شيخَنا ـ أحسن الله إليكم ـ وَرَدَ في فتواكم رقم: (٤٢٥) والتي عنوانها: «في حكمِ حلقِ شعر القَفَا وحكمِ المال المُكتسَبِ منه»، النَّهيُ عن حلق شعرِ القَفَا وتركِ غيرِه وأنَّه يدخل في عموم النَّهي...  للمزيد

الفتوى رقم:١٢٦٦

الصنف: فتاوى متنوعة

في توضيح فتوى «في حكمِ حلقِ شعر القَفَا
وحكمِ المال المُكتسَبِ منه»

السؤال:

شيخَنا ـ أحسن الله إليكم ـ وَرَدَ في فتواكم رقم: (٤٢٥) والتي عنوانها: «في حكمِ حلقِ شعر القَفَا وحكمِ المال المُكتسَبِ منه»، النَّهيُ عن حلق شعرِ القَفَا وتركِ غيرِه وأنَّه يدخل في عموم النَّهي عن القَزَعِ، وقد يَعترِضُ معترضٌ بأنَّه مستثنًى مِنْ عموم النَّهي عن القزع بما جاء في صحيح البخاري عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ حَفْصٍ، أنَّ عُمَرَ بْنَ نافِعٍ أخْبَرَهُ، عَنْ نافِعٍ مَوْلى عَبْدِ اللَّهِ: أنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَنْهى عَنِ القَزَعِ» قالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: قُلْتُ: «وما القَزَعُ؟» فَأشارَ لَنا عُبَيْدُ اللَّهِ قالَ: «إذا حَلَقَ الصَّبِيَّ، وتَرَكَ ها هُنا شَعَرَةً وها هُنا وها هُنا»، فَأشارَ لَنا عُبَيْدُ اللَّهِ إلى ناصِيَتِهِ وجانِبَيْ رَأْسِهِ. قِيلَ لِعُبَيْدِ اللَّهِ: «فالجارِيَةُ والغُلاَمُ؟» قالَ: «لاَ أدْرِي، هَكَذا قالَ: الصَّبِيُّ». قالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: «وعاوَدْتُهُ، فَقالَ: «أمَّا القُصَّةُ والقَفا لِلْغُلاَمِ فَلاَ بَأْسَ بِهِما، ولَكِنَّ القَزَعَ أنْ يُتْرَكَ بِناصِيَتِهِ شَعَرٌ، ولَيْسَ فِي رَأْسِهِ غَيْرُهُ، وكَذَلِكَ شَقُّ رَأْسِهِ هَذا وهَذا»» [صحيح البخاري ٧/ ‏١٦٣].

وكذلك استثناء الجزِّ وأنه لا يدخل في القزع لِمَا «روى بكر بن محمَّد عن أبيه عن أبي عبد الله وسأله عن القزع؟ قال: «هو أن يُحلَق بعضُ الشَّعر ويُترَك بعضٌ»، قلت: «والذّؤابة تكرهها؟» قال: «إنَّما الحديث: أن يُحلَق بعضُ الشَّعر ويُترَك بعضٌ، فأمَّا إذا جُزَّ فليس عندي بمنزلة الحلق، وكأنَّه رخَّص فيه». «الوقوف والترجُّل من الجامع لمسائل الإمام أحمد بن حنبل» (رقم: ٢٠٣).

فما توجيهكم شيخنا ـ حفظكم الله ـ في استثناء القُصّة والقفا الوارد في الحديث واستثاء الجزّ مِنَ القزع لكلام الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فما جاء في الفتوى المذكورةِ في السُّؤالِ هو الصَّحيحُ المعوَّلُ عليه؛ عملًا بعموم النَّهيِ عن القَزَع الثَّابِتِ مِن حديثِ ابن عمرَ رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ القَزَعِ» قَالَ [أي: عُمَرُ بنُ نَافِعٍ]: قُلْتُ لِنَافِعٍ: «وَمَا القَزَعُ؟» قَالَ: «يُحْلَقُ بَعْضُ رَأْسِ الصَّبِيِّ وَيُتْرَكُ بَعْضٌ»(١)، وهذا أحسنُ تفسيرٍ للقَزَع وهو: حلقُ بعض الرَّأس مُطلقًا، وبهذا قال مالك ـ رحمه الله ـ عملًا بعموم النَّهي، ولم يُخصِّص منه صغيرًا مِن كبيرٍ(٢)، خلافًا لِمَن فسَّره: بأنَّه حلقُ مواضعَ مُتفرِّقةٍ منه، وكذا مَن استثنى مِن النَّهي القُصَّةَ(٣) والقَفا للغلام وغيرهما على ما ورد في الآثار، لكن يبقى القولُ الأوَّلُ هو الأقوى، قال النَّوويُّ ـ رحمه الله ـ: «والصَّحيحُ الأوَّلُ، لأنَّه تفسيرُ الرَّاوي وهو غيرُ مخالفٍ للظَّاهرِ، فوجبَ العملُ به»(٤)، ويؤيِّدُه ـ بلا ريْبٍ ـ ما صحَّ عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه رأى صبيًّا قد حُلِقَ بعضُ رأسِه وتُرِك بعضُه فنهاهم عن ذلك وقال: «احْلِقُوهُ كُلَّهُ أَوِ اتْرُكُوهُ كُلَّهُ»(٥)، وهذا التَّأكيدُ نصٌ في المسألةِ، فضلًا عن أنَّ القولَ بعموم النَّهي عن القزعِ يوافق حِكمة التَّشريع في تحقيق العدل وإزالةِ الظُّلمِ حتَّى في شأن الإنسانِ مع نفسه، قال ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ: «قال شيخُنا ـ أي: ابنُ تيمية رحمه الله ـ: وهذا مِنْ كمال محبَّة الله ورسولِه للعدل؛ فإنَّه أَمَرَ به حتَّى في شأن الإنسان مع نَفْسه؛ فنَهَاه أَنْ يَحلِقَ بعضَ رأسِه ويتركَ بعضَه؛ لأنَّه ظلمٌ للرأس حيث تَرَكَ بعضَه كاسيًا وبعضَه عاريًا؛ ونظيرُ هذا: أنَّه نهى عن الجلوس بين الشَّمس والظِّلِّ فإنَّه ظلمٌ لبعضِ بدنه؛ ونظيرُه: نَهَى أَنْ يَمْشِيَ الرَّجُلُ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَنْعَلَهُمَا أَوْ يُحْفِيَهُمَا»(٦)؛ والظَّاهرُ أنَّ حُكمَه التحريمُ لِمَا فيه مِنْ حِكمةٍ متمثِّلةٍ في ظُلم الرَّأسِ كما تقدَّم، وتشويهٍ للخِلْقة وتشبُّهٍ بأهلِ الكتابِ ومَنْ في حُكمهم وأهلِ الشَّرِّ والشَّطارة؛ وفي هذا المعنى سأل المروذيُّ ـ رحمه الله ـ الإمامَ أحمد ـ رحمه الله ـ عن حَلْقِ القَفَا فأجابه: «هو مِنْ فعل المَجوس، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»(٧).

قلت: ويستوي الحلقُ والحفُّ والنَّهكُ في النَّهي إذا ما أُخذَ بعضُ الشَّعر وتُرِكَ بعضُه الآخر؛ لعدمِ الاختلاف في معنى الحكمِ مُراعاةً لحِكمة التَّشريع.

 

تنبيه:

يجدر التنبيه إلى أنَّ النَّهيَ عن القَزَعِ يَرجعُ حُكمُهُ إلى التَّحقيقِ في الإجماع الذي نقله النَّوويُّ ـ رحمه الله ـ(٨)، فإِنْ كان الإجماعُ المذكورُ أصوليًّا ونُقِلَ نَقْلًا صحيحًا كان حُجَّةً صارفَةً مِنَ التَّحريم إلى الكراهةِ التَّنزيهيَّةِ، وإن كان الإجماعُ مَذهبيًّا أو لم يُنقَل نقلًا صحيحًا بقي النَّهيُ على حُكمِهِ الأصليِّ وهو التَّحريمُ.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١٨ ذي الحجة ١٤٤٢هـ
الموافق ﻟ: ٢٨ يــوليــــو ٢٠٢١م



(١) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «اللِّباس» باب القَزَع (٥٩٢٠، ٥٩٢١)، ومسلمٌ في «اللباس والزينة» (٢١٢٠) واللَّفظ له، مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهم.

(٢) انظر: «البيان والتحصيل» لابن رشد الجدِّ (١٧/ ٢٧٤).

(٣) قال ابن حجر في [«الفتح» (١٠/ ٣٦٥)]: «القُصَّة بضم القاف ثم المهملة والمراد بها هنا شعر الصُّدغين».

(٤) «شرح مسلم» للنووي (١٤/ ١٠١). وانظر: «مرقاة المفاتيح» للقاري (٨/ ٢١٦).

(٥) أخرجه أبو داود في «الترجُّل» بابٌ في الذُّؤابة (٤١٩٥)، والنَّسائيُّ في «الزينة» باب الرُّخصةِ في حَلْق الرَّأس (٥٠٤٨)، مِنْ حديثِ عبد الله بنِ عمر رضي الله عنهما؛ وصحَّحه النَّوويُّ في «المجموع» (١/ ٢٩٦)، وابنُ كثيرٍ في «إرشاد الفقيه» (١/ ٣٢)، والألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٢١٢).

(٦) «تحفة المودود» لابن القيِّم (١١٤ ـ ١١٥).

(٧) انظر: «اقتضاء الصراط المستقيم» لابن تيمية (١/ ٢٠٥، ٣٩٨).

(٨) «شرح مسلم» للنَّووي (١٤/ ١٠١)، وانظر: «نيل الأوطار» للشوكاني (١/ ١٠٩).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)