العزَّة الإيمانية | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الخميس 16 شوال 1445 هـ الموافق لـ 25 أبريل 2024 م



العزَّة الإيمانية

طلب رُسْتُمُ من سعد بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه أن يبعث إليه رسولًا يفاوضه قبل أن يبدأ القتالَ في معركة القادسية، فأرسل إليه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، فكان ممَّا قاله لرستم: «إنَّا ليس طلبُنا الدنيا وإنما همُّنا وطلبُنا الآخرةُ»، ثمَّ بعث إليه سعدٌ رسولًا آخر وهو رِبعيُّ بن عامرٍ فدخل عليه وقد زيَّنوا مجلسَه بالنمارق المذهَّبة والحرير، وأظهروا اليواقيت واللآلئَ الثمينة، وقد جلس على سريرٍ من ذهبٍ، ودخل رِبعيٌّ بثيابٍ صفيقةٍ وسيفٍ وترسٍ وفرسٍ قصيرةٍ، ولم يَزَلْ راكبَها حتى داسَ بها على طرَف البساط، ثمَّ نزل وربطها ببعض تلك الوسائد وأقبل وعليه سلاحُه ودرعه، فقالوا له: «ضعْ سلاحك»، فقال: «إنِّي لم آتِكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلَّا رجعتُ»، فقال رستم: «ائذنوا له»، فأقبل يتوكَّأُ على رُمحه فوق النمارق فخرق عامَّتَها، فقالوا له: «ما جاء بكم؟» قال: «الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَتها، ومن جَوْرِ الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسَلَنا بدينه إلى خَلْقه لندعوَهم إليه فمن قَبِلَ ذلك قَبِلْنَا منه ورجَعْنا عنه، ومن أبى قاتَلْناه أبدًا حتى نفضيَ إلى موعود الله»، قالوا: «وما موعود الله؟» قال: «الجنَّة لمن مات على قتالِ مَن أبى، والظفر لمن بقي»، فطلب رستم مهلةَ أيَّامٍ، فلمَّا غادر رِبعيٌّ اجتمع رستم برؤساء قومه فقال: «هل رأيتم قطُّ أعزَّ وأرجح من كلام هذا الرجل؟» فقالوا: «معاذَ الله أن تميل إلى شيءٍ من هذا وتَدَعَ دينك إلى هذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه؟» فقال: «ويلكم لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة».

[«البداية والنهاية» لابن كثير (٧/ ٣٩)]

تنبيه: لا بدَّ من التنبيه هنا إلى أنَّ ما فعله ربعيٌّ نابعٌ من إدراكه أنَّ هذا هو الحكمةُ المناسِبة لذلك الموطن، والحكمةُ وضعُ الشيء في محلِّه، وقد أثمرت حكمتُه ثمرتَها في إظهار عزَّة المؤمن وثباته واستهانته بأعراض الدنيا، لذلك قال رستم لأصحابه: «هل رأيتم قطُّ أعزَّ وأرجح من كلام هذا الرجل؟» ولكنَّ هذا لا يعني أبدًا أن يُظهر المسلم عزَّتَه بهذه الطريقة في كلِّ المواطن، إذ قد يكون ذلك مغايرًا للحكمة في موضعٍ آخر، فيكون ضررُه أكبرَ من نفعه، والداعية طبيبٌ حاذقٌ يشخِّص الداءَ ويصف الدواءَ المناسبَ لكلِّ حالةٍ بعد الموازنة بين المفاسد والمنافع.

[«منهج الإسلام في تزكية النفس» (٢/ ٧٧٤)]