فصلٌ
[جريان القياس في الحدود والكفارات والمقدرات والأبدال]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٣٠٩]:

«إِذَا ثَبَتَ أَنَّ القِيَاسَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ تُثْبَتَ بهِ الحُدُودُ وَالكَفَّارَاتُ وَالمُقَدَّرَاتُ وَالأَبْدَالُ».

[م] الحدُّ في الاصطلاح: هو عقوبة مقدَّرة شرعًا سواء كانت مقرَّرة رعاية لحقِّ الله أم لحقِّ الأفراد(١).

والكفارة: هي تَصَرٌّفُ أوجبه الشرعُ لمحوِ ذَنْبٍ مُعَيَّنٍ: كالإعتاق والصيام والإطعام ونحو ذلك(٢).

والمقدَّرُ هو: ما يتعيَّن مقداره بالكيل، أو الوزن، أو العدد، أو الذراع، ونحو ذلك من قِبَل الشرع(٣).

والبَدَلُ هو: قيامُ المكلَّفِ بأمرٍ عِوَضًا عن أمرٍ مُطالَبٍ به شرعًا عجز عن القيام به مع اعتبار العلاقة بينهما في المعنى، كمن ترك واجبًا في الحجِّ ولم يجد ما يهرق دمًا، انتقل إلى الصوم بدلًا عنه، قياسًا على دم التطيّب واللباس لكونه دمًا تعلَّق وجوبه بالإحرام.

ومذهب جمهور العلماء دخول القياس في الكفَّارات والحدود والمقدّرات والأبدال واختاره الباقلَّانيُّ، والشيرازي، والمصنِّفُ، والغزالي، والفخر الرازي، والآمدي وغيرُهم، خلافًا للأحناف في المشهور عندهم، والشافعي(٤) فإنه لا يجوز إجراء القياس عليها(٥).

والأقوى مذهب الجمهور لعموم أدلّة القياس بالنصّ والإجماع السكوتي، ولم يَرِدْ ما يخصِّصُها أو يُقيِّدُها، فكانت شاملةً للحدود والكفَّارات والمقدَّرات والأبدال لكونها معدودة من الأحكام يثبت فيها خبر الواحد مع أنَّ طريقه غلبة الظنّ لاحتمال الخطإ والسهو فيه، وإذا جاز بالخبر الواحد جاز بالقياس أيضًا، إذ لا فرقَ بينهما من هذا الوجه؛ لأنَّ كُلًّا منهما يفيد الظنَّ، ولأنَّ عمر ابن الخطاب رضي الله عنه جلد ثمانين جلدةً في الخمر إلحاقًا بالقاذف في الحدِّ عملًا بالقياس الذي أشار له به عليٌّ رضي الله عنه حيث قال: «نرى أن نَجلدَه ثمانين، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فحدُّوه حدَّ المفترين»(٦).

[في أدلة المانعين للقياس في الحدود والكفارات ونحوهما]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٣١٠]:

«قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ(٧): «لاَ يَجُوزُ أَنْ يُثْبَتَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بالقِيَاسِ...»».

[م] ذهبتِ الحنفيةُ إلى عدم إثبات الحدود والكفَّارات والمقدَّرات والأبدال بالقياس، واستدلُّوا على ذلك بأدلَّةٍ منها:

• إنَّ الحدود والكفَّارات وغيرهما من الأمور المقدّرة شرعًا لا يمكن تعقّل المعنى الموجب لتقديرها، والقياس فرع تعقّل عِلَّة حكم الأصل، فما لا تُعلَم مصلحته التي من أجلها شُرِعَت هذه الأمور لا يمكن إجراء القياس عليها، إذ القياس متعذِّرٌ فيما لا تدرك عِلَّتُه كما في أعداد الركعات، وأنصبة الزكاة ومقاديرها ونحو ذلك، والعِلَّة ركن القياس وشرطُه، وإذ انتفى الشرط ينتفي المشروط.

• إنَّ الحدود عقوباتٌ، والكفَّارات فيها شائبة عقوبة، والقياس ظنِّي يدخله احتمال الخطأ، وذلك شبهة، وإذا كان كذلك فإنه لا يصحُّ أن يثبت فيها القياس؛ لأنَّ العقوبات تدرأ بالشبهات(٨)، لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «ادْرَؤُوا الحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ»(٩)

وقد أُجيب بأنَّ الحكم المعدَّى من الأصل إلى الفرع إنَّما هو وجوب الحدِّ والكفارة والتقديرِ والبدلِ من حيث هو وجوب، وذلك معقول بما علم من مسائل الخلاف، ولو كان طريقًا لنفي القياس في العقوبات للزم نفي القياس في سائر الأحكام، وإذا كان اللازم باطلًا فالملزوم مثله؛ ولأَنَّ القائلين بالقياس لا يجرونه إلَّا إذا توفَّرت شرائطُهُ.

وعلى فرض التسليم بصِحَّة الحديث فإنَّه لا يسلَّم أنَّ ظهور الظنّ يكون شبهة، فلو كان مطلق الظنّ مانعًا من إقامة الحدود لما وجبت الحدود بالأدلة الظنِّية كأخبار الآحاد، وظواهر النصوص والشهادات ونحو ذلك، وهي مقبولة مع احتمال الخطإ فيها، وكذلك يقبل في نصاب السرقة تقويم المقوِّم مع احتمال الخطإ عليه، لذلك كان القياس مع ظَنِّيته لا يثير شبهة فلا يمنع من إجرائه في عموم العقوبات والأبدال والمقدّرات(١٠).

هذا، وللخلاف آثارٌ فقهية سواء في الكفَّارات أو الحدود أو المقدَّرات أو الأبدال، نذكر بعضًا منها فيما يلي:

بالنسبة للكفَّارات: ما ذهبت إليه الشافعية من وجوب الكفَّارة على قاتل النفس عمدًا بالقياس على المخطئ؛ لأنها إذا وجبت في القتل الخطإ ففي العمد أولى وحاجته إلى تكفير الذنب أشدّ، وذهبت الحنفية إلى أنه لا كفارة على قاتل العمد؛ لأنه لا قياس في الكفَّارات والحدود، وهو قول مالك والمشهور عن الإمام أحمد(١١).

والظاهر أنَّ مذهب الحنفية أقوى لا من جهة عدم جواز العمل بالقياس، وإنما القياس ضعيف معارض بمفهوم المخالفة في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ[النساء: ٩٢]؛ ولأنه لم يثبت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه أوجب الكفَّارة في القَوَد، وبالقياس على الزاني المحصن فإنه فعل أوجب القتل فلا يوجب الكفارة(١٢).

ـ ومن ذلك اشتراط الإيمان في رقبة الظِّهار قياسًا على رقبة القتل بجامع أنَّ كُلًّا منهما كفارة، فمن أجرى القياسَ أوجب الإيمان في كفَّارة الظهارِ، ومن لم يجر القياس في الكفَّارات لم يشترط ذلك.

ـ ومن هذا القبيل قياس كفَّارة اليمين على كفَّارة القتل الخطأ في اشتراط الإيمان في الرقبة(١٣)، وكذلك الكفَّارة في الإفطار عمدًا بغير جماع، فمن قال بجريان القياس في الكفَّارات قال: بأن من أفطر متعمِّدًا بأكل أو شرب فعليه القضاء والكفَّارة إلحاقًا بالمجامِع في رمضان، وهو مذهب مالك وأصحابه وأبي حنيفة وأصحابه، أمَّا الشافعية والحنابلة فيذهبون إلى عدم الإلحاق فلا تجب الكفَّارة، لا من أجل أنهم لا يرون القياس في الكفَّارات، وإنما ينتفي القياس لعدم صلاحية العِلَّة لهذا الحكم، ويرون أنَّ هذه العقوبة أشدّ مناسبة للجماع منها لغيرها(١٤).

بالنسبة للحدود، فمثاله: قطع يد النباش قياسًا على السارق بجامع أخذ المال خُفية من حرز، وهو مذهب القائلين بالقياس، خلافًا لأبي حنيفة فإنه لا يقول بقطع يد النباش لأنَّ القبر ليس بحرز(١٥)، وقياس اللائط على الزاني بجامع إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعًا محرّم شرعًا(١٦).

ومثاله في المقدّرات: جعل أقلّ الصداق ربع دينار قياسًا على قطع اليد في السرقة بجامع أنَّ كُلًّا منهما فيه استباحة عضو(١٧)، وتقدير الخرق الذي يعفى عنه في الخفّ بثلاثة أصابع قياسًا على مسحه(١٨).

ومثاله في الأبدال: انتقال المحصر إلى الصوم إذا لم يجد قياسًا على سائر الهدايا بجامع كون الهدي تعلّق وجوبه بالإحرام(١٩).

 



(١) وهذا بخلاف الأحناف فإنَّ الحدَّ عندهم هو: عقوبة مقدَّرة واجبة حقًّا لله تعالى، فلا يسمَّى التعزير حدًّا؛ لأنَّه ليس بمقدر، ولا يسمَّى القصاص حدًّا لأنَّه وإن كان مقدَّرًا لكنه حقّ العباد، فيجري فيه العفو والصلح، وسميت هذه العقوبات حدودًا لكونها مانعة من ارتكاب أسبابها. [«المبسوط» للسرخسي (٩/ ٣٦)، «بدائع الصنائع» للكاساني (٧/ ٢٣)، «تبيين الحقائق» للزيلعي (٣/ ١٦٣)]، وعند الجمهور يدخل ضمن الحدود: القصاص وحد الردَّة وغيرها.

(٢) «معجم لغة الفقهاء» للقلعجي وحامد (٣٨٢)، «التعريفات الفقهية» للمجددي (٣٣٤).

(٣) «التعريفات» للمجددي (٥٠١)، «نشر البنود» للعلوي (٢/ ١١١).

(٤) وذلك بناء على قول الشافعي في عدم تحمل العاقلة الأطراف، وأُرُوش الجنايات، والحكومات حيث قال: «ورد النص في أنَّ العاقلة تتحمّل النفس، فيقتصر عليه، ولا يقاس؛ لأنَّ تحمل العاقلة على خلاف القياس، ولكن ورد في النصّ فلا يتعدَّى عن محلّ النَّص». [«البحر المحيط» للزركشي (٥/ ٥١ ـ ٥٢) بتصرف].

(٥) انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (٣١٠).

(٦) أخرجه مالك في «الموطأ» (٣/ ٥٥)، والدارقطني في «سننه» (٣/ ١٦٦)، والبيهقي في «سننه» (٨/ ٣٢٠)، والحاكم في «المستدرك» (٤/ ٣٧٥)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه عليه الذهبي، وضعفه الألباني في «الإرواء» (٧/ ١١١).

(٧) وإن كان أبو حنيفة يرى عدم جريان القياس في الحدود والكفَّارات؛ إلَّا أنه قاس في الكفارات فأوجب الكفارة في الإفطار بالأكل والشرب كما هي واجبة بالإفطار بالجماع، وأوجب الكفارة في قتل الصيد خطأ كما أوجبها في قتله عمدًا في الحرم، فحقيقة القياس موجودة وإن اعتذرت الحنفية أنَّ ذلك من باب تنقيح المناط لا من باب القياس في الكفارات. [انظر مناقشة الغزالي لهم في «المستصفى» (٢/ ٣٣٤)، والإسنوي في «التمهيد» (٤٦٧)].

(٨) «الإحكام» للآمدي (٣/ ١٢٧).

(٩) أخرجه ابن أبي شيبة (٥/ ٥٠٧)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (١٩/ ١٧١)، والخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» (٥/ ٢٣١)، وسنده ضعيف مرفوعًا.

[انظر: «المقاصد الحسنة» للسخاوي (٧٤)، «إرواء الغليل» للألباني (٧/ ٣٤٣، ٨/ ٢٦)]، وقد أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (٨/ ٢٣٨) موقوفًا عن ابن مسعود رضي الله عنه بسند حسن «السلسلة الضعيفة» للألباني (٥/ ٢٢٢)].

(١٠) انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (٣١٠).

(١١) «المغني» لابن قدامة (٨/ ٥١٤)، «مغني المحتاج» للشربيني (٤/ ١٠٧).

(١٢) «المغني» لابن قدامة (٨/ ٥١٤).

(١٣) «أسباب اختلاف العلماء» للتركي (١١٧).

(١٤) «المغني» لابن قدامة (٣/ ١٠٥)، «أثر الاختلاف في القواعد الأصولية» للخن (٤٨٤).

(١٥) «المغني» لابن قدامة (٩/ ١٠٩)، «التمهيد» للإسنوي (٤٦٧).

(١٦) «المعونة في الجدل» للشيرازي (٢٢٧)، «المنهاج في ترتيب اللجاج» للباجي (١٥٤).

(١٧) «نشر البنود» للعلوي (٢/ ١١١).

(١٨) «المعونة في الجدل» للشيرازي (٢٢٧). [انظر ما أثبته الشافعي -رحمه الله- من تناقض الحنفية في مسألة المقدّرات والرخص في «الأم» (١/ ٤) وما بعدها، ونقل عنه الجويني في «البرهان» (٢/ ٨٩٦)، والرازي في «المحصول» (٢/ ٢/ ٤٧٤)، والإسنوي في «التمهيد» (٤٦٧)].

(١٩) «المنهاج في ترتيب اللجاج» للباجي (١٥٤).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)