أبواب
العموم وأقسامُه

• قال القاضي أبو الوليد -رحمه الله- في عنوان الباب من [ص ١٨٤]:

«أَبْوَابُ العُمُومِ وَأَقْسَامُهُ… وَالكَلاَمُ هَا هُنَا في العُمُومِ، وَلَهُ أَلْفَاظٌ خَمْسَةٌ مِنْهَا».

[م] لم يتعرَّض المصنِّف إلى التعريف بالعامِّ ولا إلى بيان أقسامه، وإنما ذكر صِيَغَ العموم وألفاظَه، وهو أحد أقسام العموم الذي استفيد عمومه من جهة اللغة، إذ اللفظ العامُّ في الوضع اللغوي: إمَّا أن يكون عمومه من نفسه: كأسماء الشرط والاستفهام والمَوْصُولات، وإمَّا أن يكون من لفظٍ آخر دالٍّ على العموم فيه، وهذا اللفظ الآخر: إمَّا أن يكون في أوَّل العامِّ كأسماء الشرط والاستفهام والنكرة في سياق النفي والنهي والاستفهام والامتنان، والألف واللام، وعبارتي «كلّ» و«جميع»، وإمَّا أن يكون في آخره كالمضاف إلى المعرفة مطلقًا سواء كان مفردًا أو جمعًا فهو اللفظ الذي لا يستفاد العموم إلَّا من آخره، وكلّ ما ذكره المصنِّف من ألفاظ العموم لا يخرج عن هذا البيان المتعلّق باستفادة عمومه من جهة اللغة، أمّا بقية أقسام العموم فلم يتناولها المصنِّف، وهي تتمثَّل في العام من جهة العرف وهو: ما استفيد عمومه من جهة عرف الشريعة، مع أنَّ لفظه لا يفيد العموم من جهة اللغة، مثل قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ[النساء: ٢٣]، فإنه لما عين العرف الاستمتاع في المحذوف لزم تعلّق التحريم بجميع أنواع الاستمتاع بالوطء وغيره، وقوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ[المائدة: ٣]، فليس في الآية ما يفيد العموم من جهة اللغة، لكن العرف جعله مفيدًا للتحريم في جميع أنواع الانتفاعات بالأكل وغيره(١). والثالث من أقسام العموم هو: العام الذي استفيد عمومه من جهة العقل دون اللغة والعرف وهو: ما يسمى بالعموم العقلي وهو على أربعة أنواع وهي:

الأوّل: عموم الحكم لعموم عِلَّته كما في القياس.

والثاني: عموم المفعولات التي يقتضيها الفعل المنفي كقوله: «والله لا أكلت»، فإنه يحنث بكلِّ مأكول، فإن صرَّح بالمفعول كان من قبيل العموم اللغوي كما لو قال: «و الله لا أكلت شيئًا».

والثالث: في المفهوم فإنه يثبت الحكم في جميع صور المسكوت عنه سواء على موافقة المنطوق به أو على مخالفته، وهو مذهب جمهور العلماء، كالضرب والشتم وغيرها من المسكوت عنه في تحريم التأفيف في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ[الإسراء: ٢٣]، ولا زكاة في كلِّ ما ليس بسائمة في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَفِي سَائِمَةِ الغَنَمِ الزَّكَاةُ»(٢). هذا ظاهر في مفهوم الموافقة، أمَّا مفهوم المخالفة فالتحقيق أنه لا عموم له في غير جنس المذكور ـ كما سيأتي بيانه ـ(٣).

والرابع: ترك الاستفصال في حكاية الحال مع وجود الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، مثل قوله صلَّى الله عليه وسلَّم لابن غيلان الثقفي وكان قد أسلم وتحته عشرة نسوة: «أَمْسِكْ أَرْبعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ»(٤)، فلم يستفسر منه أَعَقَدَ على أولئك النسوة بعقد واحدٍ في زمنٍ واحدٍ أم بعقود مُتعدِّدة في أزمان مختلفة ؟ فتركه للسؤال عن ذلك يفيد العموم. وكذلك فيما يرجع إلى سؤال السائل عن أمرٍ فإنَّ حكمه له يعمُّ كُلَّ مُكلَّفٍ(٥).

ولعلَّ الأفضل ـ في عنوان المصنِّف ـ إفراد لفظة «أبواب» إلى «باب»؛ لكونه أبلغ من حيث الشمول، والجمع قد لا يشمل الأحكام الخاصَّة، ولأن نفي الفرد يستلزم نفي الجمع ولا العكس، ومن جهة أخرى يقع التوازن مع غيره من أبواب الكتاب، ومن حيث التجانس ـ أيضًا ـ تنسجم لفظة «مسائله» على «أقسامه» ليكون موافقًا لما تحتويه فصول باب العموم، ويكون العنوان على التركيب التالي: «باب العموم ومسائله»، ولعلَّ ذلك هو مقصود المصنِّف من تلك اللفظة(٦).

ـ ومن جهة أخرى فالمصنِّف لم يصدِّر في باب العموم بتعريف لمعناه كما لم يتناوله في «إحكام الفصول في أحكام الأصول» مكتفيًا بما عرفه في كتاب «الحدود في الأصول» بقوله: «العموم: استغراق ما تناوله اللفظ»، وهذا التعريف ليس مانعًا إذ لا يحترز به من أسماء الأعداد، والمطلق، وصيغ العموم التي يكون المقصود بها فردٌ واحدٌ. والأَوْلى تعريف العام بأنه: «اللفظُ المستغرقُ لجميعِ ما يَصلحُ له بحَسَب وضع واحد، دفعةً واحدةً من غير حصر»(٧).

ـ ﻓ «اللفظ» في تعريف العامِّ قيدٌ لإخراج العموم المعنوي أو المجازي؛ لأنَّ الحكم فيه مختلف، مثل قولك: «المطر عام»، فلا يتَّحد الحكم فيه في أماكن نزوله، بخلاف قولك: «أكرم الطلاب» فالحكم فيه متّحد على جميع الطلاب من غير تخصيص أو استثناء، كما يخرج من هذا القيد الألفاظ المركبة التي تفيد العموم بأكثر من لفظ كقولك: «كلام منتشر».

ـ «ما يصلح له» قيدٌ يقصد منه تحقيق معنى العموم والاحتراز من اللفظ الذي استعمل في بعض ما يصلح مثل قوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ[النساء: ٥٤]، فلفظ ﴿النَّاسَ﴾ صيغة عموم ولكن المقصود بها فرد واحد وهو النبي صلَّى الله عليه وسلَّم.

ـ «بحَسَب وضع واحد» ليخرج منه اللفظ المشترك كالعين والقُرْء، فلا يسمَّى عامًّا بالنسبة للجارية والباصرة، وللحيض والطهر؛ لأنَّه لم يوضع لهما وضعًا واحدًا، بل لكلٍّ منهما وضع مستقلٌّ، أمَّا اللفظ العامُّ، فهو: اللفظ الواحد الموضوع لمعنى واحد، هذا المعنى عام شامل لكلِّ أفراده، و لهذا يجب العمل باللفظ العام دون اللفظ المشترك إلَّا بعد وجود القرينة المعيِّنة لأحد المعاني، اللهمَّ إلَّا على رأي من يجوِّز استعمال المشترك في جميع معانيه إن أمكن.

ـ والاستغراق في العامِّ يشمل جميعَ أفرادِه في آنٍ واحدٍ، وهو قَيْدٌ لإخراج المطلق؛ لأنّ استغراق المطلق بدلي لا دفعة واحدة، وقيد لإخراج النكرة منه في سياق الإثبات كقولك: «اضرب رجالًا»، فإنّ استغراقها بدلي يحقّق الضرب في أقلّ الجمع وهو ثلاثة رجال.

ـ «من غير حصر» قيدٌ تخرج منه أسماء الأعداد مثل قوله تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ[البقرة: ١٩٦]؛ لأنَّ الاستغراق في العامِّ لا حدَّ له ولا حصر.

 



(١) انظر: العموم العرفي في «مفتاح الوصول» للتلمساني (٥٠٤) والمصادر الأصولية المثبتة على هامشه.

(٢) هو جزء من حديث طويل وفيه: «…وفي صدقة الغنم في سائمتها، إذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة»، قال ابن الصلاح: «أحسب أن قول الفقهاء والأصوليين في سائمة الغنم الزكاة اختصار منهم». انظر: «التلخيص الحبير» لابن حجر (٢/ ١٧٥). والحديث أخرجه أحمد (١/ ١١)، والبخاري (٣/ ٣١٧)، وأبو داود (٢/ ٢١٤)، والنسائي (٥/ ٢٧)، والبيهقي (٤/ ٨٦)، والحاكم (١/ ٣٩٠)، والبغوي في «شرح السُّنَّة» (٦/ ٣)، من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعًا. والحديث يمكن أن يكون مثالًا للعموم اللغوي باعتبار إضافته إلى معرفة.

(٣) انظر هذه المسألة على الرابط.

(٤) الحديث أخرجه الترمذي (٣/ ٤٣٥)، وابن ماجه (١/ ٦٢٨)، وأحمد في «مسنده» (٢/ ١٣)، والدارقطني في «سننه» (٣/ ٢٦٩)، والحاكم في «المستدرك» (٢/ ١٩٢)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. [انظر: «صحيح الترمذي» للألباني (١/ ٥٧٤)، و«صحيح ابن ماجه» له (٢/ ١٥١)، و«إرواء الغليل» (رقم: ١٨٨٣)].

(٥) انظر العموم العقلي في «مفتاح الوصول» للتلمساني (٥٠٧) والمصادر الأصولية المثبتة على هامشه.

(٦) يوجد تقسيم آخر للعام من حيث مرتبته وسعته يتمثّل في: عام لا أعمّ منه كالمعلوم والمذكور وهو شامل لجميع الموجودات والمذكور، وخاص لا أخصّ منه كالأعيان والأشخاص، وواسطة هي أعمّ مما تحتها وأخص مما فوقها، كالحيوان فإنه أعمّ من الإنسان وأخص من النامي، والنامي أعمّ من الحيوان وأخص من الجسم لشمول الجسم غير النامي كالحجر وهكذا. [انظر «شرح مختصر الروضة» للطوفي (٢/ ٤٦١) و«مذكرة» الشنقيطي (٢٠٤)].

كما يوجد تقسيم ثالث للعام باعتبار بقائه على عمومه أو دخول التخصيص عليه أو إرادة بعض أفراده، فالأول هو العام المحفوظ والثاني العام المخصوص، والثالث هو العام الذي أريد به الخصوص. [انظر: «الفتح المأمول في شرح مبادئ الأصول لابن باديس» (١٢٠)].

ولا يخفى أنّ هذين التقسيمين غير مرادين لاتجاه المصنِّف إلى صيغ العموم وألفاظه وهو العموم اللغوي، وقسيماه ـ في هذا المجال ـ هما العموم العرفي والعقلي.

(٧) انظر: «كشف الأسرار» للبخاري (١/ ٣٣)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (١١٢)، «أصول الفقه» لزكي الدين شعبان (٣٢٢)، «تفسير النصوص» محمَّد أديب صالح (٢/ ٩ ـ ١٠).

 

 

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)