فصل
[في حكم الأشياء المنتفَع بها قبل ورود الشرع]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٣٢٥]:

«... فَلَيْسَ فِي العَقْلِ حَظْرٌ وَلاَ إِبَاحَةٌ، وَإِنَّمَا ثَبَتَتِ الإِبَاحَةُ وَالتَّحْرِيمُ بالشَّرْعِ، وَالبَارِي تَعَالىَ يُحَلِّلُ مَا يَشَاءُ وَيُحَرِّمُ مَا يَشَاءُ، هَذَا قَوْلُ جَمْهُورِ أَصْحَابناَ».

[م] لا خلاف بين أهل العلم في أنَّ الحاكمَ الذي يدرك الأحكام ويُظهرها ويكشف عنها بعد البعثة وبلوغ الدعوة إنما هو الشرع الذي جاء به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فالأصل ـ إذن ـ في الأشياء بعد مجيء الرسل وَوُرُودِ الشرع على الإباحة وهي إباحة شرعية، لقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا[البقرة: ٢٩]، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «...وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ»(١)، فيكون الأصلُ في الأشياء والمنافعِ والمكاسبِ والعادات العفوُ فلا يحظر منها إلَّا ما حَرَّمهُ الله تعالى، وإلَّا دخلنا في معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا[يونس: ٥٩].

أمَّا العباداتُ فالأصلُ فيها التوقيف فلا يُشرع منها إلَّا ما شرعه، وإلَّا دخلنا في معنى قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ[الشورى: ٢١](٢).

أمَّا قبل ورود الشرع فلا تحريمَ ولا تحليلَ ولا شرعَ فالواجب التوقّف، لأنَّ العقل لا مدخلَ له في الحظر والإباحة(٣)، وهو مذهب جمهور العلماء خلافًا للمعتزلة القائلين بأنَّ كلَّ شيءٍ ثابتٍ بالشرع ثابت قبله بالعقل، وإنَّما جاء الشرع مقرِّرًا ومؤكِّدًا لحكم العقل، وهذا الأصل مبني على مذهبهم في التحسين والتقبيح العقليين، ولا شكَّ في بطلان هذا المذهب لما فيه من ترتيب حكم الشرع على حكم العقل من جهة(٤)؛ ولأنَّ ما عرف حسنه وقبحه عن طريق العقل والفطرة لا يترتَّب عليه مدحٌ ولا ذمٌّ ولا ثوابٌ ولا عقابٌ ما لم يَرِدْ حُكمُه بالشرع من جهة أخرى؛ ولأنَّ الدليلَ الشرعيَّ أثبت ذلك على من قامت عليه الحُجَّة بالرسل والكتب، وعليه فلا يجوز إعطاء ما بعد الشرع حكم ما قبل الشرع(٥).

[في تقرير الأصل في الأشياء عند المخالفين للجمهور]

• وقال الباجي -رحمه الله- عن المخالفين من المالكية للجمهور:

«قَالَ أَبُو بَكْرٍ الأَبْهَرِيُّ: «الأَشْيَاءُ فِي الأَصْلِ عَلىَ الحَظْرِ»، وَقَالَ أَبُو الفَرَجِ المَالِكِيُّ: «الأَشْيَاءُ فِي الأَصْلِ عَلَى الإِبَاحَةِ»».

[م] ما ذهب إليه أبو بكر الأبهري وأبو الفرج الليثي المالكيان في القول بالحظر والإباحة وإن وافقوا المعتزلة في النتيجة والحكم إلَّا أنهم يخالفونهم في المبنى والأصل، إذ أنهم لم يحكِّموا العقلَ فيما يمكن أن يعرفه حسنًا أو قبحًا، وإنما استدلَّ كُلُّ واحدٍ منهما بالنصوص الشرعية القاضية بالمنع والحظر، أو بالإباحة والجواز.

فأبو بكر الأبهري استدلَّ بقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ[المائدة: ٤]، وقوله تعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ[المائدة: ١]، وغيرها من النصوص الشرعية الدالَّة على أنَّ الأشياءَ قبل ورود الشرع على الحظر، بينما استدلَّ أبو الفرج المالكي بقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا[البقرة: ٢٩]، وقوله تعالى: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى[سورة طه: ٥٠]، وغيرها من النصوص الشرعية الدالَّة على أنَّ الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة(٦).

هذا، وقد اعتبر بعضُ العلماء عقد هذه المسألة في كتب الأصول حشوًا لا فائدةَ منها؛ لأنَّ مجيءَ الشرع كافٍ لمعرفة حكم هذه الأشياء، علمًا أنَّ وقوع هذه المسألة ممتنع؛ لأنَّ الأرض لم تخلُ من نبيٍّ مرسل، لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ[سورة فاطر: ٢٤]، ولكن يمكن سحب الحكم قبل ورود الشرع على من جهل الحكم وهو بعيد عن مجال وصول التبليغ كمن ولد في جزيرة أو نشأ في برية(٧).

 



(١) أخرجه أبو داود في «الأطعمة» (٣/ ١٥٧) برقم (٣٨٠٠) موقوفًا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وصحَّحه الحاكم في «المستدرك» (٤/ ١١٥)، ووافقه الذهبي، كما صحَّح إسناده الألبانيُّ في «صحيح أبي داود» برقم (٣٨٠٠).

ورواه مرفوعًا الترمذي في «اللباس» (٤/ ٢٢٠)، برقم (١٧٢٦)، وابن ماجه في «الأطعمة» (٢/ ١١١٧) برقم (٣٣٦٧) من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه، قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلَّا من هذا الوجه، ثمَّ قال: وكأنَّ الحديث الموقوف أصحّ. وهذا الحديث حسَّنه الألباني في «صحيح الترمذي» برقم(١٧٢٦)، وفي «صحيح ابن ماجه» برقم (٣٣٦٦).

(٢) «الفقيه والمتفقه» للخطيب البغدادي (١/ ٢١٧)، «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢١/ ٥٣٩، ٥٤٠).

(٣) «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ١١٩).

(٤) فعند أهل السُّنَّة أنَّ حُكم الأشياء وردت بالشرع ابتداء لا تبعًا للعقل، فالعقل تابع للشرع لا متبوع.

(٥) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢١/ ٥٣٩).

(٦) «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (٤٤٧).

(٧) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢١/ ٥٣٩).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)