النجاة من العطب بقليلٍ من الأدب | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
السبت 11 شوال 1445 هـ الموافق لـ 20 أبريل 2024 م



النجاة من العطب بقليلٍ من الأدب

خرج الإمامُ ابنُ العربيِّ في صغره إلى المشرق مع أبيه، وكاد البحرُ يومًا يغرقهم، وكاد الجوعُ والبردُ بعد خروجهم مِنَ البحر أن يهلكهم لولا أنَّ الله تعالى بسببٍ طريفٍ أنقذهم، وقد قصَّ الإمامُ ذلك في كتابِه «ترتيب الرحلة» ونقله عنه المقَّري في «نفح الطيب»، ونقلناه عنه لِما فيه من عجيبِ لطفِ الله ونفعِ المعرفة على كلِّ حالٍ في جميع المواطن، قال الإمامُ:

«وقد سبق في علم الله أنْ يَعْظُمَ علينا البحرُ بِزَوْلِهِ (بعَجَبه)، ويُغرقنا بهوله، فخرجْنا خروجَ الميِّت مِنَ القبر، وانتهينا بعد خطبٍ طويلٍ إلى بيوتِ بني كعب بن سليمٍ ونحن مِنَ السَّغَبِ على عطبٍ، ومِنَ العريِ في أقبحِ زيٍّ، قد قذف البحرُ زقاقَ زيتٍ مزَّقتِ الحجارةُ منيئتَها (الجلد أوَّل ما يُدبغ)، ودسَّمَتِ الأدهانُ وبرَها وجلدتَها، فاحتزمْناها أُزُرًا، واشتملْناها ألفافًا، تمجُّنا الأنظارُ، وتخذلنا الأنصارُ، فعطف أميرُهم علينا فأوَيْنا إليه فآوانا، وأطعمنا اللهُ على يدَيْه وسقانا، وأكرم مثوانا وكسانا، بأمرٍ حقيرٍ ضعيفٍ، فنٍّ مِنَ العلمِ ظريفٍ، وشرحُه: أنَّا لمَّا وقفنا على بابه ألفيْناه يُدير أعوادَ الشاه (الشطرنج)، فِعْلَ السامدِ اللاه، فدنوتُ منه في تلك الأطمارِ، وسمح لي بيادقتُه إذ كنتُ مِنَ الصغر في حدٍّ يُسمح فيه للأغمارِ، ووقفتُ بإزائهم، أنظر إلى تصرُّفهم مِنْ ورائهم، إذ كان عَلِقَ بنفسي بعضُ ذلك مِنْ بعض القرابة، في خلسِ البطالة، مع غلبةِ الصبوة والجهالة، فقلتُ للبيادقة: «الأميرُ أعلمُ مِنْ صاحبه»، فلمحوني شزرًا، وعَظُمْتُ في أعينهم بعد أن كنتُ نزرًا، وتقدَّم إلى الأمير مَن نقل إليه الكلامَ فاستدناني فدنوتُ منه وسألني: «هل لي بما هم فيه خبرٌ»، فقلتُ: «لي فيه بعضُ نظرٍ، سيبدو لك ويظهر، حرِّكْ تلك القطعةَ»، ففعل كما أشرتُ، وعارضه صاحبُه كذلك، فأمرتُه أن يحرِّكَ الأخرى، وما زالت الحركاتُ بينهم كذلك تترى، حتى هزمهم الأميرُ، فقالوا: «ما أنت بصغيرٍ»، وكان في أثناء تلك الحركاتِ قد ترنَّم ابنُ عمِّ الأمير مُنْشِدًا:

وَأَحْلَى الهَوَى مَا شَكَّ فِي الوَصْلِ رَبُّهُ * وَفِي الهَجْرِ فَهْوَ الدَّهْرَ يَرْجُو وَيَتَّقِي

فقال: «لعن اللهُ أبا الطيِّب أوَيشكُّ الربُّ»، فقلتُ له في الحال: «ليس كما ظنَّ صاحبُك أيُّها الأمير، إنما أراد بالربِّ هاهنا الصاحبَ، يقول: ألذُّ الهوى ما كان المحبُّ فيه مِنَ الوصال وبلوغ الغرض مِنَ الآمال على ريبٍ، فهو في وقته كلِّه على رجاءٍ لِما يؤمِّله، وتقاةٍ لِما يقطع به، كما قال:

إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الحُبِّ سُخْطٌ وَلَا رِضًا * فَأَيْنَ حَلَاوَاتُ الرَّسَائِلِ وَالكُتْبِ

وأخذْنا نُضيف إلى ذلك مِنَ الأغراض في طرفَيْ إبرامٍ وانتقاضٍ ما حرَّك منهم إلى جهتي دواعِيَ الانتهاضِ، وأقبلوا يتعجَّبون منِّي، ويسألونني كم سنِّي؟ ويستكشفوني عنِّي، فبَقَرْتُ (فتحْتُ) لهم حديثي، وذكرت لهم نجيثي (ما بطن مِنْ أمري)، وأعلمْتُ الأميرَ أنَّ أبي معي فاستدعاه، وأقمنا الثلاثةَ إلى مثواه، فخلع علينا خِلَعَه، وأسبل علينا أدمُعَه، وجاء كلُّ خوانٍ بأفنانٍ وألوانٍ، فانظر إلى هذا العلم (الشطرنج) الذي هو إلى الجهل أقربُ، مع تلك الصُّبابة اليسيرة مِنَ الأدب، كيف أنقذا مِنَ العطبِ؟ وهذا الذكرُ يرشدكم ـ إن عقلتم ـ إلى المطلب (وهو الرغبة في العلم والحرص عليه)».

[«آثار عبد الحميد بن باديس» (٣/ ١٧٧)]