجه أحمد في «مسنده» (٤/ ٢٦ ـ ٢٧)، وعبد الرزاق في «مصنَّفه» (١٠/ ٤١٥)، والبخاري (٩/ ٥٢١)، ومسلم (١٣/ ١٩٢)، وابن ماجه (٢/ ١٠٨٧)، والبيهقي في «سننه الكبرى» (٧/ ٢٧٧).

(٣) أخرجه مسلم (١٥/ ١١٦)، وابن ماجه (٢/ ٧٢٥)، من حديث أنس وعائشة رضي الله عنهما.

(٤) «الفتح المأمول» للمؤلف (١٥٤).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)